لمحة سريعة حول التعاليم عن الثالوث في القرون الأولى المسيحية – دكتور ميشيل بديع
عقيدة الثالوث القدوس – دكتور نصحى عبدالشهيد
الثالوث عند القديس أثناسيوس – دكتور: وهيب قزمان
عقيدة الثالوث القدوس والليتورجيا* (الإفخارستيا) – دكتور جوزيف موريس
الثالوث عند القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس – دكتور موريس تاوضروس
الثالوث القدوس في حياتنا – دياكون مجدي وهبه
لقد كان القرن الرابع للميلاد هو بداية حسم الكنيسة الجامعة بشأن التعاليم عن عقيدة الثالوث حيث إن آباء ومعلمي الكنيسة وضعوا حدًا للنزاع حول تعاليم الثالوث وكان هذا واضحًا في المجمع المسكوني الأول بنيقية 325م والثاني بالقسطنطينية 381م حيث وضعوا الأساس السليم الذي سارت عليه الكنيسة حتى الآن وهو ” قانون الإيمان نيقية /القسطنطينية “.
وهنا نتساءل أين تكمن المشكلة التي سببت النزاعات والصراعات حول عقيدة الثالوث خاصة في القرن الرابع الميلادي بظهور بدعة أريوس؟ المشكلة الرئيسية منحصرة في السؤال: كيف أن يسوع المسيح يمكن أن يكون هو الله وهو إنسان؟
وفى الواقع إن ألوهية المسيح ذُكر عنها في العهد الجديد وأيضًا قال عنه الآباء المدافعون أنه ” الكلمة LogoV “. فكيف إن الله تجسد؟ كيف يتخذ الطبيعة البشرية ويصير إنسانًا؟ هذا كله يقودنا إلى أن نستعرض في إيجاز شديد تعاليم الثالوث منذ القرون الأولى للمسيحية وحتى مجمع القسطنطينية الثاني 381م.
أولاً يجب أن نعرف أن المسيحيين الأوائل الذين اهتدوا من اليهودية إلى المسيحية كانوا يُسمون موحدين Monotheis (مذهب التوحيد) مع ملاحظة أن هناك فرقًا كبيرًا بين فكر المسيحيين الأوائل وبين اليهود حول معتقد التوحيد ولكن كانت لكليهما هذه الفكرة أيّ ” التوحيد ” ضد المعتقد الوثني ” مذهب التعدد ” Polytheisum.
المسيحيين الأوائل لم يعتقدوا فقط بالمفهوم اليهودي عن الله ” أيّ الوحدانية ” ولكن آمنوا أيضا بيسوع المسيح والروح القدس وكانوا يشددون دائمًا على وصية المسيح حول المعمودية كأساس لعقيدة الثالوث. فالمسيح بالنسبة لهذه الجماعات المسيحية الأولى كان هو المسيا. فهو كائن مع الآب في شركة لا تنحل كما يسجل ذلك يوحنا الإنجيلي: المسيح أن كان في البدء عند الله (يو1:1ـ18).
من القرن الثاني إلى الثالث كان هناك اتجاه في روما لم يقبل اللوغوس ـ خريستولوجي. وأيضًا لاهوتيى آسيا الصغرى لم يتفقوا على كيفية وبأي طريقة يمكن التعبير عن ألوهية المسيح. ففي كتاب ” تفنيد جميع الهرطقات ” لهيبوليت يذكر أن ثيوديت Theodot البيزنطى يقول مع الجماعات الغنوسية: يسوع ولد إنسانًا بحسب إرادة الآب ومن مريم العذراء. ولأن يسوع كان تقيًا للغاية ارتفع إلى درجة الابن بسبب إرادة الآب بمعنى أنه حدث له تبنى (Adoption). ففي المعمودية، ” يسوع ” حل عليه الروح في شكل حمامة.
أما ” نويت ” Noet من أزمير فيقول إن الآب والابن هما صورتان لظهور الله، والثالوث بالنسبة له هو ترتيب زمني حيث يبرز الله منه. فالله هو الكل قبل كل شيء وكل ما ظهر منه هو دائمًا الله. لكن سابيليوس الذي كان على صلة بــ” نويت ” أراد أن يدافع عن وحدة الله ضد نظرية اللوغوس فصاغ الاصطلاح uiopatwr ” إيوباتير” أيّ الآب والابن: الأشخاص الثلاثة هم فقط ثلاثة ظهورات للإله الواحد.
أما في شمال إفريقيا فيعتبر ترتليان هو أول من صاغ في الغرب أفضل تعبير عن العلاقات بين اللاهوت الواحد والثلاثة أشخاص الإلهيين فكتب هذه العبارة باللاتينية Una substantia – tres personae. وقد نادى ترتليان بوحدة الله، ولكن هذه الوحدة هي وحدة الأقانيم، فإن الله هو آب وابن وروح قدس، هؤلاء الثلاثة أقانيم هم إله واحد، الله الواحد المثلث الأقانيم من جوهر واحد.
