الإيمان في الكنيسة الجامعة
مكانة مجمع نيقية في الكنيسة*
يحتل مجمع نيقية 325م مكانًا فريدًا في تاريخ الكنيسة المسيحية باعتباره ’المجمع الكبير والمقدس‘ أو ’المجمع المسكوني الكبير‘، الذي اتخذته كافة المجامع اللاحقة كمعيار رئيس لها. وهذا لأن قانون الإيمان الذي وضعه الآباء في نيقية قد حمى بشكل حاسم الإيمان الرسولي الجامع من أي تحريف مخرِّب للإنجيل، مما أدى في آخر الأمر إلى ضبط وتوحيد فكر الكنيسة كلها وتثبيتها بشكل لا لبس فيه في الإيمان بأن الله الآب كشف عن ذاته من خلال ابنه يسوع المسيح وفي روح واحد[1].
كذلك فإن الارتباط الجوهري بين نص الإنجيل وبين “الإيمان المُسلَّم مَرَّةً للقديسين”[2]، قد ظهر بوضوح في نيقية بطريقة بسيطة وموجزة، حتى إنه صار يُنظر إلى ما حدث في نيقية فيما بعد، برهبة ووقار بكونه عملاً من الروح القدس، الأمر الذي يدعو للدهشة في ظل ما كان قائمًا ـ في ذلك الوقت ـ من تباين كبير في الآراء وفي الصيّغ الإيمانية.
ومع انقضاء القرن الرابع وبقاء وصمود الكنيسة رغم الهجمات الشرسة من قِبل الهراطقة ـ والتي كادت تهدد لب الرسالة الإنجيلية التي اؤتمنت عليها ـ فإن التقليد أخذ يكرِّم قانون إيمان نيقية بصورة متزايدة على أنه هو ’التحديد الكنسي غير القابل للتغيير‘ (imperturbata constitutio)، أو ’الحدث العظيم الذي لا رجعة فيه في حياة الكنيسة‘[3]، والذي يأتي مباشرةً بعد الأساس الواحد الذي وضعه المسيح نفسه في الرسل والأنبياء[4]، بل إن قانون الإيمان نفسه، كان يخدم ذلك الأساس ويبني عليه ويشاركه ـ بشكل ما ـ في طبيعته غير القابلة للتكرار.
ومما يذكر أن القديس غريغوريوس النزينزي الذي رأس الجلسة الافتتاحية لمجمع القسطنطينية عام 381م كرئيس أساقفة، كتب إلى كليدونيوس أحد كهنة نزينزا يقول: “نحن من جانبنا لم نعتبر ولن نعتبر أي تعليم مفضَّل على إيمان الآباء القديسين الذين اجتمعوا بنيقية لهدم الهرطقة الأريوسية، ونحن بمعونة الله لا نحيد ولن نحيد عن هذا الإيمان، مكمِّلين ما قد تركوه بخصوص الروح القدس”[5].
وكان القديس غريغوريوس النزينزي يُعبِّر عن التقليد السائد، عندما تحدث في ’عظته عن أثناسيوس الكبير‘ ذاكرًا ’مجمع نيقية المقدس‘ واجتماع الثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً ’المختارين‘ بكونهم قد “وحَّدهم الروح القدس”[6]. كما كان القديس غريغوريوس يمثل رأي الكثيرين أيضًا، في إعطائه القديس أثناسيوس الدور الحاسم في أعمال المجمع؛ إذ قال: “وعلى الرغم من أنه لم يكن بعد في ترتيب صفوف الأساقفة، إلاّ أنه احتل الترتيب الأول بين أعضاء المجمع، لأن الأفضلية كانت للتميّز بنفس القدر الذي كانت به للمنصب.
وكرجل الله الذي نطق بقوة للحق، حافظ القديس أثناسيوس بلباقة على وحدة اللاهوت إذ علَّم بإخلاص عن الثالوث تعليمًا اشتمل على العلاقات الأقنومية: بغير ضياع للأقانيم الثلاثة في داخل الوحدة، ولا تقسيم للجوهر فيما بين الأقانيم الثلاثة؛ بل ظل القديس أثناسيوس داخل حدود التقوى متجنبًا الميل الزائد أو المعارضة الزائدة لأحد الرأيين”[7].
الإيمان المسلم مرة للقديسين
كان القديس أثناسيوس يعتبر أن الآباء في مجمع نيقية لم يبتكروا شيئًا جديدًا، بل إنهم تنفَّسوا روح الكتب المقدسة واعترفوا بالإيمان الإلهي والرسولي بدقة شديدة، حتى إنه (أي القديس أثناسيوس) استطاع بعد سنوات كثيرة أن يكتب إلى أساقفة إفريقيا قائلاً: “إن كلمة الرب التي جاءت عن طريق مجمع نيقية المسكوني باقية إلى الأبد”[8]، ولم يكن يعني بهذا أن الله قد أعطى أساقفة نيقية كشفًا جديدًا، بل إنهم كانوا فقط أداة في يد الله، وذلك بتسليمهم (لمن بعدهم) ـ بشكل صادق وأمين ـ كلمة الله ذاتها، وهي عينها التي كانوا قد تسلَّموها بأنفسهم من تعاليم الرسل في الكتب المقدسة فيما يتعلق بالله الآب والابن والروح القدس.
وفي الواقع كان التقليد الرسولي، والتعاليم المعطاة في الكتب المقدسة، بالنسبة للقديس أثناسيوس شيئًا واحدًا تمامًا، حيث لا يوجد عدة تقاليد “للحق” سواء مكتوبة أو غير مكتوبة، بل هو التقليد الواحد المتضمَّن في الكتب المقدسة المُعترف بها، وهو إيمان الكنيسة الحقيقي الذي تسلَّموه، والذي كان عليهم أن يحافظوا عليه ويسلِّموه مرة أخرى[9].
هكذا فهم القديس أثناسيوس عمل الآباء بمجمع نيقية المسكوني، لذلك كتب لأساقفة إفريقيا في خطابه المجمعي لهم يقول: “إن الإيمان السليم المُعطى لنا من المسيح والذي أعلنه الرسل، قد سلَّمه للأجيال التالية الآباء الذين اجتمعوا في نيقية من كافة أنحاء العالم”[10].
