هل يمكن إلقاء الضوء على بعض الاكتشافات الأثرية التي أكدت الحقائق الكتابية؟
الاكتشافات الأثرية التي أكدت الحقائق الكتابية
330- هل يمكن إلقاء الضوء على بعض الاكتشافات الأثرية التي أكدت الحقائق الكتابية؟
ج: لقد تصوَّر وصوَّر النُقَّاد أحداث العهد القديم بأنها من وحي الخيال، وأن بعض القبائل العبرانية البدوية أرادت أن تنسب لنفسها الشرف العظيم، فتخيلت معارك ومدن وانتصارات وهمية، ولكن إن صمت الإنسان فالحجارة تتكلم، وتكلمت الأحجار وانفجرت الحقائق ناصعة البياض من قلب الآثار التي طمرتها الرمال والأتربة والركام، فأكدت ما ورد في الكتاب المقدَّس من أحداث ومدن وملوك ومعارك.. إلخ. وفيما يلي نذكر بعض الاكتشافات الأثرية التي أكدت بعض الحقائق الكتابية:
اكتشافات أوغاريت (راس شمرا) – اكتشافات إبلا – اكتشافات ماري – اكتشافات نوزي – اكتشافات تل العمارنة
1- اكتشافات أوغاريت (راس شمرا):
تقع رأس شمرا شمال اللاذقية بسوريا بنحو عشرة كيلومترات، وقد جاءت هذه الاكتشافات بمحض الصدفة ففي ربيع سنة 1928م كان أحد الفلاحين السوريين يحرث أرضه التي تقع على بعد 12 كم شمال مدينة اللاذقية في منطقة تُدعى ” راس شمرا ” الملاصقة للمنية البيضاء، فاصطدمت سكينة المحراث بحجر على فوهة مدفن أثري، ولم يدري الفلاح أنه أمام كشف أثري عظيم جدًا، وبدأت منذ سنة 1929م مصلحة الآثار الفرنسية في التنقيب، وعلى مدار ثلاثين سنة قام السيد ” كلود ف. أ. شيفر ” باكتشافات مذهلة إذ اتضح أن هذا المكان يمثل عاصمة لمملكة أوغاريت التي ورد اسمها مرارًا في لوحات تل العمارنة باللغة الآكادية، وتم الكشف عن معبد للإله ” بعل ” على التل الرئيسي، وفي الأقداس وضعت تماثيل الآلهة، وقد تم ترميم هذا المعبد، وشرق الهيكل تقع المكتبة التي زخرت بالفخار المشوي وعليها كتابة مسمارية Cuneiform، ثم تم اكتشاف معبد ثان للإله ” داغان ” على بعد 52 مترًا جنوب شرق المعبد الأول، ومنذ سنة 1938م انصبت الأبحاث حول قصر المدينة الذي شغل مساحة 900 متر مربع وحوى 90 غرفة، وتسع ساحات داخلية منها ساحة الشرف المكسوَّة أرضيتها بالبلاط ” وكان الدخول إليه يتم بواسطة خمسة مداخل، يحمل كل واحد منا عمودان وعشر درجات كانت توصل إلى الطابق العلوي، وتحته كانت توجد مدافن الموتى، أما أرض القصر فكانت مزروعة بقطع من أواني الذهب والعاج والألباتر. ولكن أهم اكتشاف كان اكتشاف الوثائق التي كانت تملأ عدة غرف وهي وثائق رسمية تتألف من قوائم ورسائل وعقود مكتوبة بالأوغارتية والأكادية والحورية، وتحمل في أغلب الأحيان أختام الملك. وأكثرها يعود تاريخه إلى العهد المسمى بالعمارنة أعني النصف الأول من القرن الرابع عشر وهي تشهد للعلاقات المستمرة بين مملكة أوغاريت وبلاد الفراعنة”(1).
