التقوى في الفكر الكنسي
التقوى في الفكر الكنسي
الإيمان في الكنيسة الجامعة
التقوى (εσέβεια) كما نجدها واضحة في الفكر اللاهوتي النيقي، كانت تشير إلى الفهم الأرثوذكسي القويم “للحق” الذي في الإيمان والعبادة المسلَّمة من الرسل. ويتعين علينا أن نقتفي أثر التقوى من خلال العودة إلى الرسائل الرعوية في العهد الجديد، حيث كانت “التقوى” كلمة تدل نوعًا ما إلى ما كان يُشار إليه ب “الطريق” في سفر أعمال الرسل[1]، أي “طريق” الإيمان والعبادة الذي ميَّز الذين اتبعوا المسيح الذي من أجله كان لا بد لهم أن يتألموا.
وكانت السمة المميّزة للتقوى، أنها تجسيد للإيمان أو معرفة “لحق” الإنجيل، في تطابقٍ مع أسلوب الحياة والعبادة في خدمة الله بورع[2]. ومما كان له دلالة هامة، هذا التأكيد الشديد على العلاقة الثابتة (المتلازمة) والمتبادلة بين “التقوى” و”الإيمان” و”الحق”، أي التأكيد على “التعليم الذي هو حسب التقوى”[3]، أو على “التعليم الصحيح”[4] والذي جاء كرد فعل حاد لظهور تحريف للإنجيل على أساس خرافات وظنون عقلية[5].
فبينما اعتُبرت “التقوى” كمرادف “للإيمان” و”الحق”، اعتُبر عدم التقوى مرادفاً لعدم الإيمان والضلال، وكان هذا التباين هو الذي حدد الاسلوب والنمط لصراع الكنيسة مع الهراطقة على مدى الأربعة قرون الأولى.
ومن الواضح أن ما ذكره القديس بولس الرسول من علاقة بين “السر العظيم للتقوى” وبين التجسد، كان هو النص الكتابي الذي تحكَّم في فهم التقوى في الكنيسة الأولى. وكان الرسول يكتب لتيموثيئوس ليُعرِّفه كيف يجب أن يتصرف في بيت الله “الذي هو كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته. وبالإجماع عظيم هو سر التقوى εσεβείας μυστήριον) (τό τς: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد”[6].
فمن جانب نجد في هذا النص الكتابي، أن التقوى تُعَرَّف على أنها النفاذ إلى السر الداخلي للإيمان، وإلى الحقيقة الموضوعية “لإعلان الله لذاته” بالتجسد، في حين على الجانب الآخر نجد أيضًا في النص الحديث عن الكنيسة على أنها تؤيد “الحق” الإلهي وتتمسك به. وإذا عبَّرنا عن هذا المعنى بطريقة عكسية فإننا نقول إن “الحق” الإلهي المُعلن، هو مؤسس وراسخ في حياة البشر وفي المجتمع، بحسب ما يُكشَف ويُؤمَن به وبحسب ما يُعرَف ويُعلّم بوَاسطة الكنيسة، وذلك بأسلوب يدعو إلى التقوى ويقود إليها.
ولذلك (وبحسب هذا النص الكتابي) فإن السر العظيم الذي للتقوى والظاهر جليًّا في يسوع المسيح ونعمته الخلاصية، صار مجسَّدًا ومتضمَّنًا في الكنيسة كقرينها، وهو ما يتمشى مع ما أشار إليه القديس بولس على أنه السر العظيم من نحو المسيح وكنيسته التي هي جسده[7].
وعلى هذا فإن إعلان الله الخلاصي في يسوع المسيح، وقبول وفهم الرسل لهذا الإعلان بإيمان، قد ساهما معًا في تأسيس الكنيسة، حتى أنه وحسب قصد الله “التدبيري” صار “الحق”، كما استُعلن في يسوع، في متناول أيدي الناس من خلال تعليم ووعظ الرسل الخاص بالإنجيل، وبتواصل حي لتقليدهم “التقويّ” في الكنيسة عبر التاريخ.
“وديعة الإيمان” المسلَّمة هي “حياة التقوى حسب الإيمان” أو هي “الحياة حسب جوهر الإيمان أو حسب الحق” هذا بالتأكيد ما كانت تعنيه الرسائل الرعوية ب “وديعة الإيمان” (παραθήκη)، التي استؤمنت عليها الكنيسة لحفظها والدفاع عنها ونقلها في تقوى إلى الآخرين[8].
إن “الإيمان” الذي استؤمنت عليه الكنيسة، في معناه الأَوَّلي، هو الإيمان بيسوع المسيح واستعلانه لنا وعمله الخلاصي من أجلنا، هذا العمل الذي يفسِّر نفسه ويكشف عن نفسه داخل الكنيسة. غير أن “الإيمان” في معناه الثانوي يشير إلى المضمون الإنجيلي للرسالة الرسولية والتقليد، كما هو منقول إلينا من خلال كتاب العهد الجديد ومن خلال الاشتراك في “سر التقوى” في وسط الكنيسة، حيث يستمر المسيح في التعريف بذاته وفي عمله الخلاصي من خلال القوة المنيرة لروحه القدوس.
لذلك ففقط بالاعتماد على الشهادة الرسولية والتعليم الرسولي، وبالاعتماد على المعنى الثانوي الذي ذكرناه “لوديعة الإيمان” (أي الحياة حسب الإيمان)، والذي يعترف ويشير دائمًا إلى يسوع المسيح كرب ومخلِّص، تمكن البشر عبر التاريخ من فهم واقتناء الجوهر (المضمون) العقيدي للإيمان، وهو ما كانت تعنيه منذ البداية كلمة “الوديعة”. وعلى أية حال، فإن كل هذا يحدث فقط داخل التكامل البنياني بين “الحق” و”الإيمان” و”التقوى” في تقليد الكنيسة الحي بكونها جسد المسيح أو بكونها الشكل الأرضي-التاريخي لوجوده في العالم.
وإذا قمنا بمحاولة لتقدير علاقة وتأثير هذا التعليم الإنجيلي على الفكر اللاهوتي النيقي، فإن ذلك سوف يساعدنا على أن ندرك كيف استفادت الكنيسة الأولى منه في الفترة ما بين عصر الرسل ومجمع نيقية، وهو ما نراه منعكسًا على فكر كل من القديس إيرينيوس والعلاّمة أوريجينوس.
وديعة الإيمان في فكر القديس إيرينيوس
لقد كان لدى القديس إيرينيوس إحساس قوي بوجود “حق الإنجيل” (مجسمًا) داخل الأساس الرسولي للكنيسة، كما كان لديه أيضًا إحساس قوي بطبيعة بناء الإيمان المُسلَّم مرة للقديسين والمنقول بواسطة التقليد الرسولي. وقد فهم تعبير “وديعة الإيمان” فهمًا عميقًا، فلم يكن يعتبرها مجرد مجموعة مقولات عقائدية، بل الحق الإنجيلي الموضوعي (المُعاش) الذي يعيد للكنيسة شبابها باستمرار من خلال قوة الروح القدس وهكذا تتجدد روابطها بالمصدر الخلاَّق لكيانها.
