التقليد عند القديس ايريناؤس – بيتر سمير
التقليد عند القديس ايريناؤس – بيتر سمير
نحن لم نتعلم خطة خلاصنا من أحد آخر سوى أولئك الذين بواسطتهم وصل إلينا الإنجيل الذين كانوا يكرزون به أولا أمام الناس جهرا وبعد ذلك في وقت لاحق سلموه إلينا بمشيئة الله في الكتاب المقدس ليكون عمود إيماننا وقاعدته. [1]
يتحدث القديس إيريناؤس صراحة أن كتاب العهد الجديد الذي سلم للكنيسة لاحقا هو العقيدة التي بشر بها الرسل أولا شفاهة وبعدها يتحدث عن الهراطقة وكيف انهم يطعنون في ذلك التقليد المسلم لنا والذي تم حفظه من خلال القسوس في الكنائس فيقول:
وحينما نحيلهم إلى ذلك التقليد المسلم من الرسل والمحفوظ بواسطة تسلسل القسوس في الكنائس فانهم يعارضون التقليد ويقولون انهم هم أنفسهم احكم من القسوس وأكثر من ذلك انهم احكم من الرسل لأنهم كما يدعون قد اكتشفوا الحق غير المغشوش لأنهم يقولون إن الرسل مزجوا أمور الناموس بكلمات المخلص. [2]
وبالتأكيد فهو هنا يتحدث عن التقليد عامة وليس الكتاب المقدس خاصة لأنه لو كان يتحدث عن الكتاب فقط لكان قد قال انه محفوظ عبر الكتابات المسلمة لنا ولكننا نجده يتحدث عن شيء عمومي أكثر وبالتأكيد يمكننا استشفاف أن ذلك التقليد المسلم لا يحوي فقط الكتاب المقدس..
ويؤكد على نفس الفكرة في قوله:
لذلك ففي استطاعة الجميع في كل كنيسة الذين قد يرغبون أن يدركوا الحق أن يتأملوا بوضوح في تقليد الرسل الموجود في كل العالم ونحن يمكننا أن نحصي أولئك الذين أقيموا أساقفة من الرسل في الكنائس ونبين تسلسل هؤلاء الأساقفة من الرسل إلى عصرنا الحالي. [3]
وهنا يشدد على فكرة التسلسل وان هذا التسلسل هو الذي يخبرنا أن التقليد المسلم وصل إلينا سالما كما يقول الحكيم بولس لتلميذه تيموثاؤس: فَتَقَوَّ أَنْتَ يَا ابْنِي بِالنِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا. (2 تيموثاوس 2: 1-2).
ويكمل القديس إيريناؤس كلماته بذكر مثال بسيط لأساقفة كنيسة روما وبعدها يقول:
بهذا الترتيب وبهذا التسلسل وصل إلينا التقليد الكنسي من الرسل وكرازة الحق سلمت إلينا وهذا برهان كبير جدا بانه يوجد إيمان واحد وهو نفس الإيمان المحيي الذي حفظ في الكنيسة من الرسل إلى الآن وسلم بالحقيقة. [4]
حيث انه عندنا هذه البراهين فلا داعي للبحث عن الحق عند آخرين بينما من السهل الحصول عليه من الكنيسة حيث أن الرسل مثل رجل غنى يودع أمواله في بنك وضعوا في أيدي الكنيسة كل الأمور المتصلة بالحق بوفرة كبيرة جدا حتى أن كل من يريد يمكنه أن يأخذ منها ماء حياة. انظر رؤ ٢٢: ١٧. فهي المدخل إلى الحياة وكل الاخرين هم سراق ولصوص ولهذا يجب علينا أن نتجنبهم وان نختار الأمور المختصة بالكنيسة بكل اجتهاد ونتمسك بتقليد الكنيسة
(فلنلاحظ الألفاظ فهو عندما يتحدث دوما عن التقليد المسلم لا يتحدث على كتابات فقط بل عن مفهوم أكثر عمومية يضم في طياته أكثر من الكتابات وسيظهر ذلك أكثر لاحقا)
فكيف يقوم الأمر فاذا افترضنا انه أثير جدال حول مسألة هامة بيننا ألا ينبغي أن نرجع إلى أقدم الكنائس التي كان الرسل على اتصال مستمر بها ونعرف منهم ما هو أكيد وواضح من جهة هذه المسألة الهامة؟ فماذا لو أن الرسل أنفسهم لم يتركوا لنا كتابات؟ ألا يكون ضروريا في هذه الحالة أن نتبع التقاليد التي سلموها لأولئك الذين سلموهم الكنائس؟
(تبدأ الآن الفكرة بالاتضاح أكثر فهنا بتحدث صراحة ماذا لم يكن هناك كتابات من الأساس؟ ويكمل أننا بالتأكيد سوف نعود للأصل الذي سلم إلينا بتسلسل من الرسل. الكلمات هنا لا تحقر من الكتابات ولكنها تتحدث عنها كجزء من كل وليست كل من كل..)