وهذا القصر تحميه قلعة ضخمة بها مراكز سكنية للجنود ومسكن للحاكم العسكري، ثم تم الكشف عن قصر آخر أصغر حجمًا، ثم قصرًا ثالثًا أقدم من الاثنين فيرجع إلى الألف الثاني قبل الميلاد. كما تم الكشف عن معبدين باسم الإله ” بعل ” والإله ” داجون ” يبعد أحدهما عن الآخر نحو خمسين مترًا، وبالقرب من المعبدين توجد بيوت خاصة برجال الدين وخدام المعبد، ومنها بيت الكاهن الأكبر الذي يحتوي على مكتبة رائعة، وتحت عتبة بيت الكاهن الأكبر عثروا على مستودع للأسلحة والخناجر والرماح والبلطات والمناجل.. إلخ وعلى بعض الأدوات مثل الفؤوس، كما عثروا تحت العتبة أيضًا على بعض الأواني الفخارية، والتماثيل الكبيرة، والمسلات.. كل هذا وُجِد تحت عتبة بيت الكاهن الأكبر.
وتم الكشف عن بعض أحياء المدينة، منها حي بجنوب المدينة للفنانين الذين كانوا يؤلفون جماعات أشبه بالنقابات، وحي بشرق المدينة يسكنه رجال البلاط، وتم العثور على مدافن المدينة المبنية بالحجر المنحوت، ويحتفظ متحف اللوفر بفرنسا بكثير من هذه الاكتشافات مثل علبة العاج التي نُقش على غطائها الإلهة العارية الثديين التي تبتسم وبصحبتها جدي ماعز، ومشجب الذهب المُزدان بصورة مشهد صيد ملكي على عربة، ومشجب ذهب آخر لإلهة عارية تقف فوق أسد وتمسك بيدها جدي ماعز ويلتف حولها حيتان، وتمثال البرونز للإلهة الجالسة التي يلتف حولها الحيات، وتمثال الإله بعل شاهرًا الصاعقة في حالة حرب ومصنوع من الحجر الجير، والفأس المدهشة بشكل رأس الأسد، وأيضًا انتشرت مثل هذه الآثار في متحف دمشق ومدن سورية، ففي حلب توجد مسلة حلزونية تحمل مشهد تقديم قرابين للإله شمس وهو جالس على العرش ويلبس تاجًا يعلوه قرنان، ومن هذه الآثار الفأس المفخمة في غلاف البرونز المرصعة بالذهب ويحمل الغلاف رأسي أسد يقذفان لهبًا، وبعض لوحات العاج التي نُقش عليها شاهد في الحياة الملكية مثل الحرب أو الصيد، والحياة الدينية، والحياة العامة.
أما نصوص أوغاريت فقد كُتبت بلغة لم تكن معروفة وقت الاكتشافات، ولكن أنكب على دراستها ” هانس بوير ” الألماني، وكل من ” إدوار دورم” و”شارل فيرلو ” الفرنسيان، فتكشفوا أنها أبجدية تتكون من 30 حرف.
ويعود تاريخ أوغاريت إلى الألف الرابعة قبل الميلاد حيث امتزج شعب ما بين النهرين بالشعوب الأخرى، وفي سنة 2300 ق.م. قام سرجون الشيخ ونارام بفتوحات وصلت إلى جزيرة قبرص، وكانت هناك علاقات مستمرة بين أوغاريت ومصر، فمن ضمن الآثار التي وُجدت في أوغاريت تمثال الأميرة شنوميت زوجة سنوسريت الثاني ملك مصر، مما يُغلب بأنها من أصل سوري، وأيضًا وُجِد ضمن آثار أوغاريت نصب سيتوسريت عنخ الحاكم والقاضي، وبرفقته زوجتيه، وقد يكون نحته مصريون يقيمون في أوغاريت.