كما أن وديعة الإيمان تُشكِّل أيضًا حياة الكنيسة المتواصلة ورسالتها لتكون وفقًا لصورة المسيح ابن الله المتجسِّد وطبقًا لنموذج “الحق” الإلهي المجسَّد فيه[9]. ولذلك فكنيسة يسوع المسيح استلمت إيمانًا “واحدًا وثابتًا على الدَّوام”، لأنه مؤسس على حقيقة المسيح غير المتغيرة، وعلى إعلان الله فيه الذي أُعطي مرة واحدة وللكل[10].
إننا لا نستطيع على الإطلاق أن ندرك الله أو نصفه، لأن عظمته الفائقة وجلاله السامي يفوقان بما لا يُقاس قدرة البشر على معرفته ووصفه كما هو في طبيعته الذاتية. غير أن الله بغير انتهاك لسر جوهره الذاتي قد اختار أن يجعل نفسه معروفًا لنا، وذلك من خلال حركة حب وتنازل فائق اقترب بها إلينا من خلال ظهوره في الجسد في المسيح يسوع، وهكذا جعل نفسه في نطاق المعرفة البشرية[11].
وبهذا المعنى فإن يسوع المسيح يُمثِّل الطريق الموصل بين الله والإنسان، بين غير المرئي والمرئي، بين غير المُدرَك والمُدرَك، بين غير المحدود والمحدود. إذن ففي يسوع المسيح ومن خلال الاتحاد و”الشركة” معه في الحب، فإننا نستطيع أن نعرف الله بطريقة راسخة ومؤكدة، لأن هذه المعرفة تكون مثبتة ومستقرة في حقيقة الله الأزلي[12].
ولم يكن هذا الأمر ممكنًا بدون الدور الذي يقوم به روح الله، حيث في الرب يسوع المسيح ومن خلاله، “عوَّد” الله روحه القدوس أن يسكن في الطبيعة البشرية، وفي نفس الوقت هيأ الطبيعة البشرية لقبول الروح القدس، ومن خلال عطية الروح القدس نستطيع أن نشارك في علاقة المعرفة المتبادلة بين الآب والابن وبالتالي نشارك في معرفة الله وفقًا لما هو في ذاته[13].
وفي الشركة مع الله بالمسيح في الروح القدس، كما فهمها القديس إيرينيوس والتي صارت بالمصالحة وشفاء بشريتنا بواسطة اتحاده بجسدنا تأخذ الكنيسة بالضرورة دورًا هامًّا في تحقيقها، لأن الكنيسة هي التي ائتمنها الله على وديعة الإيمان، وقد أعطى روحه القدوس للكنيسة، وفي الكنيسة منحنا الله خدمة الإنجيل وجميع الوسائط الأخرى التي يعمل الروح من خلالها.
ولذلك استطاع القديس إيرينيوس أن يقول “حيثما توجد الكنيسة فهناك يوجد روح الله، وحيثما يوجد روح الله فهناك توجد الكنيسة وتوجد كل نعمة: لأن الروح هو الحق”[14]. وبينما أشار القديس إيرينيوس إلى الكنيسة على أنها مكان المعرفة الراسخة “للحق”، إلاّ أنه كان يؤكد على أن إعلان الله عن ذاته بواسطة المسيح وفي الروح القدس هو المصدر الحقيقي لمعرفتنا “للحق”[15]. وجاء تأكيده القاطع هذا واضحًا، عندما وبالإشارة إلى كلمة القديس بولس عن الكنيسة بكونها “عمود الحق وقاعدته”[16] تكلَّم بقصد عن “الإنجيل وروح الحياة” على أنه “عمود الكنيسة وقاعدتها”: (στύλος δέ κα στήριγμα κκλησίας, τ εγγέλιον κα πνεμα ζως)[17].
ومن ناحية أخرى، كان إيرينيوس يعتقد أنه فقط في إطار الإيمان الذي استؤمنت عليه الكنيسة والمتضمَّن في التقليد الرسولي، يمكن “للكلمة” الخاصة بالإعلان الإلهي في الكتب المقدسة، أن تُفسَّر بأمانة بدون انحراف أو تجاوزات متجاسرة أو عديمة التقوى، وحينئذٍ يمكن للمسيح ذاته الكنز المخفي في هذه الكتب أن يُعرف معرفة حقيقية[18].
إن معرفة “الحق” الإلهي أو “الحق” الإنجيلي بالنسبة للقديس إيرينيوس لا تُعطى بشكل مجرد أو بشكل منفصل، ولكن تُعطى بشكل واقعي ملموس في داخل الكنيسة، حيث إن هذا “الحق” يجب أن يُفهم داخل إطار الإيمان المُسلَّم للكنيسة من خلال تعليم الرسل، وبالتالي يجب أن يُفهم فقط في الوحدة والعلاقة غير المنفصلة مع الإيمان والعبادة وحياة التقوى لكل من هم متَّحدون (متضمَّنون) في المسيح كأعضاء في جسده.
وقد اعتبر القديس إيرينيوس “الحق” المعلن في الكتب المقدسة على أنه تركيب عضوي أسماه “جسم الحق”، والذي تتمايز في داخله حقائق ومعتقدات متنوعة (كأعضاء هذا الجسم)، ولكنها تكوِّن “كلاًّ متماسكًا” (أي وحدة كاملة متماسكة) ولا يمكن لإحدى هذه الحقائق والمعتقدات أن تنفصل عن هذا الكل، بالضبط كما أنه لا يمكن لأطراف الجسد الحي أن تنفصل عن الجسد دون أن تسبب تدميرًا وتمزيقًا لوحدة هذا الجسد[19].
وبالرغم من ذلك فان المهمة الأساسية التي كلَّف القديس إيرينيوس نفسه بها، كانت إظهار وكشف النظام المتضمَّن في داخل “وديعة الإيمان” وتوضيح الترتيب الداخلي ل “جسم الحق والتوافق المتناغم بين أعضائه”، وذلك بما يتفق مع “قانون الحق” المسلَّم بالتقليد في المعمودية[20]، ليكون كل هذا مرشداً في تفسير الكتب المقدسة. ومن ثم يكون إيرينيوس قد قدَّم عرضًا واضحًا للكرازة الرسولية (kerygma) في مواجهة انحراف وضلال الهراطقة[21].*
وفي هذا الصدد، كان عمل القديس إيرينيوس يعكس بوضوح نشاط الكنيسة العام في القرنين الثاني والثالث في محاولتها لتوضيح المضمون العقيدي للإيمان في ضوء نظامها الخاص القائم على أسس موضوعية، حيث إنه في سياق هذه المحاولة ظهرت صيَغ محددة للإيمان وهي التي أخذت في وضعها النهائي شكل قوانين الإيمان الأولى[22].