وعندما أُثير التساؤل حول التعليم الرسولي التقليدي عن الروح القدس، أصر القديس أثناسيوس على ضرورة وضع تقليد وتعليم وإيمان الكنيسة الجامعة في الاعتبار من البداية، هذا الذي أعطاه الرب، وأعلنه الرسل، وحافظ عليه الآباء. وقد استطاع القديس أثناسيوس، وهو يتحدث عن نفسه، أن يقول: “طبقًا للإيمان الرسولي المُسلَّم لنا من الآباء بواسطة التقليد، فإني قد سلَّمت التقليد بدون ابتكار أي شيء خارجًا عنه. وما تعلَّمته هذا قد سجلته وفقًا للكتب المقدسة”[11]. فالمهم كان هو تقديم الكتب المقدسة بدقة وبإخلاص، بالإضافة إلى تناول التقليد بأمانة[12].
وكان القديس أثناسيوس دائم الإشارة إلى قانون إيمان نيقية على أنه “الإيمان الذي اعترف به الآباء بنيقية” طبقًا للكتب المقدسة وتقليد الكنيسة السليم، وكان يقول عنه إنه هو هو “الإيمان المسلَّم من مخلِّصنا بواسطة رسله”، وقد اعتبر أن صياغة قانون الإيمان كانت في الأساس عملاً إيمانيًّا ورعًا ومخلصًا قام به المجمع المسكوني “باعتباره في حضرة الله”[13].
هكذا تؤمن الكنيسة الجامعة
لقد كان هناك سببان لانعقاد مجمع نيقية: أولاً التوصل إلى اتفاق مسكوني حول يوم الاحتفال بعيد القيامة، وثانيًا الحكم على الهرطقة الأريوسية التي كانت تخل بتناغم الكنيسة، إلاّ أن نوع القرار الذي اتخذه المجمع في كل حالة ـ كما أوضح القديس أثناسيوس ـ كان مختلفًا تمامًا. فبالنسبة لعيد القيامة، كتب الآباء: “يبدو حسنًا ما يلي”، لأنه كان بالفعل يبدو حسنًا أن يكون هناك اتفاق عام.
ولكن بالنسبة للإيمان فإنهم لم يكتبوا “يبدو حسناً”، بل كتبوا: “هكذا تؤمن الكنيسة الجامعة”، ليؤكدوا بذلك أنهم إنما كانوا يعترفون بما يؤمنون به، ولكي يبيِّنوا أن آراءهم ليست جديدة بل هي تعاليم رسولية، وأن ما كتبوه لم يكن اكتشافًا من عندياتهم، بل كان هو نفسه ما علَّم به الرسل[14]. بل والأكثر من ذلك، أن آباء نيقية عبَّروا عن هذا التعليم بدقة شديدة لدرجة أن كل من يقرأ هذه النصوص بأمانة، فإنها لا بد وأن تعيده إلى التقوى والإيمان بالمسيح (ες Χριστν εσέβειαν) المُعلَن عنه في الكتب المقدسة[15].
أي أن قانون إيمان نيقية ينبغي أن يُفهم كصياغة كرازية للإيمان، حسب مبادئ الإنجيل الأولى البسيطة، لأن الإيمان الذي سُلَّم للكنيسة مرة واحدة يمكن تسليمه فقط بالإيمان، من إيمانٍ إلى إيمان[16]. ومن الواضح أن القديس أثناسيوس كان يرى أن مجمع نيقية ـ من خلال اعترافه بالإيمان بشكل موجز وبسلطان مسكوني ـ قد حقق الغرض الذي كان قد تصوره هو نفسه قبل المجمع، والذي ذكره في بيانه عن”أساس الإيمان” (κεφάλαιον τς πίστεως)، ألا وهو إدراك العمل الخلاصي لابن الله المتجسِّد[17]، مرتبطًا بدراسة الكتب المقدسة وبفهم أعمق لرسالتها[18].
علاقة الإيمان بالتقوى
ومن العلامات المميِّزة لتوجه مجمع نيقية، أنه ربط بين الإيمان وبين الخشوع أو التقوى (εσέβεια / θεοσέβεια)، والذي يعني استخدام أسلوبٍ ورعٍ للعبادة والسلوك والفكر، يليق بالله الآب والابن والروح القدس.
وكان هذا الارتباط بين الإيمان والتقوى طريقًا مسيحيًّا مميزًا للحياة، حيث كان فكر الكنيسة (διάνοια / φρόνημα) مختومًا بختم الثالوث القدوس الذي لا يُمحى، فلم يكن هناك فصل بين التقوى والتعليم اللاهوتي، أو بين العبادة والإيمان، حيث كان الاهتمام الثابت موجهًا: لتفسير الكتب المقدسة بوقار، ولاستخدام المنطق بوقار ولاتباع طرق للمناقشة بوقار، وفي كل ذلك بغير تدخلٍ حادٍّ في سر الله وبغير تعليمٍ خارج عن الوقار في الأمور التي تخص الله.
وحتى حين يتناول علم اللاهوت العلاقات الداخلية للثالوث في الله نفسه، كانت الكنيسة تُصرّ على التحفظ والخشوع سواء في الأسلوب أو في صياغة الفكر أو في اللغة المستخدمة؛ إذ كان ينبغي أن يتم كل شيء بتقوى أمام وجه صاحب الجلال والمجد الإلهي مثل ما يفعل الشاروبيم الذين يغطون وجوههم أمام عرش الله بشكل يليق بقداسة الله الفائقة.
الإيمان الذي حفظه الآباء في نيقية
إن إدراك آباء مجمع نيقية لمضمون التعليم الرسولي، بالإضافة إلى التقوى الإنجيلية في الاعتراف بالإيمان، قد أدّيا معًا إلى ظهور أسلوب مميَّز للتعبير ترك بصمته الدائمة على ذهن الكنيسة. وكان هذا الأمر واضحًا للغاية في مجمع القسطنطينية عام 381م حيث أُعيد التأكيد بشكل نهائي وحاسم على قانون الإيمان النيقي، مما جعله قانون الإيمان المسكوني الأسمى في العالم المسيحي.