وما هو الاتجاه الذي تقبله أمم كثيرة من البرابرة الذين يؤمنون بالمسيح، وهؤلاء عندهم الخلاص مكتوبا في قلوبهم بالروح، بدون ورق أو حبر، وهم يحافظون على التقليد القديم بكل حرص، مؤمنين بإله واحد، خالق السماء والأرض، وكل ما فيها بيسوع المسيح ابن الله؛ الذي بسبب محبته الفائقة لخليقته تنازل ليولد من العذراء، وهو نفسه، وحد الإنسان بالله بواسطة نفسه، وتألم على عهد بيلاطس البنطي، وقام، وصعد بمجد، وسوف يأتي في مجد، وهو مخلص الذين يخلصون، وديان الذين يدانون، ويرسل إلى النار الأبدية أولئك الذين يحولون الحق ويزدرون بأبيه، ويزدرون بمجيئه.
هؤلاء الذين بدون وثائق مكتوبة قد صدقوا هذا الإيمان، هم برابرة من جهة لغتنا، أما من جهة العقيدة، والأخلاق واتجاه الحياة، فهم حكماء جدا بسبب الإيمان، وهم يرضون الله، ويدبرون كل سيرتهم بكل بر، وعفة، وحكمة. فلو أن أحدا أراد أن يعلم اختراعات الهراطقة لهؤلاء الناس، متحدثا إليهم بلغتهم، فإنهم يغلقون آذانهم في الحال، ويهربون بعيدا بقدر الإمكان، ولا يحتملون حتى أن يصفوا إلى الحديث التجديفي. وهكذا، فبواسطة تقليد الرسل القديم هذا، هم لا يحملون عقولهم مشقة معرفة أي شيء من التعاليم التي تحملها اللغة الثقيلة لهؤلاء المعلمين، الذين لم تنشأ عندهم أي كنيسة ولا ثبت أي تعليم. [5]
(أخيرا يشرح أن الإيمان الكامل من الممكن أن يصل للكثيرين بدون الكتابات من الأساس وهذا يثبت أكثر من شيء أولهم كما قلنا إن الكتابات جزء من كل. هذا الكل وهو التقليد كل جزء من أجزائه تقود للإيمان الكامل. الشيء الثاني أن ليس هناك جزء اعلى من آخر فان كان كل جزء من التقليد يقوم بتقديم الإيمان بصورة كاملة صحيحة فإذن كل تلك الأجزاء متساوية)
لذلك، حيث إن تقليد الرسل موجود في الكنيسة، وهو دائم بيننا، فلنعد إلى برهان الكتاب الذي تركه لنا الرسل وهم أيضا الذين كتبوا الإنجيل، الذي سجلوا فيه العقيدة الخاصة بالله، ذاكرين أن ربنا يسوع المسيح هو الحق (يوحنا 14: 6) ولا كذب فيه. كما يقول داود أيضا متنبئا عن ميلاده من عذراء، وقيامته من الأموات: الحق من الأرض ينبت (المزامير 85: 11) [6]
(نلاحظ هنا تمييزا ملحوظا بين التقليد والكتاب وكأنهم مختلفون عن بعضهم البعض ولكن عند التدقيق في قوله إن تقليد الرسل موجود في الكنيسة وبعدها فلنعد إلى برهان الكتاب. فمعنى ذلك أن بينهما ارتباطا ما وان كان التقليد هو الذي يوجد في كل كنيسة فإذن نستنتج ببساطة أن تلك الكتابات هي جزء من تقليد يحويها وهي تحوي الإيمان الذي به.
كما يقول سجلوا فيه العقيدة الخاصة بالله، ذاكرين أن ربنا يسوع المسيح هو الحق ولكي نؤكد الفكرة أكثر فلنسال سؤالا هاما ما هو تقليد الرسل الموجود في كل كنيسة بل والأكثر قبلها يقول في كل العالم؟
في ضوء قوله قبلا أن الإيمان وصل إلى البرابرة دون كتابات سنجد أن هذا التقليد لا يمكن إلا أن يكون تعاليم الرسل التي سلمت جيلا بعد جيل وعنصرا آخر نكتشفه وهو الليتورجيا والفن الكنسي. فكيف يمكن لهؤلاء البرابرة وغيرهم من ذوي اللغات الأخرى أو الذين لا يعرفون القراءة من الأساس دون كتاب أن يحافظوا على الإيمان بشكل كامل إلا بالصلاة به كل حين وإدخاله إلى كل نواحي الحياة الدينية من أيقونات وشكل بناء الكنائس وغيرها)
هل يمكننا معرفة ما هي أجزاء التقليد مما سبق؟
أولا: الآباء وهذا يشمل كل تعليم الرسل الشفاهي الذي تم تسليمه جيلا بعد جيل الذي أصبح كتابيا فيما بعد في كتابات الآباء الرسولين والآباء الأوائل.. وهنا الأمر ينقسم لجزئين التقليد الشفاهي الذي بشر به الرسل وسلموه للآباء الرسولين وهم تلاميذ الرسل ثم الآباء الأوائل والجزء الثاني هي كتابات الآباء التي نقلت لنا ذلك التقليد ودافعت عن إيماننا أيضا وتعمقت في شرحه أكثر وشرحت بقية مصادر التقليد. ونحن هنا نتحدث عن الآباء الذين تم الاتفاق على اتفاق إيمانهم مع إيمان الرسل وكيف علمنا ذلك؟ سنرى بعد قليل.