ومن الطريقة التي تناول بها القديس إيرينيوس نفسه هذه الصيغ القانونية الأولية للإيمان، يتضح أنها لم تكن افتراضات عقائدية مرتبطة معًا من خلال نظام “منطقي استنتاجي” للتفكير، بل كانت تأكيدات إيمانية منظومة معًا بصورة فائقة لذاتها، بفضل أساسها المشترك في وديعة الإيمان الرسولي، وبالأحرى بفضل إعلان الله عن ذاته في يسوع المسيح، “الحق” الإلهي الواحد المتجسِّد والذي تنبع منه كل الحقائق الإنجيلية.
وبالتالي فإن هذه الصيغ القانونية للإيمان لم يكن الحق الذي فيها نابع منها، بل من ذلك “الحق” الأعلى الذي تشير هي إليه والذي فيه أيضًا تنحصر. وبينما تحدث القديس إيرينيوس عن تلك الصيغ (القانونية) على أنها مرتبطة ب “قانون الحق”، إلاّ أنه أوضح أن قانون الحق الفعلي أو المركز الذي يمكن الرجوع إليه هو “الحق” ذاته[23].
وكان يُنظر إلى هذه التأكيدات (الصيغ) الإيمانية، على أنها تملك قوة ضابطة في ذاتها بقدر صحة انتمائها لذلك “الحق” وبقدر خضوعها لسلطانه الأسمى؛ إذ إن كل معرفتنا عن الله (theology) هي فقط “معرفة جزئية” لأن هناك الكثير الذي يخص الله لا بد أن ندعه له بخشوع، بل إن مجرد التفكير في اقتحامه يعتبر من عدم التقوى[24]. وتكمن أهمية هذه الصيغ ليس في “نوع الكلمات الصحيحة” المستخدمة فيها، بل في إسهامها في إخضاع ذهن الكنيسة لما يستوجبه الحق الإلهي، وفى إرشادها للكنيسة في رسالتها لحماية “الإيمان الرسولي والإنجيلي”، والدفاع عن هذا الإيمان الذي ائتُمنت عليه، لتسلِّمه للآخرين وفقًا “لسر التقوى”.
معرفة الحق والتقوى في فكر أوريجينوس
هذا العرض لما أسهم به القديس إيرينيوس، في كشف البعد اللاهوتي ل “اعتراف الإيمان” الخاص بالكنيسة، يحتاج إلى تكملته بعرض آخر لبعضٍ من مساهمة أوريجينوس الواسعة النطاق في الفهم اللاهوتي والكتابي، والذي كان له أثره البالغ على الكنيسة وحتى مجمع نيقية.
لقد كان أوريجينوس عالِمًا فذًا ودارسًا إنجيليًّا لا يُضاهى في الكنيسة الأولى، ولكنه كان لاهوتيًّا صاحب فكر مُفرط في التأمل رغم إخلاصه ويشعر بضرورة نقل فكره إلى ما هو أبعد من المضمون الحرفي للأقوال الإنجيلية، أي إلى الحقائق الإلهية التي تدل عليها هذه الأقوال.
ورغم أنه كان يشارك القديس إيرينيوس الرأي بأن المرجع الذي يمكن الاستناد إليه في معرفتنا لله هو في النهاية “الحق” ذاته كما هو معلن في يسوع المسيح، وليس في أية صيَغٍ بشرية لمعرفتنا نحن “للحق”[25] إلاّ أنه وبخلاف القديس إيرينيوس عمل من خلال إطار ثنائي للفكر، وهو الفصل الأفلاطوني بين عالم الحسيّات (الأشياء المحسوسة) κόσμος) (ασθητς وعالم المدرَكات (الأشياء التي تُدرك بالعقل) κόσμος) (νοητς [26]، وكان لهذا المنهج الثنائي في التفكير، تداعيات بعيدة المدى لدى أوريجينوس إلى درجة قوله بأن: “الأشياء غير المرئية وغير المادية في السماء هي حقيقية، أما الأشياء المرئية والمادية على الأرض فهي نسخ من تلك الأشياء الحقيقية وليست هي حقيقية بذاتها”[27].
وقد أثرت وجهة النظر هذه بشدة في فهمه للكتب المقدسة، فرأى أنها وسائط وفرتها العناية الإلهية داخل عالم الحسيّات، والتي بواسطتها يُهيئ “اللوغوس” الإلهي اتصاله بالضعف البشرى ويغلف أسرار الإعلان الإلهي في صورة أشكال وأرقام يسهل فهمها، وهذا فقط حتى يمكنه من خلالها (الكتب المقدسة) أن يرفع العقول المؤمنة إلى مستوى أعلى حيث تستطيع فهم الحقائق الروحية أو الإلهية في العالم العقلاني (عالم الأمور الحقائق) البعيد عنهم[28].
ولقد اعتقد أوريجينوس أن المصطلحات البشرية الموجودة في الوحي الإلهي في الكتاب المقدس، تحكمها طبيعة (φύσει) “الحقائق” التي تدل عليها هذه المصطلحات، وأنها ليست مجرد متصلة بها فقط بصورة تقليدية (θέσει). ومن هنا فإن هذه المصطلحات ينبغي أن تُفهم من خلال القبول الإيماني لما تفرضه (καταληπτικός) تلك “الحقائق” على عقل المفسِّر، مما يعني أنه لا بد له من أن ينهمك في بحث دقيق للتأكد من أن هذا القبول الإيماني (لمعاني المصطلحات) يتفق بالفعل مع الحقيقة[29].
هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فقد أصرَّ أوريجينوس على أن التفسير الروحي للكتب المقدسة طبقًا للطبيعة الروحية لهذه “الحقائق”، لا بد وأن يَعبر في الفكر من مستوى أدنى للمعنى “المادي” أو الحرفي إلى مستوى أعلى للمعنى “الروحي” أو السري حيث تشرق الحقيقة بنورها العقلاني والشاهد لذاته[30]. إلاّ أن هذا (العبور) يحتاج إلى قدر كبير من التدريب الروحي للعقل علي البصيرة اللاهوتية (θεωρία) ونوع من الحس الإلهي (θεία ασθησις) يتناسب مع معرفة الله[31].
هذا الجمع بين البحث الدقيق والتدريب الروحي كان سمة مميزة جدًّا لأوريجينوس، رغم علمه بالمخاطر التي ينطوي عليها هذا الاتجاه، والذي قاده للفصل بين الإنجيل “الجسدي الحسي” وبين الإنجيل “الروحي الفكري”، أو بين ما يُسمى بالإنجيل “الزمني” وما يُسمى بالإنجيل “الأبدي”, والذي اعتقد أوريجينوس أنه يوازي الفرق بين مجيء المخلِّص في حالة “التواضع” عندما أخذ شكل العبد من أجلنا، وبين مجيء المسيح في المجد في المستقبل عندما ستفسح ظلال “الإنجيل الزمني” المجال للحقائق المطلقة التي “للإنجيل الأبدي”[32].