فالتعليم اللاهوتي الخاص بمجمع نيقية لم ينل فقط قوة داخلية وحركة دفع ذاتي في عصره، ولكنه ترسَّخ ضمن الأساسات الإنجيلية للكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية، بحيث صار القاعدة التي انطلقت منها المجامع الأخرى ـ الواحد تلو الآخر ـ لتكمل عملها في القرون اللاحقة، بالرجوع دائمًا إلى “مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر”.
وهكذا كان يُنظر لقانون إيمان نيقية، على أنه المحور الرئيس والمتحكم في الرسالة المتنامية للكنيسة، وكإعلان إنجيلي يؤدي إلى الإيمان بالمسيح، كما كان يُنظر إليه أيضًا بكونه صياغة تعليمية لكبرى حقائق الإنجيل، لذلك يمكن أن يُعتبر كمرشد موثوق به وذو سلطان في قراءة وتفسير الكتب المقدسة.
أي أنه في قانون الإيمان النيقي وبواسطته، عقدت الكنيسة العزم على الدفاع عن جوهر الإيمان والحفاظ عليه، كأمانة مقدسة تسلَّمتها لكي تسلِّمها إلى الآخرين متكاملة إنجيليًّا، وبالتالي تستطيع أن تعطي الله حساب وكالتها على سرائر الله[19].
وكان هذا هو قصد الكنيسة الذي أوضحه القديس أثناسيوس في خطابه إلى أساقفة إفريقيا عندما قال: “ليكن فقط الإيمان، الذي اعترف به الآباء بنيقية، قانونًا ساريًا بينكم، حتى يستطيع الرسول أن يقول عنا أيضًا: ’فأمدحكم أيها الإخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء، وتحفظون التعاليم كما سلَّمتها إليكم‘”[20].
نؤمن
وبتعبير “نؤمن”، الذي استهلت به الكنيسة الجامعة نص اعترافها ـ في نيقية عام 325م ـ فإنها أوضحت أن ما كان يهمها هو أن تعترف بحقائق الإنجيل الأساسية، داعية إلى الالتزام بالإيمان (نؤمن)، أكثر من مجرد وضع مراسيم (قوانين للإيمان) (δόγματα) مطلوب إطاعتها كأنها قرارات رسولية[21] أو أوامر إمبراطورية[22]. ولكن بالطبع قدَّم آباء نيقية بعض الدلالات التي توضح كيف يجب أن تُفهم المصطلحات التي استخدموها، كما أشاروا أيضًا إلى “الحدود الفاصلة” (ρισθέντα) في اعتراف (قانون) الإيمان، والتي لا يجوز تعديها وإلاّ انحرف المرء إلى ضلال الهرطقة أو إلى خطورة التناقض[23].
وقد حدد الآباء أيضًا عددًا من “القوانين” أو “القواعد” الكنسية التي يجب أن تُراعى من أجل الحفاظ على الوحدة في الكنيسة كلها في تعليمها وتوجيهها المنتظم، وفي تنظيم الخدمة الكنسية[24]. غير أن هذه الأوامر “الناهية” والقواعد الرسمية، قد تم وضعها فقط كملحقٍ لنص قانون الإيمان، ولم تدخل في صلب التعبير عن الإيمان ذاته. وهكذا كان حرص الآباء ينصب كله على الحفاظ على سمة قانون الإيمان “كإعلان إنجيلي” للإيمان الخلاصي، الذي اضطرت الكنيسة إلى وضعه بإلزام من الحق الإلهي الذي وصل إليها من خلال الكتب المقدسة.
نظرة الآباء إلى الإيمان
ومن هنا، فإن الأولوية القصوى التي أعطاها مجمع نيقية ’للإيمان‘ على هذا النحو كانت لها دلالة كبيرة للغاية، لأنها تمثِّل التحوُّل الجذري في فهم شعب الكنيسة ـ حيث استنارت عقولهم بحقيقة الله الحي وتحرروا من الأسر في ظلمة التحيُّزات الشخصية والتخمينات والأوهام التي لا أساس لها ـ وهو تحول من أن يكون مركز الفكر في داخل المنطق البشري (πίνοια) الشخصي (الغريب عن الله)، إلى أن يكون هذا المركز هو في إعلان الله (عن ذاته)، وفي فعل المصالحة الذي تم في يسوع المسيح ’كلمته‘ المتجسِّد داخل حيز الزمان والمكان في عالمنا المخلوق.
هذه الاستنارة بحقيقة الله كانت هي السبب وراء الثقة الراسخة في ’إيمان‘ الكنيسة بالله، لأن الكنيسة قد أدركتها محبة الله الثابتة والأمينة، وقد أمسكت الكنيسة بهذه المحبة من خلال “كلمة حق الإنجيل”[25]، كما أن الله ذاته كان على الدوام يسند الكنيسة ويقويها. وهذه الأهمية القصوى التي أولاها قانون نيقية، ’للإيمان‘ إنما تعكس الفكر الآبائي الراسخ عن ’الإيمان‘ بأنه اقتناع للعقل لا يقوم على أساس منظور ’شخصي‘ بل على أساس ’موضوعي‘، وهذا الاقتناع تسنده ـ أبعد من حدوده نفسه ـ ’الحقيقة‘ الموضوعية أو الأقنومية (πόστασις) التي لله ذاته، كما أعلن لنا عن نفسه في يسوع المسيح.
ويعبِّر القديس هيلاري عن ذلك بقوله “في الإيمان، يتخذ الإنسان موقفه على أساس كيان الله ذاته (in substantia dei)”[26].