وفى هذا يقول: ” أؤمن بأنه يوجد جوهر واحد في الثلاثة “. ويعتبر ترتليان أول كاتب كنسي لاتيني يستعمل اصطلاح “التثليث ” ويعتبر أول من استخدم الاصطلاح Persona الذي يمكن أن نسميه أقنومًا.
وفى الإسكندرية علّم أوريجينوس أن اللوغوس منبثق من الآب وهذا الانبثاق لا يعد تقسيمًا في ذات الله بل إن هذه العملية هي عملية روحية. فالابن هو صورة الله الغير منظورة وهو أيضًا حكمة الله. فالابن بالنسبة للآب هو الحق. أما بالنسبة لنا فهو الذي يقودنا إلى الحق. وهذا الابن هو ابن أزلي، لا بداية له، وهو موجود منذ الأزل ولا يوجد وقت ما لم يكن الابن موجودًا فيه.
وهنا نلاحظ مبدأ مرفوض من قبل أوريجينوس وعلّم به فيما بعد أريوس وهو أنه يوجد وقت ما لم يكن الابن موجودًا فيه. كما أنه يرفض عقيدة التبنى أيّ أن يسوع المسيح ابن بالتبني وليس بالطبيعة. ويقول أوريجينوس: ” بما أن الحكمة انبثق من الله فهو الله، ومولود من جوهر إلهي “.
في بداية القرن الثالث ظهر في الكنيسة الغربية هيبوليتس حيث تعهد بمحاربة بدعة الـModalism التي اعتقدت أن الآب والابن والروح القدس ليسوا ثلاثة أقانيم بل ثلاث هيئات أظهر الله فيها نفسه. فإن الله الآب هو نفسه الله الابن هو نفسه الله الروح القدس.
ولكي يهدم هيبوليتس هذه النظرية التي لا تميز البتة بين الآب والابن والروح القدس فقد شدد على التمييز بين الأقانيم وإنها لا تعبّر عن حالة أو عن هيئة أو مرحلة وُجِدَ فيها، أو مر بها نفس الشخص، بل إن هذه الأقانيم الثلاثة حقيقة إلهية وإن الآب ليس هو الابن ولا الابن هو الروح القدس، فإن هؤلاء الثلاثة ثلاثة أقانيم وليسوا ثلاث طرق ظهر بها الله.
أما القرن الرابع الميلادي فقد شاهد أكبر صراع وانشقاق في صفوف الكنيسة بظهور أريوس، وقد حُسم هذا الصراع في المجمع المسكوني الأول بنيقية 325م.
النقطة الرئيسية في تعاليم أريوس هي التشديد على علو مكانة الله. وانبثقت تعاليمه من تعاليم الوحدانية حيث قال: ” الله وحيد، غير مخلوق وغير مولود agennhtoV “. وقال في قانون الإيمان الخاص به: ” نحن نعترف بإله واحد، الوحيد الغير مولود، الوحيد الأبدي، الوحيد الذي ليس له بداية، الوحيد الحقيقي، الوحيد غير المائت، الوحيد الحكيم، الوحيد الصالح، الرب الوحيد، العادل الوحيد “.
وفهم أريوس أن كلمة الله QeoV تعنى الله ـ الآب فقط. لأن جوهره مُطلق ومنزه وغير متغير وهذا لا يمكن أن يشترك فيه مع أحد. كل شيء يُوجد خارج الله المنزه، يجب أن يُخلق وهذا يعنى أن يوجد من العدم. وبحسب أريوس فإن الابن أخذ وجوده بطريقة غير مباشرة من الآب، ولكن لم يولد من جوهر الآب. فالابن مخلوق من العدم ولهذا يسميه أريوس مخلوق.
كان البابا ألكسندروس في ذلك الوقت هو رئيس أساقفة الإسكندرية وقد وصفه بونيفاس بالقول إنه كان شيخًا ضعيفًا ومريضًا. ولو لم يكن الشاب أثناسيوس المتقد غيرة وحماسة بجانبه لمرت الأمور دون أن يعرها أحد اهتمامًا كبيرًا. وعندما سمع ألكسندروس بتعاليم أريوس، وناقش معه فحوى تعاليمه المضللة ولكن أريوس رفض الرجوع عن تعاليمه. وفى 19 يونيو 325م دعا قسطنطين إلى مجمع مسكوني في نيقية وناقش المجمع مشكلتين رئيسيتين:
1ـ النزاع الأريوسي.
2ـ تحديد الاحتفال بالفصح.