وينتج عن هذا، اعتبار المسيح الذي جاء في التاريخ على أنه هيئة مشروطة بفترة زمنية محددة، والذي فيها ينتقل “الحق” الأبدي إلى المخلوقات الساقطة، ولكن بمجرد أن تتم معرفة هذا “الحق” الأبدي، فإن ذلك الوسيط “التاريخي” سوف يكون وجوده نسبيًّا[33].
وكان هذا هو السبب وراء تأكيد أوريجينوس على أهمية “التفسير المجازي” وعلى غرس “الإحساس” الروحي نحو الله، والذي قد يساعد المؤمن على اختراق قشور وظلال الإعلان “التاريخي الزمني” والوصول إلى حقائق الله الأبدية “غير المرئية” والتي يمكن فهمها فقط بأسلوب بسيط ومباشر ولا يمكن التعبير عنها بكلمات بشرية[34].
هذا الامتداد التأملي للعقل الروحي، إلى ما وراء مجال المعرفة الذي يخضع لمعايير الحقيقة التي عملت بها العلوم والفلسفة اليونانية[35] كان بدون شك أمرًا خطيرًا، ولكن بالرغم من ذلك كان أوريجينوس منبهرًا به وبالأخص لأنه ارتبط برجال الله في العهد القديم مثل ملكي صادق رائد العبادة السماوية، أو موسى الذي تكلم مع الله وجهًا لوجه، أو حين ارتبط باختبار التلاميذ على جبل التجلي أو ما كتبه القديس بولس عن اختباراته المجيدة، والتي تشير جميعها إلى نوع من الرؤية السامية لله والتي من الممكن أن تكون مفتوحة أمام “البصيرة الصوفية التي تفوق التعبير”[36].
وثمة جانب آخر لاسلوب أوريجينوس ضمن لفكره اللاهوتي (θεολογεν) الحماية ضد التحول للفكر الأسطوري الخيالي (μυθολογεν)، كما وفَّر إطارًا معياريًّا للإيمان والعبادة يساعد على جعل “معرفة الله” كمركز للحياة وللتقليد الحي الذي “للكنيسة العظيمة”، وهذا (الجانب الآخر) هو الذي كان يفرض على أوريجينوس أن يعمل بالأسلوب الذي فيه يؤثر “البحث الدقيق” و”التدريب على التقوى” كل منهما على الآخر.
وطبقًا لمفهوم “المعرفة العلمية” (πιστήμη) الذي قد ساد طويلاً في الإسكندرية، وهو أن المعرفة الصحيحة هي التي تكون وفقًا لطبيعة (κατά φύσιν) الشيء الذي تجري معرفته، فقد ركز أوريجينوس على تطوير طريقة لمعرفة الله تكون متمشية تمامًا مع طبيعة الله كما قد أعلنها لنا بنفسه، أي طريقة تتسم بالتقوى؛ فقد هيأ نفسه لتنمية التقوى الشخصية بالاعتماد على نعمة المسيح وقوة روحه القدوس، حتى يستطيع أن يعوِّد العقل على التقوى التي تلائم معرفة الله.
إذن فإن “معرفة الله” والتي في معناها الدقيق هي “معرفة الثالوث القدوس”، و “التقوى الإلهية“ التي تُحدد بواسطة يسوع المسيح ابن الله المتجسِّد، قد اعتبر أوريجينوس أن كلاًّ منهما متوقف على الآخر، وذلك في مجال (عملية) تعميق البحث اللاهوتي[37].
فكلما عُرف الله بحق وفقًا لطبيعته، زاد مستوى التقوى؛ وكلما زاد مستوى التقوى، زادت إمكانية معرفتنا لله بصورة تقوية تليق بطبيعة الله[38]. وعمومًا فإن “الهدف هو أن نقترب من “الحق” على قدر المستطاع وأن نشكِّل إيماننا طبقًا لقاعدة التقوى”[39]. وهكذا صارت “التقوى” و “قانون الحق” متكافئين عمليًّا.
ولقد كان أوريجينوس يفكر ويعمل في إطار احترامه البالغ للكتب المقدسة وإخلاصه “الكهنوتي” لكلمة الله وحق الله اللذين تنقلاهما لنا هذه الكتب[40]، والتي رأى أوريجينوس أنها يجب أن تُبحث على أنها من نتاج وحي الروح القدس، كما يجب أن تُفسَّر وفقًا “لسمتها الإلهية” بطريقة ورعة ووقور إدراكًا منا أن لها من عمق المعنى ما يفوق إدراك البشر مما لا يدع مجالاً للفهم المتسرع[41].
فالكتب المقدسة في صميم طبيعتها تستلزم الدراسة العميقة والتأمل والصلاة والجهد الشاق[42]، وهذا هو بالضبط ما أظهره أوريجينوس نفسه في إنتاجه الضخم من التفاسير الإنجيلية، التي تشهد شهادة رائعة على معالجته للنص بضمير حي في كل تفاصيله اللغوية والنحوية الدقيقة، كما تشهد أيضًا على بحثه الدؤوب لتوضيح الملابسات والخلفيات التاريخية التي قد تؤثر على المعنى، ولكنه سعى أيضًا لتوضيح مدى تأثير الإعلان الإلهي الكتابي بأكمله وكل تقليد الإيمان والفهم المسيحي في الكنيسة، مدى تأثير كل هذا على كل سفر وكل فقرة في الكتاب، وبذلك يمكن أن تُفهم الكتب المقدسة بقدر المستطاع خارجًا عن نفسها في ضوء القصد الإلهي الذي احتوته هي وأظهرته في ترابطها وتواصلها الداخلي[43].
وبما أن الكتب المقدسة هي نتيجة وحي الروح القدس بإرادة من الآب وبواسطة يسوع المسيح*، وبما أن “كلمة” الله الذي يتكلم في كل الكتب المقدسة قد تجسَّد في شخص يسوع المسيح، لذلك فإن يسوع المسيح ذاته هو الذي يشكِّل المحور الحاكم لكافة التفسيرات الصحيحة للكتاب المقدس.
وقد ذهب أوريجينوس إلى القول بأن تفسير الكتاب المقدس، وحتى الأناجيل، بهذه الطريقة أي من خلال وجود وحضور “فكر المسيح” يعني الحفاظ على “قانون كنيسة يسوع المسيح السماوية متمشيًا مع التعاقب الرسولي”[44]، فيسوع المسيح هو نفسه الذي أعطى للمسيحيين تعريفًا للتقوى الحقيقية[45] لأنه هو نفسه “سر التقوى العظيم الظاهر في الجسد” والذي في نفسه ومن خلال نفسه حقَّق التلاقي بين تنازل الله الكريم إلينا واقترابنا نحن إلى الله، أي بين كُلٍّ من إعلان الله عن ذاته لنا ومعرفتنا نحن لله وعبادتنا له[46].
إذن ففي كل بحث عن “الحق” ينبغي علينا أن نجاهد أكثر وأكثر لكي نحافظ بكل الطرق على موقف التقوى نحو الله ومسيحه[47]. ولكي نكون أمناء “لفكر المسيح” في كل تفسيرنا للكتب المقدسة “فإننا لا بد أن نحافظ على قانون التقوى”[48].