علاقة الإيمان بالمعرفة
وكان الآباء ’اليونان‘ (الذين كتبوا باليونانية) ينظرون إلى المعرفة العلمية (πιστήμη)، على أنها وقوف أو رسوخ العقل (διάνοια) على الحقيقة الموضوعية، وعلى أنها أيضًا الفهم اليقين والمؤكد. ولتعضيد هذا الرأي من الكتاب المقدس، كثيرًا ما كان الآباء يستشهدون بما جاء في الترجمة السبعينية “إن لم تؤمنوا فلن تفهموا” أو “فلن تثبتوا”[27]، حيث كانوا يؤكدون على أنه بالإيمان، تتلامس عقولنا مباشرة مع الحقيقة مستقلة عن ذواتنا، لأنه من خلال الإيمان تتقبل عقولنا الإدراك الباطني (البديهي) للأشياء وتخضع لقوتها الشاهدة لذاتها، كما تتكيَّف وتتهيأ لتعرف هذه الأشياء في طبيعتها الذاتية (الخاصة بها) (κατά φύσιν)[28].
وعلى هذا النوع من الاتصال الأساسي (المباشر) مع الحقيقة، ترتكز كل معرفة مؤكدة ويرسخ كل فهم صادق أصيل، كما أنه هو أيضًا الطريق الصحيح لكل بحث جديد ولكل محاولة لتعميق فهمنا للأمور. وكما أن هذه العلاقة بين الإيمان والفهم تنطبق على كل معرفة علمية، فهي تنطبق بنفس القدر بل وبأكثر تحديد على معرفتنا لله، الذي هو الأساس والمصدر المطلق لكل قدرة على المعرفة والإدراكٍ وكل حق[29]، مثلما كان القديس أغسطينوس يقول دائماً: “نحن لا نسعى لفهم ما نؤمن به، ولكننا نؤمن لكي يمكننا أن نفهم”[30].
إذن ينبغي أن يكون واضحًا الآن، أن ’الإيمان‘ حسب الفكر اللاهوتي النيقي، لم يكن نوعًا من علاقة غير مدركة أو غير مفهومة مع الله، بل كان إيمانًا يتضمن عمليات المعرفة والفهم والإدراك، إيمانـــًا له طـــابع فطــــرى (بديهي) للغــاية في تقبـــل العقـــل ـ بشكل مسئول ـ ’للحق‘ الكامن في إعلان الله لذاته للجنس البشري.
فالإيمان ينشأ فينا نتيجة التأثير الخلاَّق لشهادة الله لذاته، ولكشف الله عن ذاته في “كلمته”، كما أنه ينشأ كذلك كاستجابة لمطالب ’الحقيقة‘ الإلهية علينا، والتي لا نقدر أن نقاومها بمنطق العقل أو الضمير[31]. ويأخذ الإيمان شكل الطاعة (πακοή τς πίστεως)[32] المنصتة لدعوة ونداء “كلمة” الله، كما أن المعرفة التي تتولد داخلنا، تتطلب في صميمها قبول ذهني وإدراكي (πιστημονική συγκατάθεσις) ’للحق‘ الإلهي، وتصبح مغلقًا عليها في داخل هذا الحق[33].
وقد أكد القديس هيلاري أنه حقًّا بهذه الطريقة عينها فقط، يتشابك الإيمان والفهم (الإدراك) وهو ما قد حدث في حالة الرسل أنفسهم، عندما “التحم ’الحق‘ الذي سمعوه لأول مرة مع يقينهم الداخلي”[34]، وحين تحدث القديس هيلاري عن اعتراف الرسل ’بأن المسيح هو ابن الله‘ على أن ذلك هو ’صخرة الإيمان‘ التي بنيت عليها الكنيسة[35]، كان فهمه لهذه الحقيقة فهمًا موضوعيًّا
لأن الكنيسة بنيت على ’الحق‘ الإلهي الذي اعترف به الرسل، وليس على اعترافهم في حد ذاته، هذا ’الحق‘ الذي لا تزال الكنيسة تعتمد عليه في إيمانها. وبالطبع كان من الأمور المُسلَّم بها أن اعتراف الرسل ’بالإيمان‘ وفهمهم ’للحق‘ محفوظ في الكتب المقدسة التي سلَّمها لنا الرسل، ولذا ينبغي أن نقول إن “الإيمان وكل جزء منه مُنطبع فينا بواسطة برهان الأناجيل وتعليم الرسل”[36].
الله هو الذي يعلن عن ذاته
وفي نهاية الأمر، فإننا لا بد أن نتعلم من الله ذاته، ما الذي يجب أن نفتكره عنه “لأن الله لا يمكن أن يُفهم إلاّ من خلاله هو ذاته”[37]. كما أن إيماننا يجب أن يرتكز على نفس ’الحق‘، الذي بنى عليه الرسل الأولون إيمانهم وفهمهم، مما يعنى أننا حينما نلجأ إلى أقوال الكتاب المقدس فعلينا أن نخضع عقولنا مباشرةً ’للحق‘ الذي تشهد له الكتب المقدسة، لأن نصوص (dicta) الكتاب المقدس يجب أن تُفسَّر في ضوء الأمور أو الحقائق (res) التي تشير إليها والتي بسببها كُتبت هذه الأقوال وليس العكس.
إذ إن هذه الأقوال تحقق الغرض الإلهي المقصود منها عندما تنقل شهادة الله عن ذاته، وبالتالي تمكِّننا من الإيمان بالله والتفكير فيه بالطريقة الوحيدة المتاحة، والتي تتمشى مع الطريقة التي يقدِّم هو بها نفسه لنا[38]. ومن هنا يتضح أن الأهمية القصوى المعطاة ’للإيمان‘ في معرفتنا لله، تعكس الأفضلية المطلقة لدور الله (حين يعلن هو عن ذاته و يجعلنا ندرك شيئًا عنه) على كل فكر بشري عن الله (نعتمد فيه على ذواتنا)، بل وحتى على الوسائط البشرية التي أوجدها الله لتخدم إعلانه عن ذاته[39].
البعد المزدوج للإيمان
إن الإيمان الذي ينشأ بالتزام واعٍ بما أوجبه الله في إعلانه عن ذاته في يسوع المسيح، والمرتبط بأولوية الله المطلقة على كل فكر أو حديث عنه، هذا الإيمان له سمة ذات شقين: الشق الأول يظهر فيه الإيمان بأنه مقيد ومحدد وملتزم بشكل دقيق بما أعلنه ’الحق‘ الإلهي في تجسد ’الكلمة‘ (أي بما أعلنه الابن المتجسِّد)، ومع ذلك يظهر الإيمان في الشق الآخر بأنه غير مقيَّد وغير محدَّد من خلال علاقته بحقيقة الله اللانهائية والتي تفوق كل فهم محدود.