وقد أكد مجمع نيقية على مساواة الآب والابن. وفى قرارات المجمع أضاف الآباء في نص قانون الإيمان التالي:
“نؤمن.. برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد المولود من الآب، الذي هو من جوهر الآب، … إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، واحد مع الآب في الجوهر، الذي به صار كل شيء ” وفى نهاية قانون الإيمان النيقاوي أُضيفت حروم ضد الأريوسية:
“محروم كل من يقول: إنه كان هناك وقت لم يكن موجودًا فيه، … أو إنه يكون من أقنوم أو جوهر آخر، أو إن ابن الله مخلوق، متحول أو متغير “.
وقد كان القديس أثناسيوس الرسولي بارعًا في تفنيد بدع الأريوسيين وكتب عدة كتب ضد أريوس والأريوسية بالإضافة إلى دوره الرائد في مجمع نيقية المسكوني.
بالنسبة لموضوع الروح القدس فقد كان الكلام عنه ضيئلاً في مجمع نيقية المسكوني بسبب انشغال الكنيسة بالرد على هرطقة أريوس. وقد توقف المجمع في قانون الإيمان عند عبارة ” وبالروح القدس ” فنتج عن ذلك عدم وضوح تام. وعلى ما يبدو فإن الهرطقة الأريوسية تناولت موضوع الروح القدس بالإضافة إلى الابن حوالي عام 356 أو بعده بقليل. فقد اعتبر بعض الهراطقة أن الروح القدس خليقة ذات كرامة وسلطان، أو كائنًا وسطًا لا إلهًا ولا خليقة.
وجماعات هراطقة الروح القدس يسمونهم “أتباع مقدونيوس ” نسبة إلى مقدونيوس أحد أساقفة القسطنطينية (342ـ360). وقد رفع الأريوسيين مقدونيوس إلى كرسي القسطنطينية ظنًا منهم أنه يتبعهم لأنه كان يجدف مثلهم على الروح القدس بقوله إنه مخلوق ولكنهم طردوه عاجلاً لأنه لم يكن يحتمل إنكار لاهوت الابن وقد عُزل نهائيًا من قبل الآريوسيين عام 360.
وكانت هناك فئة أخرى تحارب لاهوت الروح القدس وظهروا في مصر وكانوا أولاً من محاربي عقيدة نيقية المتعلقة بلاهوت الابن ثم انفصلوا عنهم عام 358 إلاّ أنهم بقوا ينكرون لاهوت الروح القدس. وقد عمل أثناسيوس على دحض بدعتهم، فقام مجمع محلى في الإسكندرية عام 362م وحكم عليهم محرمًا الذين يقولون بأن الروح القدس مخلوق ومنفصل عن جوهر المسيح وقد سماهم أثناسيوس ” التروبيك “، في رسائله إلى سرابيون أسقف تيميس، نسبة لكلمة يونانية تعنى اللعب على الألفاظ وتفسير الآيات بغير معناها.
ولكن ما هي أفكار كل من “المكدونيين” و “التروبيك”؟
يقول المقدونيون إن الروح القدس مشابه للآب والابن ولكن ليس في جوهرهما وطبيعتهما. ويرفضون إدخال الروح القدس في ألوهية الثالوث الأقدس ويؤكدون أن الروح أدنى من الآب والابن في الكرامة وإنه خادم ويطبق عليه كل ما يقال عن الملائكة.
أما التروبيك فيعتقدون أن الروح القدس ليس إلهًا كالآب والابن وليس من جوهر وطبيعة الآب والابن لكنه من الكائنات التي أُوجدت من العدم.
وفى عام 381 دعا الإمبراطور ثيئودوسيوس لعقد مجمع مسكوني في القسطنطينية وكان يضم حوالي 150 أسقفًا وتولى رياسة جزء من هذا المجمع الأسقف غريغوريوس النزينزي. وحرص المجمع على متابعة نص دستور الإيمان مركزًا على الروح القدس ومؤكدًا أنه غير مخلوق وإنه أقنوم من أقانيم الثالوث.
وقد دار نقاش حول عبارتين يونانيتين: ” سينوسيوس ” أو وحدة الأقانيم الثلاثة في الجوهر بحيث لا متسع لأي تمايز بين أقنوم وآخر، وعبارة ” هومووسيوس ” أو أن أقانيم الثالوث لها جوهر واحد وطبيعة واحدة مع وجود تمايز بين أقنوم وأقنوم آخر. فالقضية كما أكد المجمع ليست بحثًا فيمن هو الله بل هي بحث في كيف نعرف الله من خلال الكتاب المقدس والتقليد الشفاهي.
وقد قرر آباء المجمع المسكوني الثاني قبول إيمان قانون الإيمان النيقاوى ثم أضافوا إليه الفقرة الخاصة بإيضاح ألوهية الروح القدس “… الروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب مسجود له وممجد مع الآب والابن، الناطق في الأنبياء “.