ومن المهم جدًا أن نلاحظ أنه بالنسبة لأوريجينوس، كانت “التقوى” تُعرَّف وتتحدد ليس فقط بكونها “بحسب يسوع المسيح” (κατ Іησον Хριστόν) بل أنها “من خلال يسوع المسيح نفسه” (δι Іησο Хριστ)، من جهة علاقته الفريدة بالآب كابن الله وأيضًا من جهة علاقته الفريدة بنا كرئيس كهنتنا الذي فيه ومن خلاله نعبد الآب[49].
وإذ هو بذبيحته يشفينا، ويطهرنا بقدرته الإلهية الذاتية، لذلك نحن نعبده كما نعبد الآب، لأنه هو والآب واحد. ولكن لأنه هو أيضًا في نفس الوقت واحد معنا كما هو واحد مع الآب، فنحن نصلي له “كوسيط لنا وكرئيس كهنة وكشفيع” طالبين منه أن يقدِّم رغباتنا وتوسلاتنا وتشفعاتنا التي نرفعها إليه إلى الآب، وهكذا فإننا نعبد الآب ونحن في اتحاد به ومن خلاله.
وكابن الله المتجسِّد وكرئيس كهنة، فإن يسوع المسيح قد عرَّف الجنس البشري الطريقة النقية لعبادة الله وهذه هي التقوى الحقيقية التي بها يثبت إيماننا وفهمنا في الله[50].
ومما لا شك فيه أن ما كتبه أوريجينوس عن عبادة الآب التي مركزها المسيح والتي يتوسط فيها المسيح، إنما يعكس الفكر السائد للكنيسة في إيمانها القائم على التقليد الحي، وفي خدمتها لأجل خلاص الجنس البشري: حيث كان الانبهار المصحوب بالتوقير في معرفة الله، والشكر والتسبيح لأجل أعمال الله الخلاصية في تجسد يسوع المسيح وموته وقيامته، وأيضًا التقوى في القول والفعل، كل هذه مُضفَّرة معًا وملتحمة بغير انفصال في عبادة الكنيسة كما يتضح ذلك في ليتورجية المعمودية والإفخارستيا[51].
وكان تقديس اسم الله، والتفكير فيه والتكلم عنه بصورة لائقة، وكذلك التوقير العميق لكشف الله لذاته كآب وابن وروح قدس هذه كلها كانت من العلامات الجوهرية “للفكر المسيحي” بل وكما اعتقد أوريجينوس “للفكر الكنسي”، وذلك نتيجة البصمة التي تركها الرسل عليه. لذلك فعندما شرع أوريجينوس في إعداد وطبع مؤلف عن المبادئ الأساسية للإيمان، بقصد زيادة الترتيب والتناغم في فهم العقيدة المسيحية، وضع أولاً “خطًّا محددًا وقاعدة واضحة”، وهى أن شرح الإيمان ينبغي أن يبقى داخل حدود تعليم الكنيسة المتفق عليه بالإجماع كما تسلَّمته من الرسل، وذلك في ضوء العقائد التي اعتبرها الرسل ضرورية للغاية.
ولكن بالنظر لاحتمال حدوث الخطأ والاختلاف في الرأي فيما بعد، شعر أوريجينوس أنه يتعين عليه المزيد من البحث في “دوافع وخلفيات الأقوال التي وعظ بها الرسل عن الإيمان بالمسيح” أملاً في تأسيس القاعدة الأولية للإيمان المسيحي، ومن ثم يحدد الارتباطات المنطقية “للحق” المعلَّن، وذلك لبناء كيان متماسك وثابت للعقيدة المسيحية[52].
وفي خلال مشروعه هذا والذي كان الأول من نوعه، سعى أوريجينوس لإدراك “الحق” الإلهي بكل ما أوتي به من إخلاص، وكان يحرص خاصةً بالنسبة “للنقاط الأكثر صعوبة” على أن يسترشد بقانون التقوى، أي قاعدة البر. وكان يسمح فقط باستخدام المفاهيم اللاهوتية التي يشعر أنها تليق بالله والمصوغة طبقًا لما يتطلبه ويحتِّمه كيان الله وطبيعته الفائقة الإدراك.
ونتيجة لشدة افتراضاته الفلسفية المسبقة، والتي لم يخضعها بصورة كافية للنقد وعلى الرغم من التزامه بما أعلنه الكتاب المقدس فإن فكر أوريجينوس التأملي تجاوز قاعدة التقوى في عدد من النقاط الحاسمة، مما أدى إلى اصطدام تعليمه مع فكر الكنيسة الجامعة.
ومع ذلك فإن أوريجينوس، بجمعه بين البحث العلمي لأسس الإيمان الموضوعية والإصرار على مراعاة مبدأ التقوى (εσέβεια / θεοσέβεια) في معرفة الثالوث القدوس، كان له تأثير بالغ على اللاهوتيين في نيقية وما بعد نيقية، حيث أصبح المبدأ الفعَّال فيما بينهم هو ما عُرف فيما بعد بقانون التقوى – قانون الإيمان (lex orandi – lex credendi)[53].
دور التقوى في حفظ الإيمان
وعبر تاريخ الكنيسة، قُدِّمت مرارًا وتكرارًا أفكار عن الله ناتجة عن تجاسر وعدم توقير، وقد رفضتها الكنيسة بصورة بديهية بسبب احترامها العميق لسر الله وجلاله، هذا الاحترام العميق الذي كان قد تأسس ونما داخل نسيج الإيمان بواسطة الصلاة والعبادة.
وكان هذا هو بالضبط ما حدث بسبب الهرطقة الأريوسية في فترة حرجة من تاريخ الكنيسة، حيث شككت هذه الهرطقة في وحدانية الثالوث القدوس بإصرارها على أن الابن مخلوق، وبالتالي فصله عن جوهر الآب وإدخال نوع من التضارب في الألوهية. وكان رد فعل الأساقفة بنيقية هو الفزع الشديد لتلك الإهانة التي إنما تنم عن “عدم التقوى” و”عدم الورع” (ασέβεια) الأريوسي، وهذا قد جعلهم يقدمون ضد تلك البدعة “مجادلات تتسم بالتقوى” (πόδειις εσεβείας)[54].
وقد أخبر القديس أثناسيوس أساقفة مصر بأنه عندما كان يدوِّن تعبيرات الأريوسيين المنحرفة والعديمة التقوى، كان يتعين عليه أن يطهر نفسه بالتفكير في عكس هذا الاتجاه تمامًا، وأن يتمسك “بذهن التقوى” (τν τς εσεβείας διάνοιαν)[55].