إذن فمن جانب، يتميز الإيمان باليقين الثابت الذي يستمد قوته من حقيقة الله ذاته الكامنة في هذا الإيمان، ولكن من الجانب الآخر هذا الإيمان يتميز بوجود مجال مفتوح دائم الاتساع ليستجيب مع سر الله غير المدرك وطبيعته التي لا تُحدّ[40]. وهذه بلا شك هي القوة المزدوجة التي تكمن في كلمة “نؤمن” (πιστεύομεν) الواردة في اعتراف الإيمان النيقي بالله الآب والابن والروح القدس، وهي التي تحكم أيضًا الطريقة التي ينبغي أن تُفهم بها كل عبارات هذا الاعتراف (القانون)، تلك القوة المزدوجة تعني كلاًّ من التحديد والقصر (exclusiveness) من جهة، بجانب اتساع المجال (open range) من الجهة الأخرى، وهذان الأمران معًا هما اللذان يميزان الإيمان.
التحديد والالتزام في الإيمان المؤسس على الحق
وفي التزامه بالإيمان بإله واحد، الآب ضابط الكل، يمنع قانون (إيمان) نيقية، الإيمان بأي إله آخر غير الله الآب، كما يمنع الإيمان بأي إعلان آخر عن هذا الإله الواحد غير ابنه الوحيد المولود منه.
مما يعبِّر بوضوح عما أكده الكتاب المقدس بجزم، بأن الإيمان بإله واحد يلغي إمكانية وجود أية آلهة أخرى، وأن الإيمان بأن يسوع المسيح هو “الطريق والحق والحياة” يستبعد الوصول إلى الآب بأية طريقة أخرى غير تلك التي قدَّمها الله ذاته في تجسد ’كلمته‘ في يسوع المسيح، أي في ’ما هو‘ يسوع المسيح في كيانه الأقنومي الخاص.
وكان من العسير أن يصبح الأمر هكذا، لو أن الإيمان كان قد تأسس فقط ـ وبشكل شخصي وغير موضوعي ـ على القناعة الداخلية للعقل البشري، وليس كما هو الحال من أنه مؤسس بشكل موضوعي على ’حقيقة‘ الله ـ الملزمة كليًّا ـ المجسمة في المسيح بكونه عطاء الله الذاتي الفريد واتصاله الذاتي الفريد بالجنس البشرى كرب وكمخلِّص. وفي طاعة غير مشروطة لهذا الإعلان الإلهي، نجد أن الإيمان المسيحي قد تبنى مدخلاً إلى الله يطرح جانبًا أي مدخل بديل، وأصدر حكمًا يستبعد به أي معتقد منحرف، وصدَّق على إقرار ’للحق‘ رافضًا بذلك أي ادعاءات أخرى معتبرًا إياها باطلة.
ومن هنا كان الأمر الجوهري في إيمان الكنيسة، هو ’الحق‘ الإلهي الذي أدركته الكنيسة في المسيح وفي إنجيله ولم ولن تفرط فيه. هذا الحق ليس تحت تصرف وتحكم الكنيسة، ولكنه هو (أي الحق) الذي يحررها ويثبتها في محبة الله، ولهذا فإن الكنيسة لا تستطيع إلاّ أن تعترف بإيمانها بالله، أمام الله، وتقر بغير تحفظٍ بتصديقها ويقينها في ’الحق‘ الخاص بالمسيح وإنجيله، حيث إن هذا الحق هو الذي ترتبط به بصميم كيانها باعتبارها الكنيسة، جسد المسيح الواحد.
إن ما حدث في مجمع نيقية، كان اعترافًا مسكونيًّا بالإيمان، أعلنه الآباء في مواجهة إنكار الهراطقة للوحدة المطلقة بين الله وبين إعلانه عن ذاته في شخص يسوع المسيح. فقانون الإيمان النيقي كان عملاً مهيبًا للكنيسة مجتمعة، وفي حضور الله، وتم بالتزام ثابت ’للحق‘ الخاص بالإعلان الإلهي الذي من الآب بالابن في الروح القدس، وبإدراكٍ تام بأن صميم وجود الكنيسة المسيحية وصحة رسالتها الإنجيلية الداعية للخلاص الإلهي كانت معرضة للخطر.
ولو لم تكن هناك علاقة الوحدة في الجوهر والعمل، بين ما هو الله الآب ـ في ذاته ـ وبين ما هو نحونا في نعمة ربنا يسوع المسيح، لصارت الكرازة بالإنجيل (kerygma κήρυγμα) مفرغة من مضمونها الخلاصي، ولكانت تعاليم (διδαχή) الرسل مجردة من شرعيتها الإلهية. لكن إذا كانت نعمة الرب يسوع المسيح هي بعينها نعمة الله ذاته، وإذا كان في المسيح يسوع العطية الإلهية والمعطي هما واحد، فليس للكنيسة ـ أمانة منها للإنجيل ـ إلاّ أن تكرس نفسها لتأكيد هذه النعمة بشكل إيجابي وأن تستبعد أي احتمال آخر[41].
وكانت هذه هي القضية الحاسمة التي دعا القديس بولس كنيسة غلاطية لمواجهتها في القرن الأول، حيث كانوا مهدَّدين بتعاليم تفسد إنجيل المسيح وتحوله إلى ’إنجيل آخر‘ والذي ليس هو إنجيلاً بالمرة، وولذلك كتب يقول “إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم فليكن أناثيما”[42]. وكان هذا هو النموذج الرسولي الذي اتبعه آباء نيقية في موقفهم الحاسم، عندما ألحقوا باعتراف الإيمان عبارة تحرم هؤلاء الذين يعلِّمون بأن ابن الله لم يكن منذ الأزل واحداً مع الآب، بل له ’جوهر‘ مختلف عن الذي للآب، فينكرون بذلك لب الإيمان الجامع ذاته[43].