ثانيا: الليتورجيا وكل ما بها من صلوات وطقوس ونظام يحوي في داخله الإيمان الكامل المسلم من الرسل.
ثالثا: الفن الكنسي من أيقونات وأشكال بناء الكنائس الخ.
رابعا: الكتابات المقدسة وهي العهد القديم والعهد الجديد الذي كتب بأيدي تلاميذ السيد والرسل الأطهار القديسين وهنا نذكر قصة الخصى الحبشي مع فيلبس (أع 8: 26-39) فنجد أن ذلك الرجل تسلم الإيمان دون قراءة حرفا واحدا من العهد الجديد بل قام فيلبس الرسول بشرح الإيمان للرجل مما كان يقرأه الرجل من العهد القديم.
خامسا: المجامع الكنسية: وهنا نتحدث عن المجامع المتفق عليها من الجميع والتي صاغت الإيمان في قانون يتلوه الجميع وحفظته سالما لأجيال وأجيال وصاغت قوانين أخرى كلها وضحت إيماننا وحافظت عليه..
وكما شرحنا قبلا وأثبتنا ذلك من كتابات القديس إيريناؤس أن ليس جزء اعلى من آخر وكل جزء بقدرته إيصال الإيمان كاملا إلى متلقيه دون أي نقصان وان في هذا عجبا فكما يقول بولس الرسول: اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآباء بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، (عب 1: 1-2) فان الله دوما يصل للبشر بكل الطرق وهذا يعلن عن فائق عمق محبته للبشر وكيف انه يريد التواصل معهم دائما بكل الطرق التي تناسبهم وليست التي تناسبه هو..
أما من ناحية السلامة والحفظ فكيف يمكن تزوير خمسة مصادر للإيمان دفعة واحدة ولكننا هنا أمام امر معجزي عجيب من فعل الله وهو حفظ الإيمان من خلال مصادر عدة حتى إذا تم التزوير أو التخريب البشرى في أحدهم وجدنا إيماننا مازال محفوظا دون نقصان لان الله قد ثبته.
وهنا يقول بولس الرسول عندما كان يتحدث عن أشخاص لا يؤمنون بقيامة الأجساد: الَّذِينَ مِنْهُمْ هِيمِينَايُسُ وَفِيلِيتُسُ، اللَّذَانِ زَاغَا عَنِ الْحَقِّ، قَائِلَيْنِ: «إِنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ صَارَتْ» فَيَقْلِبَانِ إيمان قَوْمٍ. وَلكِنَّ أساس اللهِ الرَّاسِخَ قَدْ ثَبَتَ (تيموثاوس 2: 17 – 19) فاذا شككنا في عدم اتفاق إيمان أحد الآباء مثلا مع الإيمان المسلم يمكننا ببساطة العودة إلى الليتورجيا أو الفن الكنسي أو الكتاب المقدس أو المجامع أو كتابات بقية الآباء فجميع ما سبق يقودوا إلى نفس الإيمان..
أما عن فكرة هل الكتاب المقدس هو الأعلى أم لا فأخيرا يمكننا القول إن الأمر مرتبط بالإنسان ذاته والى ميله لارتباطه بكتاب مقدس يعبر عن معتقده وإيمانه منذ بدء عصور الكتابة وربما يعود الأمر إلى قدرة الكتابة على حفظ المعتقدات لمدة أطول وأشياء كثيرة أخرى جعلت الكتاب المقدس بالنسبة للمسيحيين هو أساس إيمانهم وهو بالتأكيد أساس إيمان كامل وقوى.
ولكن ما أردنا توضيحه انه ليس وحده هو الأساس الكامل القوى للإيمان كما يظن البعض أو هو اعلى من كل مصادر التقليد كما يظن البعض أيضا فيمكن لأي شخص استقاء الإيمان الكامل من مصادر التقليد الأخرى دون قراءة حرف واحد من الكتاب المقدس كما رأينا.
[1] ضد الهرطقات الكتاب الثالث. الفصل الأول. ص16
[2] ibid. الفصل الثاني. ص17
[3] ibid. الفصل الثالث. ص18
[4] ibid. ص20
[5] ضد الهرطقات الكتاب الثالث. الفصل الرابع. ص22-23
[6] ibid. الفصل الخامس. ص24