وبالإشارة إلى حقيقة أن مجمع نيقية اضطر إلى استخدام التعبير غير الكتابي (أي الذي لم يرد في الكتاب المقدس) “هوموأووسيوس” (μοούσιος) لشرح ما كان يعنيه الكتاب المقدس في حديثه عن المسيح (بكونه كابن) “ل الله” أو “من الله”، أوضح القديس أثناسيوس أنه لا يهم إذا استخدم المرء أو لم يستخدم تعبيرًا غير كتابي طالما أن له “ذهن تقوّي” (εσεβ τν διάνοιαν)، كما أوضح القديس أثناسيوس أيضاً حقيقة أن الآباء بنيقية كانوا بعيدين كل البعد عن التحدث عن المسيح بدون توقير، فهم تحدثوا عنه بوقار “وبذهن متسامٍ وتقوى تنم عن محبة للمسيح”
(υψηλ διάνοια κα φιλόχριστος εσέβεια). [56]
وفي فترة لاحقة، عندما تجاسر بعض رجال الكنيسة من دعاة الأريوسية على القول بأن الروح القدس مخلوق، وتجرأوا على إخضاع العلاقات الداخلية للثالوث القدوس حيث “يبسط الشاروبيم أجنحتهم للتغطية” للفحص الوقح، قدَّم القديس أثناسيوس حججًا مضادة بنفس أسلوب نيقية (الورع)، وكان يفعل هذا بروح التقوى المتمركزة حول المسيح. فالتعليم الذي سبق أن سُلِّم يجب أن يُقبَل بخبر الإيمان، ويجب أن يُشرَح “بنمط فكري يتسم بالتقوى” (εσέβε λογισμ μετ ̉ ελαβείας)[57] وليس بمجادلات لغوية تفتقر للوقار.
وكان القديس أثناسيوس يصرُّ دائمًا على أن إطاعة الإيمان تؤدي إلى أسلوب شرعي في التفكير والتحدث عن الله، وذلك بفضل الاتزان الداخلي الذي يتولد نتيجة عبادة الله. ففي كل محاولة للفهم وإعطاء تعبير عن أسرار الإيمان، يكون المطلوب هو انضباط خشوعي وترتيب للعقل وصل إلى حالة الانسجام “بواسطة صلاة دائمة لله، ومعرفة تتسم بالتقوى، وتضرعات مقدمة ليس بشكل عرضي ولكن بتسليم كامل للقلب”.
هكذا يمكن أن يكون الدخول إلى الله، والذي فيه الإيمان والتقوى كل منهما يحكم الآخر في معرفتنا لله “لأن (كلمتي) الإيمان والتقوى مرتبطتان، وهما أختان: فمن يؤمن بالله لا ينفصل عن التقوى، ومَن يملك التقوى فهو حقًّا يؤمن”[58].
وقد لعب نفس مبدأ (lex orandi – lex credendi) أي “قانون التقوى قانون الإيمان” دورًا هامًّا في فكر القديس هيلاري، وكما قد رأينا فإن القديس هيلاري كانت تزعجه بالأكثر الطريقة التي استغل بها الهراطقة “المجال المفتوح” للإيمان لإقحام أفكارهم الخاصة الوقحة في معرفة الله، كما أقلقه أيضًا في الرد على الهراطقة الحاجة إلى فكر لاهوتي مستقيم (أرثوذكسي)، لصياغة اعترافات محددة أبعد من تصريحات الكتاب المقدس عن أمور هي في الأساس تفوق الوصف.
واعتقد القديس هيلاري أنه في هذه الظروف، ينبغي علينا أن نعتمد على ذلك النوع من الإدراك والفهم لله، المتضمَّن في الإيمان الذي يزداد بالعبادة، كما نعتمد على تلك العبادة التي يدخلنا فيها الله بنفسه؛ إذ إننا قد أُعطينا قدومًا إلى الآب من خلال الابن[59]. فإننا مهما حاولنا تطويع لغتنا لتعرب عن عظمة الله، فهي تبقى قاصرة بصورة لا حد لها في التعبير عن “ماهية الله” في كيانه وطبيعته السرمدية. ولكن رغم هذا فإن لغتنا يمكن توجيهها والتحكم فيها من جانبنا بواسطة أعمال العبادة الرئيسية التي يطلبها الله منا، من خلال إعلانه عن ذاته في الإنجيل.
وهكذا فإن القديس هيلاري عمل بمفهوم للإيمان مؤسس على التقوى الإنجيلية، وبمفهوم للتقوى التي تتسع بالإيمان بحقيقة الله التي لا تستنفذ. وفي هذا يقول القديس هيلاري: “ينبغي علينا أن نصدِّقه وندركه ونعبده وأن نسمح لأعمال العبادة هذه أن تكون الطرق الأساسية التي نتحدث بها عن الله”[60].
وبهذا الأسلوب لم يكن القديس هيلاري يعني أن نرتد في ذعر أمام جلال الله الفائق الإدراك، ونتراجع تمامًا إلى التوقير القلبي الصامت (فقط)، ولكن بالأحرى كان يعني أننا يجب أن نفكر في الله، فقط بالطريقة التي بها ندرك أنه يفوق بصورة لا نهائية إمكانيات الفكر والكلام البشرى؛ إذ يجب أن نجعل عبادتنا لله من خلال الابن والذي فيه ينكشف سر الآب غير المدرك هي التي تحكم كل ما نعترف به في الإيمان أو ما نعبِّر عنه في صياغات لاهوتية[61].
لأن الفكر اللاهوتي، كما سعى فيه القديس هيلاري نفسه، لا بد أن يمتزج ويتشابك مع الصلاة بصفة دائمة، حتى إنه في كل محاولاتنا للتعبير عن إيماننا واعترافنا بإله واحد الآب، ورب واحد يسوع المسيح حسب ما قد تعلمناه بالأنبياء والرسل فإن الله سوف يهبنا ما نريده من معنى في اللغة، ونور في الفهم، ووقار في التعبير والعرض، وإخلاص وأمانة للحق[62].
كيف تشكَّلت البصيرة اللاهوتية في الكنيسة في القرن الرابع؟
في كل ما سبق، كنا نفحص بعمق في الطريقة التي يجب بها البحث في جذور قانون الإيمان النيقي، في محاولة للعودة إلى ما كانت عليه الأمور عند التأسيس الرسولي للكنيسة، حين صار الإيمان الخلاصي بالله الآب والابن والروح القدس مصوغًا (مجسمًا) فيها مرة وإلى الأبد.
وأيضًا كنا نبحث في الطريقة التي بدأ فيها هذا الإيمان يكشف عن محتواه اللاهوتي وهو في طريقه للوصول إلى قانون نيقية، مسترشدًا بالأساس الإنجيلي للتقليد الرسولي العامل في حياة الكنيسة الجامعة في القرون الأولى وفي رسالتها وعبادتها حيث اتضح هذا الأساس في طريقة تفسير الكنيسة للكتب المقدسة وفي طريقة تعبيرها عن التعليم المسيحي.
ولقد وجدنا في هذه القرون تقليدًا متواصلاً يتميز بكون الإيمان والتقوى والفهم والعبادة مضفَّرة معًا بعمق، تحت التأثير الخلاَّق للقناعات الإنجيلية التي انطبعت في ذهن الكنيسة، في التزامها بإعلان الله عن ذاته بواسطة الابن المتجسِّد وفي الروح القدس. وهذه القناعات المصحوبة بتنسيق وترتيب للعقل مركزه المسيح، ظلت تتولد وتُغذَّى معًا داخل الحياة والشركة المتنامية للكنيسة من خلال التأمل المنتظم في الكتب المقدسة والمشاركة في العبادة الليتورجية.