إذن فمجمع نيقية قد عبَّر عن العقائد الرئيسية ـ التي رأى ضرورتها حسب الإنجيل ـ في قانون إيمان، تم الاعتراف به لاحقًا في الكنيسة في كل العالم، وهو القانون الذي يستبعد ببنائه الداخلي أية عقيدة بديلة (نتيجة لاستنتاجات عقلية منحرفة)، في مقابل إعلان الله الوحيد عن ذاته في يسوع المسيح، أو بمعنى آخر هو الذي يمنع أي انحراف هرطوقي عن ’الحق‘[44].
المجال المفتوح والمتسع للإيمان
وهناك وجه آخر لما سبق أن ذكرناه (أي غير الوجه المقيد والمحدد للإيمان)، لأنه في حين يعبِّر قانون الإيمان النيقي عما ينبغي علينا أن نعترف به ـ داخل الإطار العام لالتزام الكنيسة تجاه ’حقيقة‘ إعلان الله عن ذاته في يسوع المسيح ـ فإن كل هذا قد جاء مسبوقًا بكلمة “نؤمن” (πιστεύομεν)، مما يعني أن كل ما تم إقراره في هذا القانون يقع داخل دائرة ’الإيمان‘ ومرتكزًا على ’الحقيقة‘ الموضوعية لله التي تسمو تمامًا فوق كل ما يمكننا أن نفتكره أو نقوله عنها.
وتحديدًا، بما أن هذا الإيمان مستمد من إعلان الله في يسوع المسيح ومؤسس فيه ـ والذي يتطابق مع ما هو الله أزليًّا في جوهره الذاتي ـ فإن الإيمان يكون ’مفتوحًا‘ لما يمكن أن يُعرف، من خلال روح المسيح المُرسل من الآب باسم الابن، ليقودنا على الدوام إلى فهم أعمق ’للحق‘.
إذن فالإيمان المسيحي في صميم طبيعته يحاول باستمرار استقصاء الأعماق السحيقة التي لا تستقصى ’للحق‘، والذي تفوق دائمًا ما يمكن أن ندركه من إعلانات هذا الحق لنا؛ غير أن الإيمان الذي يمتد بهذا الشكل إلى أبعد من ذاته بغير حدود، يتسم بالضرورة بأن له رؤية ’ذات مجال مفتوح ومتسع‘ (open range in its focus ‘σκοπός’) وهذا الإيمان لا يمكن أن يختصر دون أن يتحول إلى شيء آخر.
وقد أكد على مفهوم ’مجال الإيمان المفتوح‘ كل من القديس أثناسيوس وق. هيلاري بالإضافة إلى القادة البارزين الآخرين من شارحي الفكر اللاهوتي النيقي. وأوضح القديس أثناسيوس أنه كان كلما تقدم إلى الأمام في سعيه لإدراك الله، كلما وجد أن معرفة الله تفوق إدراكه، ولم يستطع أن يعبِّر كتابةً عما بدا له أنه يفهمه، وما كتبه كان يقل بكثير حتى عن الظل العابر للحقيقة في ذهنه[45].
فالأمر الوحيد الثابت، وموضوع الإيمان كله، بل وهدف الكتب المقدسة أو ’الحق‘ الذي نؤمن به، كان هو يسوع المسيح ذاته، لأنه في إعلان الله الفريد عن ذاته في المسيح ومن خلال هذا الإعلان، يصبح الإيمان راسخًا في حقيقة كيان الله ذاته، وأيضًا يتوفر للإيمان ’الضابط المعياري‘ الذي يحتاجه في علاقته بما يفوق طاقة الإدراك البشري[46]. إن إيمانًا من هذا النوع هو الذي يسبق ويرشد كل بحث أو تفسير لاهوتي، لأنه يشكل الأساس المعرفي السليم الذي يعطى القوة لكل حجة صحيحة[47].
ولم يكن القديس هيلاري أقل من القديس أثناسيوس في تأكيده حقيقة أنه بالإيمان علينا أن ندرك الله بطريقة لا تحصره داخل الحدود الضيقة لما يمكننا أن نفهمه أو نعبر به عنه، بل إن هذا الإيمان عليه أن يمتد باستمرار ليكون تحت سلطان قدرة الله على إعلان ذاته[48].
إذن فالإيمان بالله ـ في صميم طبيعته ـ يتميز بنوع من ’اللانهائية‘، لأنه في حين أن الله “ككل” يفوق إدراكنا، فإن ما يسمح لنا بإدراكه عن نفسه لا ينفصل عما هو “ككل”، وبذلك فإن الإيمان يخترق الحدود الضيقة لإدراكنا، وهذا ما يفسر أنه في صميم عملية فهم ’شيء‘ عن الله، فإن الإيمان يجعلنا نعترف بالعجز عن الإدراك الكليّ لله. وهكذا في حين يفوق الله قدرات العقل البشري بشكل لانهائي، فإنه بالرغم من ذلك يمكن أن يُعرف عن طريق حركة ’إيمان‘، حيث ينفتح العقل على لانهائية الله وسموه الذي لا يوصف[49].
وهذا يعني أنه من خلال الإيمان تكون لنا صلة بالله بطريقة تمكِّننا من أن نعرف أكثر مما نستطيع أن نعبِّر عنه بشكل واضح بالأفكار أو بالكلام، وأنه في الإيمان ومن خلال الإيمان ننشغل بالله في بحث لا يسبر غوره، لأن ’الحق‘ الذي نسعى إلى معرفته له من العمق ما لا نستطيع أن نصل إلى نهايته، وهذا ما يقلل من قدرتنا على تحديد معرفتنا له في صيغة وافية ملائمة[50].
الهرطقات هي التي دفعت الآباء للتعبير ـ بكلام بشري ـ عن ’الحق‘ الذي لا يُنطق به
إن المعنى المعرفي المتضمَّن في هذا المجال ’المفتوح والمتسع بلا حدود‘ للإيمان، كان واضحًا تمامًا أمام لاهوتيي نيقية، وذلك في إدراكهم أن البحث اللاهوتي يُحمل من خلال الإيمان إلى ما هو أبعد من النطاق القاصر للمنطق العادي ـ الذي يُعرف بالأشياء المرئية والملموسة في الواقع المخلوق ـ وحتى إلى ما هو أبعد من العبارات الصريحة في الكتب المقدسة، أي يُحمل إلى ’الحق‘ الإلهي الذي تشير إليه تلك العبارات بغير اعتماد على ذاتها.
