485- كيف يطلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة؟ وهل يسر الله بالذبائح البشرية؟
قال زينون كوسيدوفسكي ” أما قصة إسحق وكبش الفداء.. حيث يعرض يهوه المخلص لامتحان فظيع القساوة، لا يتوافق أبدًا مع كون الرب لطيفًا بعباده رحيمًا بهم.. إننا نعرف اليوم أن قصة إسحق ليس إلاَّ آخر صدى لطقس من طقوس عبادة بربرية، وقد استطعنا من خلال الاكتشافات الأثرية الوصول إلى منشئه. ففي بلاد ما بين النهرين وسورية وأرض كنعان، عُرف طقس قديم جدًا يقوم على تقديم الأولاد البكر قرابين للآلهة. وخلال التنقيبات في جازر -مركز العبادات والطقوس الكنعانية الأم- وُجدت أوعية تحتوي على هياكل عظمية لأطفال بعمر ثمانية أيام قدموا قرابين للآلهة، كما كان الأولاد يقدمون قرابين للآلهة بمناسبة إعمار المعابد والمباني العامة.. إن الكنعانيين يقفون على درجة من سلم الحضارة أعلى بكثير من قبائل العبرانيين الرُحل، فهم بالرغم من أنهم مارسوا طقس تقديم القرابين البشرية، فقد سكنوا المدن وكانوا صناعًا مهرة وعملوا بالزراعة.. ويبدو أن إبراهيم حاول مقاومة ذلك التأثير، وقد انعكس موقفه ذاك في قصة إسحق”(1).
ج:
1- هل يوافق الدكتور محمد مخلوف (الذي ترجم كتاب زينون) على استنكار زينون تقديم إبراهيم ابنه ذبيحة..؟! إن كان يوافقه، فهو في هذا يخالف القرآن الذي يؤمن به، والذي أكد قصة تقديم إبراهيم ابنه ذبيحة ” فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي قال يا ابني إني أرى في المنام أني أذبحك فأنظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تُؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.. وفديناه بذبح عظيم” (سورة الصافات 101 – 107) وإن كان الدكتور محمد مخلوف يختلف مع زينون في فكره هذا، فلماذا لم يسجل اعتراضه في هامش الكتاب؟!
2- لا يسر الله بالذبائح البشرية، ولم يكن الله ينوي قط أن إبراهيم يذبح ابنه، إنما كل ما أراده الله هو إظهار عظم إيمان إبراهيم، وعظم طاعة إسحق، وفعلًا ظهر إيمان إبراهيم إلى الدرجة التي كان مستعدًا أن يضحي بابنه الذي أنجبه في شيخوخته على مذبح الإيمان بالله، واثقًا أنه حتى لو ذبح ابنه، فإن الله قادر أن يبعثه من الموت، وبهذا الإيمان قال للغلامين ” أنا والغلام نذهب ونسجد. ثم نرجع إليكما” (تك 22: 5).
ويقول ” هيربرت وولف“.. ” وعندما نعود إلى إبراهيم ونتأمل في موقفه من تقديم ابنه وحيده ذبيحة، نشعر بمدى ما كان يكابده من ألم ومدى الحيرة التي ألمت به من جهة تنفيذ أمر الله له ومن جهة العهد الذي قطعه الله معه. لماذا إذًا كان وعد الله له أنه بنسله تتبارك الأمم؟ وكيف يطالبه الله نفسه صاحب هذا العهد بأن يقدمه ذبيحة له؟ لقد كان هذا اختبارًا قاسيًا لإبراهيم (تك 22: 1) ولكن ما أسرع ما عرف الله ما في قلب إبراهيم من حب له وطاعة كاملة لما طلبه منه وقوة الإيمان الذي يحمله في قلبه من جهة وعد الله له وأنه صادق في مواعيده. وأن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم، وهكذا رجع إسحق حيًا. كما علينا أن ندرك حقًا كيف أن الله منح إسحق الحياة وهو في رحم سارة الميت، أن الله الذي بقدرته المعجزية جعل سارة تحمل وتلد إسحق في شيخوختها. كان يمكنه أيضًا أن يقيم إسحق من بين الأموات. هذا كان إيمان إبراهيم، فهل كان هذا الإيمان وراء قول إبراهيم لغلاميه (تك 22: 5) {أما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما}“(2)(3).
3- كان تقديم إبراهيم ابنه إسحق ذبيحة رمزًا لتقديم الآب السماوي لابنه يسوع المسيح ذبيحة على عود الصليب فهكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الحبيب، ويُظهر “هيربرت وولف” إعجابه بالإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين ” لقوة روح الإثارة التي فيه ولأهميته اللاهوتية، إذ أنه يرينا هنا مدى محبة وإخلاص إبراهيم لإلهه، وفي ذات الوقت نرى محبة إلهيَّه قوية للإنسان، إذ نرى هذا الإله المحب، ذاته، ذاك الإله الذي منع إبراهيم وأوقفه عن ذبح ابنه إسحق، هو نفسه الذي قدم ابنه من أجلنا كلنا (رو 8: 32) وفي (عب 11: 17) نجد تماثلًا واضحًا بين إسحق ويسوع إذ أن إسحق يُسمى بالابن الوحيد لإبراهيم (تك 22: 2) كذلك نجد نفس اللقب يُطلق على السيد المسيح (يو 3: 16) ” بذل ابنه الحبيب”.. وعندما نرى إبراهيم وهو يصطحب ابنه إسحق لجبل الموريا نشعر بمدى الألم الذي كان ينتابه، ونشعر كذلك في نفس الوقت بما كان يشعر به الله الآب وهو يرسل الابن الكلمة على عود الصليب. إن هذه الصورة التي نراها في العهد الجديد هي نفسها تلك الصورة التي صُوّرت لنا في سفر التكوين عن إبراهيم وإسحق”(4)(5).
4- صارت محبة إبراهيم لله وطاعته له، وإيمانه العظيم هذا، بالرغم من قسوة الطلب، مضربًا للأمثال، على مدى السنين والأيام لكل أبناء الملكوت.
_____
(1) ترجمة الدكتور محمد مخلوف – الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 62، 63.
(2) AN INTRODUCTION TO THE OLD TESTAMENT PENTATEUCH, P 118.
(3) ترجمة خاصة بتصرف قام بها الأستاذ بشرى جرجس خليل أستاذ اللغة الإنجليزية بإكليريكية طنطا.
(4) AN INTRODUCTION TO THE OLD TESTAMENT PENTATEUCH, P 117 – 118.
(5) ترجمة خاصة بتصرف قام بها الأستاذ بشرى جرجس خليل أستاذ اللغة الإنجليزية بإكليريكية طنطا..