وهذا هو الذي كوَّن القالب الذي تشكَّلت داخله البصيرة اللاهوتية والرأي الذي يتصف بالتقوى، واللذان ساهما في تحديد صياغة أكثر رسمية للمعتقدات في داخل حدود ما طالب به المسيح الكنيسة من طاعة وخدمة.
ومن هنا برز إطار فهم عام للحياة والتقوى، وإطار خاص تحددت فيه المعتقدات التي نشأت من المعمودية المقدسة ومن خلالها، و”المتضمَّن فيها كل جوهر الإيمان بالثالوث” على حد تعبير القديس أثناسيوس[63].
وفي إطار هذا الفهم وعمله المعياري، ومع الرجوع المستمر للإعلان الإلهي في الكتب المقدسة، فإن فهم الكنيسة وصياغتها “للحق” الإنجيلي أخذ يتسع ويتعمق. ولذلك حدث في الكنيسة الجامعة في فترة ما قبل نيقية، تعمق متزايد داخل بناء مفاهيم الإيمان المسيحي، والذي بالرغم من أنه أخذ يتزايد في الفهم والدقة إلاّ أنه كان لا يزال في نطاق “المقدمات” لمعتقدات الكنيسة النهائية المتضمنة في وديعة الإيمان الرسولي.
تطابق “العقيدة الداخلية” و”العقيدة المعلَنة” في مجمع نيقية
ومن الجدير بالذكر أنه عندما بدأت تظهر صياغات صريحة للعقيدة نابعة من “كيان متكامل” للإيمان الرسولي، فإنها عادة ما كانت تحتوي على “عبارات عن “الكنيسة”، وهو ما نجده قد ترسَّخ نهائيًّا في الصورة الناضجة ل “قانون الرسل” و”قانون نيقية”[64]، وهذا يعبِّر عن حقيقة أنه عندما تبلورت القوانين الرسمية، فإنها ظلت مرتبطة بالتركيب الضمني الداخلي للإيمان و”المجسم” في الأساس الرسولي للكنيسة، وبالتالي كانت هذه القوانين ستصبح معيبة للغاية لو أنها جُردت من هذا الارتباط.
وهكذا فإن التكامل العميق بين العقيدة الداخلية (الحياة التقوية الداخلية التي بحسب جوهر الإيمان) والعقيدة الصريحة المعلنة (الصياغة المحددة للإيمان) لم يكن منسيًّا أبدًا، بل أن هذا التكامل قد تم تحويله إلى اعتراف كامل للإيمان الجامع.
ورغم أنه في مجمع نيقية نفسه لم تُدرج عبارة صريحة عن الكنيسة في قانون الإيمان، إلاّ أن إعطاء الشكل القانوني الواضح والمحدد للإيمان، كان معروفًا أنه اعتمد على ما كانت تؤمن به الكنيسة الجامعة على الدوام، وما عرفته بالبديهة أنه “حق”[65]. ومن خلال هذا النوع من الصياغة الرسمية، فإن كل جسم “الإيمان الداخلي” المضمر في التقليد الرسولي للكنيسة قد تم تدعيمه وإمداده بالشكل “النظامي” الذي وسّع في قوته الضابطة داخل حياة الكنيسة ورسالتها.
وكان هذا كله يعتمد على مبدأ “معرفة الحق بحسب التقوى”[66] الذي تضمَّنه ميراث الكنيسة، والإحساس الفطري بالله الذي انطبع في ذهن الكنيسة بواسطة الإعلان الإلهي؛ كما اعتمد أيضًا على بصيرة معطاة كعطية إلهية لإدراك العلاقات الفائقة في الله بكونه آب وابن وروح قدس، وهو الذي ينبغي له السجود والتعبد أكثر مما ينبغي التعبير عنه.
[1] أع 2:9؛ 9:19، 23؛ 4:22؛ 14:24، 22.
[2] 1تي 2:2؛ 16:3؛ 7:4، 8؛ 3:6، 5؛ 2تي 5:3؛ تي 1:1؛ 2بط 3:1، 6؛ 11:3.
[3] 1تي 3:6؛ تي 1:1؛ 2 تي 7:3.
[4] 1تي 3:6؛ 2تي 13:1؛ 3:4؛ تي 9:1، 13؛ 1:2.
[5] 1تي 4:1؛ 7:4؛ 3:6-6؛ 2تي 4:4؛ تي 14:1؛ 2بط 16:1.
[6] 1تي 15:3-16؛ وعلى سبيل المثال: Hilary, De Trin., 11:9.
[7] أف 32:5.
[8] 1تي 20:6؛ 2تي 12:1؛ 2:2، 4؛ 3:4؛ تي 9:1، 13؛ 2تس 15:2؛ 6:3؛ غل 9:1؛ 2:2، 9؛ 1كو 23:11؛ 3:15؛ 2كو 3:11؛ رو 17:6؛ 1تي 6:4؛ عب 1:3؛ 14:4؛ 23:10.
62 Irenaeus, Adv. haer. (edit. By Harvey, 1897), 3. praef., 1-5, vol. 2, pp. 22ff; 3.38.1, pp. 131f; 4.40.2, p. 236. for this and what follows see, T.F. Torrance, ‘The Deposit of Faith’, Scottish Journal of Theology, 1983, vol. 36.1, pp. 1-28.
63 Irenaeus, Adv. haer., 1.3, vol. 1, p.94; 3.1-4, vol. 2, pp. 1ff; 3.11.1, p.47; 3.12.9, p.62; 4.4ff, pp. 234ff; 5.20, pp. 377ff.
64 Irenaeus, Adv. haer., 2.15.4, vol. 1, pp. 282f; 2.39.1f, pp. 345f; 2.40-43, pp. 349-358; 3.38.1f, vol. 2, pp. 131f; 4.22.2, p. 178; 4.34.4, pp. 215-219.
65 Irenaeus, Adv. haer., 3.11f, vol. 2, pp. 43f; 3.17.6, p. 87f; 4.6, p.153; 4.11.1-5, pp. 158-162; 4.34.1, 4-6, pp. 212, 215f; 4.6.1, p. 291; 5.praef., 1-2, pp. 313ff; 5.27.2, pp. 398f.
66 Irenaeus, Adv. haer., 2.3.7, 1-4, vol. 1, pp. 342-344; 3.6.2, vol. 2, pp. 22f; 3.18.1, p. 92; 3.19.6, pp. 100f; 3.21.2, p. 107; 4.11.1-5, pp. 158-162; 4.34.5, 7, pp. 210, 218f.
67 Irenaeus, Adv. haer., 3.38, vol. 2, p. 132.
68 Irenaeus, Adv. haer., 3.38.1-2, vol. 2, pp. 131f; 4.53.1f, pp. 261ff; 5.20.1, pp. 378ff.
[16] اتي 15:3.