ولذا نجد أن مجال الإيمان ’المفتوح‘ قد ترتب عليه ظهور حالة خطيرة، حيث صار الباب وكأنه مفتوح لكل شكل من أشكال النظريات المفتقرة للوقار والتفكير السليم[51]. ولهذا السبب عينه، لم يستطع لاهوتيّو الكنيسة أن يظلوا صامتين، بل في خوف ورعدة وصلاة إلى الله، وجب عليهم أن يسعوا للتعبير ـ على قدر ما تسمح به إمكانيات اللغة البشرية الضعيفة ـ عن ’الحق‘ الإلهي الذي ترشدهم الكتب المقدسة إليه، وحتى ولو كان ذلك لمجرد مقاومة الأثر المدمر لدخول أنماط من الفكر البشري ـ التعسفي والاعتباطي ـ غير المتدين في طريقة ’معرفة‘ الله.
هذا بالتحديد كان الموقف الذي وجد آباء نيقية أنفسهم فيه عندما اضطروا لاستخدام مصطلح ’هوموأووسيوس‘ (μοούσιος) من خارج الكتاب المقدس ليعطوا تعبيرًا واضحًا ولا لبس فيه عن ’الحقيقة‘ الكتابية والإنجيلية. وكان هذا الحدث الخطير في ذهن القديس هيلاري عندما قال: “نحن مضطرون بسبب أخطاء الهراطقة والمجدفين، لأن نعمل ما هو غير مُباح، وأن نتسلق المرتفعات، وأن نُعبِّر عن الأشياء التي لا يُنطق بها، وأن نتناول أمورًا محظورة.
ومع أنه ينبغي علينا أن ننفِّذ الوصايا من خلال الإيمان وحده، عابدين الآب وساجدين للابن معه وفرحين في الروح القدس، فنحن مضطرون لتوسيع قدرة لغتنا الضعيفة، للتعبير عن الحقائق التي لا تُوصف، كما أننا مجبرون بسبب تجاوزات الآخرين أن نتجاوز نحن في محاولة محفوفة بالمخاطر حين نضع في كلام بشري ما كان يجب أن يُحفظ في عقولنا برهبة مقدسة … إن عدم أمانتهم قد جرتنا إلى هذا الموقف الخطير والمريب حيث قد تعين علينا أن نضع عبارات محدَّدة تذهب أبعد مما قد وصفته السماء عن أمور سامية للغاية ومخفية في الأعماق”[52].
أهمية التقوى مع الإيمان
وإلى جانب الإيمان الذي أولاه الفكر اللاهوتي النيقي أهمية قصوى، كان هناك عنصر رئيس آخر ـ له نفس الأهمية التي للإيمان ومرتبط به ومتداخل معه بغير انفصال ـ يجب علينا أن نأخذه أيضًا في الاعتبار، ألا وهو ’التقوى‘ (θεοσέβεια, εσέβεια). فالإيمان في حد ذاته هو عمل من أعمال التقوى داخل العبادة والطاعة المقدمة لله بكل تواضع وخضوع. والتقوى هي العلاقة السليمة مع الله، من خلال الإيمان الذي يعطي اتجاهًا مميزًا للعقل ويُشكِّل الفكر والحياة وفقًا “لكلمة وحق الإنجيل”[53].
التقوى إذن تعتبر من المكونات الجوهرية في التقليد الحيّ للكنيسة الملتزمة بالإيمان بإعلان الله عن ذاته في يسوع المسيح. والتقوى ومعرفة ’الحق‘ ينتميان كلاهما إلى البناء الإنجيلي الذي “للإيمان المسلَّم مرة للقديسين”.
إن التقوى التي من هذا النوع هي التي تُشكِّل القوة التي توجِّه كل “تعليم صحيح”، وهى التي يجب أن يُسمح لها بتوجيه فهمنا اللاهوتي خاصةً في مجال الإيمان ’المفتوح‘، حيث نكون مضطرين أن نكوِّن مفاهيم وننطق بعبارات عن ’الحق‘ تتجاوز العبارات الصريحة التي وردت في الكتب المقدسة.* لذلك وفي هذا المجال بعينه ـ حيث تحوي الكتب المقدسة سر الله الذي لا يُوصف، والذي يظل سرًّا حتى في صميم إعلانه عن ذاته ـ فإنه ينبغي علينا أن نحذر من الوقوع في الاقتحام بلا توقير وبغير ورع فيما أبقاه الله سرًّا في جوهره الأزلي الذاتي.
* العناوين الجانبية من وضع المترجم.
[1] أف 18:2.
[2] يهوذا 3.
3 Hilary, Con. Const., 27. See also Athanasius, De syn., 9; Ad Ant., 15; Ad Afr., 10; Ep., 55, 56; Basil, Ep., 125.1; 127.2; 140.2; 159.1; 204.6; 251.4; Theodoret, Hist. eccl., 2.15, 18.
5 Gregory Naz., Ep. ad Cled., 102.
6 Gregory Naz., Or., 21.14; Ep. ad Cled., 102.1; Theodoret, Hist. eccl., 2.15; Socrates, Hist. eccl., 1.9; Eusebius, Vita Const., 3.20.
7 Gregory Naz., Or.,21.13, 14; cf. also 19.33-35.
8 Athanasius Ad Afr., 1f; cf. 4-6, 9-11; De syn., 5f, 9, 43; Ad Adel., 6; Ad Ser., 1.28, 33; Ep. 55 & 56.
9 Athanasius Ad Adel., 6; cf. Ep., 2.6f; 39.1-7.
11 Athanasius Ad Ser., 1.28, 33.
12 Athanasius De decr., 4f, 18ff, 31ff; Con. Ar., 1.8, 10; 2.33f, 40; De syn., 3, 6, 7, 33f, 39ff, 45f; Ad Afr., 4ff; Ep., 2.4-7, 59; Ad Epict., 3; cf. also Con. gent., 1; De inc., 5.