70 Irenaeus, Adv. haer., 3.11.11, vol. 2, p. 47.
71 Irenaeus, Adv. haer., 1. praef., vol. 1, pp. 1ff; 1.15, p. 67; 1.1.19-4.1, pp. 80-97; 2.7-9, pp. 271-274; 2.40-43, pp. 349-358; 3.1-5, vol. 2, pp.1-20; 3.38, pp. 131-3; 4.40-42.1, pp. 234-238; 4.53-54, pp. 261-264; 5. praef., pp. 313f; 5.20.1f, pp. 377ff.
72 Irenaeus, Adv. haer., 1.1.15, vol. 1, pp. 66f; 1.18, pp. 80ff; 2.40-45, pp. 347-358.
73 Irenaeus, Adv. haer., 1.1.14, vol. 1, p. 67; cf. 1.1.20, pp. 87ff; 1.3, pp. 93f; and Tertullian, De virg. vel., 1.
74 Irenaeus, Adv. haer., 1.19f, vol. 1, pp. 80-90; 2.37-43, pp. 342-358; 3.12.11, vol. 2, p. 65; 3.38, pp. 131f; Dem., 1-6.
* كان للهراطقة منهج مخالف لهذا المنهج في تفسير الكتاب المقدس. (المترجم)
75 Irenaeus, Adv. haer., 1.2, vol. 1, pp. 90f; 3.1f, 4, vol. 2, pp. 2ff, 25ff; 4.1, pp. 146ff; 4.53. 1, pp. 261f; 5.20.1, pp. 377f; Dem., 6.
76 Irenaeus, Adv. haer., 2.41, p. 349.
وهذه النقطة ذاتها كان القديس كليمندس السكندري قد طرحها عندما تكلم عن “النفاذ إلى الحق عن طريق أخذ قانون الحق من داخل الحق ذاته” – Strom, 7.16.
77 Irenaeus, Adv. haer., 2.15.3f, vol. 1, pp. 282f; 2.41ff, pp. 349-358.
78 Origen, De prin., praef., 1.2, 6.
وكان أوريجينوس قد تكلم عن المسيح بكونه “الحق الذاتي” أو “الحق ذاته” انظر:
In Jn., 6.6; cf. 1.27; 2.4; and Con. Cel. 8.12.
79 See especially Origen, In Jn. 1.25-28 with 1.8.
80 Origen, In Cant. 2; Con. Cel., 7.31, 376.
81 Origen, In Jn. 1.7; In Matt., 10.1; In Deut., 1.21; In Jer., 18.6; Con. Cel., 4.71, etc.
82 Origen, Con. Cel., 1.2, 9f, 13, 24f, 42, 71; 3.23, 39, 42, 86; 4.2; 5.45; 6.27; 7.10; De prin., 4.3.16.
83 Origen, De prin., 1.1.1f; 1.3.3; 2.2.2; 2.4.4; 2.5.2; 2.7.2; 2.11.2ff; 3.5.1; 3.12.4; 4.2.1ff, 15. Origen sometimes distinguished between three meanings – cf. 4.2.4.
84 Origen, Con. Cel., 1.48; 6.23; 7.34; De prin., 1.1.9; 4.4.10; LXX Prov. 2.5.
85 Origen, In Jn., 1.8-10; 2.6; De prin., 3.6.8; 4.2.6; 4.3.13.
86 Cf. Origen, In Matt., 1.14. See also In Jn., 10.4, 18, 22; 20.3, 10, etc.
88 Origen, Con. Cel., 1.2; 8.32.
89 Origen, In Jn., 13.24; 32.25-29.
90 Cf. Origen, In Luc., 14.28.
91 Origen, Con. Cel., 3.8, 34, 60, 78; 5.33; 7.40, 49; 8.13, 75.
94 Origen, De prin., 4.1.1f; 4.2.2.
95 Origen, Ep. ad Greg., 3; Ep. ad Afr., 2-5.
96 Origen, Con. Cel., 7.11; De prin., praef.; 4.2.4, 7-9; 4.3.5.
* حيث إن كل ما يعمله الله يكون من الآب بالابن في الروح القدس. (المترجم)
97 Origen, De prin., 4.2.3; cf. praef. 1-2; In Jer., 3.22-4.
98 Origen, Con. Cel., 1.27; 3.60, 81; 5.33; 7.46; 8.20; De prin., 4.1.2, 5;
In Jn., 28. 23.
99 Origen, In Jn., 6.5f; De prin., 4.1.2, 5; Con. Cel., 2.4; 3. 34, 81; 5.4;
8.13, 26, 59.
101 Origen, De prin., 1.5.4; 2.6.2; 3.1.17, 23; 3.5.3; 4.3.14; cf. Praef. 2;
3.3.4; 4.2.2, 4; 4.3.15.
102 Origen, Con. Cel., 3.34; 5.4; 7.46; 8.13; De or., 10.2; 13.1; 15.1-4.
103 Origen, In Jn., 1.33, 35; 2.34; Con. Cel., 3.34; 5.4; 7.41, 46, 49; 8.12f, 26, 75; De prin., 1.3.4.
104 Origen, Con. Cel., 3.60; 5.4; 7.46; 8.57; 75; De or., 14-16, 20, 31; In Jn., 32.24; In Mat., 11.14. See also Origen“s Dialogue with Herakleides, SC, 67, ed. By J. Scherer, 1960, pp. 62, 64.
105 Origen, De prin., praef., 2, 3, 10; cf. 1.4.4; 4.4.5.
106 See Prosper of Aquitaine, De gratia Dei et libero voluntatis arbitrio, 8: legem credendi lex statuat supplicandi, MPL, 8, 209. Lex orandi-Lex credendi represents a telescoped form of Prosper of Aquitaine’s thought, found in the Ineffabilis Deus of Pius IX, and the Munificentissimus Deus of Pius XII, AAS, 1947, pp.540f.
107 Athanasius, De decr., 1-3; cf. Ep. Enc., 1 (ευ̉σέβεια α̉πό α̉σεβείας διώκεται)
وهنا تكلم القديس أثناسيوس عن التقوى التي تُضطهد بواسطة عدم التقوى
108 Athanasius, Ad episc. Aeg., 13; cf. 4, 9, 12.
110 Athanasius, Ad Ser., 1.17, 20; 4.4.
112 Hilary, De Trin., 5.18, 20.
113 Hilary, De Trin., 2.6f, 11.
114 Hilary, De Trin., 2.2, 5-8, 10-11.
116 Athanasius, Con. Ar., 4.21.
117 See the Der Balyzeh papyrus, cited by J.N.D. Kelly, Early Christian
Creeds, 1950, p.89; or Epistola Apostolorum, ibid., p.82.
[65] ارجع إلى الحروم التي أُلحقت بقانون نيقية والتي ذُكرت باسم “الكنيسة الجامعة”.
[66] 1تي 3:6؛ 2تي 13:1؛ 3:4؛ تي 9:1، 13؛ 1:2 وما بعدها.