13 Athanasius Ap. Con. Ar., 23f; Ad Ep. Aeg., 5, 18, 20, 21; De syn., Ad Ant., 3.5; Ad Afr., 10f; Ep., 51; 55; 56.1-4; 59.1; 61.5; 62.
14 Athanasius De syn., 5 ; cf. 3f.
15 Athanasius De syn., 6 ; cf. De decr., 18-22 ; 31f.
16 Athanasius Ad Ser., 1.17, 20 ; De vita Ant., 16, 77-80, etc.
17 Athanasius De inc., 19.3 ; cf. Exp. Fidei ; Con. Ar., 4.21 ; and Socrates, Hist. Eccl., 2.30.
[19] 1كو1:4؛ انظر كذلك: Athanasius, Ep. Enc. 1.
[20] 1كو2:11؛ انظر كذلك: Athanasius, Ad Afr., 10.
[21] انظر أع 28:15 وما بعدها؛ وكذلك 4:16.
[22] انظر لو 1:2؛ وكذلك أع 7:17.
[23] Athanasius De decretis ـ العنوان اللاتيني المتداول هو ترجمة خاطئة للكلمة: (ο̉ρισθέντα) . انظر كذلك Cf. De syn., 5, and Hilary, De Trin., 4.1-7.
[24] بعد مجمع نيقية، أصبح استخدام مصطلح ’قانون‘ يرتبط بالتأديبات الكنسية. وقد استخدم القديس أثناسيوس هذا المصطلح ليشير إلى القوانين التي ترجع إلى الرسل. انظر:
Athanasius Ep. Enc., 1.6 ; Ap. con. Ar., 25, 29, 31f ; Hist. Ar., 36, 51.
[25] كو 5:1.
[27] إش 9:7. ولذلك نجد القديس إيرينيئوس يقول في (Dem., 3) “والإيمان ينتج عن الحق؛ لأن الإيمان يقف أو يرتكز على الأشياء الحقيقية (أو التي هي بالحقيقة كائنة). ونحن نؤمن في أشياء حقيقية (أو بالحقيقية كائنة)، وبالإيمان في أشياء حقيقية، نظل واثقين بشدة فيها”؛ انظر أيضاً: Clement of Alex., Strom., 1.1; 2.2, 4; 4.21; Cyril of Jer., Cat., 5.4, etc.
[28] انظر استخدام مصطلح ’طبيعة‘ (φύσις) في الفكر الإسكندري:
See my Theology in Reconciliation, 1975, pp. 241f, 247ff; Archbishop Methodios Fouyas, The Person of Jesus Christ in the Decisions of the Ecumenical Councils, 1976, pp. 65ff.
29 Cf. Hilary, De Trin., especially books 1-4,
وفي هذه الكتب الأربعة، يعرض القديس هيلاري المعرفة اللاهوتية بشكل مميز جداً.
30 Augustine, De Trin., 7.5; In Jn. Ev., 27.9; 29.6; 40.9; De lib. arb.,
2.2.6; De div. quaest., 48; In Ps., 118, 18.3; Ep., 120.1, 3, etc.
31 Hilary, De Trin., 1.18; 2.6f; 3.9f, 23; 4.14, 36; 5.20f; 6.13-16; 8.52.
[32] رو 5:1؛ 26:16.
33 Cf. Clement Alex., Strom., 2.2ff, 6, 11f; 8.3; and Augustine, De spir. et litt., 21.54; 34.60.
34 Hilary, De Trin., 6.34; see also 4.6.14.
35 Hilary, De Trin., 6.36f; cf. 2.22f; 6.20f; and ‘The Liturgy of St James’
E. Brightman, Liturgies of Eastern and Western Churches, 1896, p. 54:
حيث إن ’الكنيسة الجامعة الرسولية‘ هي أيضاً تقول أنها تأسست على ’صخرة الإيمان‘.
38 Hilary, De Trin., 4.14; 5.4, 7; 8.52.
39 Hilary, De Trin., 1.6, 16; 2.2ff, 12, 24ff, 52ff.
40 Cf. Clement Alex., Strom., 7.16.
41 Athanasius, Con. Ar., 4.12:
“لأن ما يُعطى إنما يُعطى من خلال الابن؛ ولا يوجد شيء ما يعمله الآب إلاّ من خلال الابن؛ ولهذا فإن النعمة محفوظة (ومؤمنة) لذاك الذي يقبلها”.
[42] غل 9:1.
43 Athanasius, Ap. con. Ar., 49; De decr., 2.5; Ad Ep. Aeg., 2; Ep., 2.6; Theodoret, Hist. eccl., 1.3; 2.6; 5.10.
45 Athanasius, Ad. mon., 1.1-3.
46 Athanasius, Con. Ar., 2.15; 3.28, 35, 58; cf. also my discussion of this in Reality and Evangelical Theology, 1982, pp. 106ff.
47 Athanasius, De vit. Ant., 77-80.
48 Hilary, De Trin., 1.7-16; 2.5-11; 3.1-6, 18-26.
49 Hilary, De Trin., 1.8, 12; 2.5ff, 11.
50 Hilary, De syn., 65; De Trin., 3.18; 10.53; 11.44-47; 12.24-37.
51 Hilary, De Trin., 2.1-5; 10.51-53.
53 Cf. G. Florovsky, Bible, Church, Tradition: An Eastern Orthodox View, 1972, on ‘the scriptural mind’ and ‘the catholic mind’, pp. 9ff, 57f.
* إن الإيمان المسلَّم للكنيسة لم يكن مجرد مقولات عقيدية، ولكن كان هو الحياة الجديدة في المسيح، أي الحياة التقوية بحسب الحق المؤسس عليه هذا الإيمان، وهو ما سُمي ’وديعة الإيمان‘. إذن ففي الإيمان الصحيح تكون هناك المعرفة الصحيحة والتقوى السليمة، وهذه التقوى بدورها تقوم بحفظ الإيمان السليم والتعليم الصحيح من أي انحراف. (المترجم)