وشمل العصر الذهبي لأوغاريت الفترة من 1440 – 1360 ق.م. حيث ازدهرت المباني وازدانت القصور بالتحف، وخير مثال على ذلك القصر الملكي، ويقابل هذا العصر الذهبي عهد تل العمارنة في مصر، ولذلك جاء اسم أوغاريت مرارًا وتكرارًا في مراسلات فرعون مع ملوك سوريا. وتعتبر أوغاريت مدينة جامعية حيث كان أهلها يتحدثون بجوار لغتهم الوطنية اللغات الأخرى مثل الحورية، والمصرية , والقبرصية، والأكادية، وانتهى العصر الذهبي سنة 1360 ق.م. بحريق مدمر لمدينة أوغاريت.
وقد ساعدت هذه الاكتشافات في فهم أعمق لصور وتعبيرات التوراة، فيقول د. سيد القمني ” وفي أنقاض مدينة ” أوغاريت ” الكنعانية القديمة (تل شمرا حاليًا) تم العثور على ثروة لا تُقدَّر بثمن من المدوَّنات الكنعانية، التي ألقت ضوءًا مباشرًا على أصل ميثولوجيا الخلق التوراتية، وكان أهم ما ورد فيها تطابق الأحداث، حتى اسم أبي البشر (دم) بلفظه ورسمه، وهو كما ورد ” أب آدم ويقرب ” أي ” ويقترب أبو البشر”(2)(3).
ويقول الخوري بولس الفغالي ” غير أن أوغاريت (رأس شمرا) التي اُكتشفت سنة 1929م تركت لنا مكتبة واسعة تحتوي على رسائل ووثائق دبلوماسية وإدارية، وعلى لوائح الآلهة والملوك، وعلى كتب طقوس حول الولادة والزواج، وخاصة أسطورة ملحمية عنوانها ” بعل وعنات “. إن معرفتنا بالنصوص الأوغاريتية ساعدتنا كثيرا على فهم صور وتعابير من الكتاب المقدَّس، لأن العبرية والأوغاريتية لغتان شقيقتان تتفرعان من الكنعانية وهي إحدى اللغات السامية”(4).
وقد تم اكتشاف قطع شعرية تصل إلى 5000 بيت، وهذه حطمت نظرية جنكل Gunkle الذي ادعى أن المقاطع الشعرية الطويلة في الأسفار المقدَّسة (مثل أسفار إشعياء وأرميا وحزقيال) ترجع إلى وقت متأخر عن الوقت الذي نسبت إليه(5) بل أن الأسلوب الشعري الذي أُستخدم في أوغاريت يشبه الشعر الذي جاء في التوراة مثل ترنيمة مريم (خر 15) وترنيمة دبورة (قض 5).
2- اكتشافات إبلا:
وتمثل عاصمة دولة متسعة الأطراف تمتد من حوض الفرات شرقًا إلى حوض العاصي غربًا، ومن جبال طرسوس شمالًا إلى حدود مملكة حماة جنوبًا، وبلغ عدد سكانها 620 ألف نسمة، وبلغت أقصى تقدمها في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، ودُمرت سنة 2250 ق. م. على يد “نارام شن” حفيد الملك “سرجون” العظيم، فكانت إبلا مدينة ملكية مزدهرة، تقع في تل المريخ جنوبي مدينة حلب بسوريا بنحو 50 كم، وفي سنة 1964م قام عالِم الآثار ” باولو فاثيا ” ومُحلّل النقوش ” جيوفاني باتينانو ” بأعمال الحفر، وفي سنة 1968م اكتشفا تمثال “إبيت – ليم” وعليه نقش يشير إلى عشتار التي ” نورها يسطع في إبلا ” ثم اُكتشفت البعثة الإيطالية 16 ألف لويحة من أرشيف المدينة، يرجع تاريخها إلى الفترة 2500 – 2250 ق.م.، ويحوي أحد الألواح قصة الخلق، كما عرضها أهل إبلا، وهي قريبة جدًا من قصة الخلق التوراتية التي ذكرها سفر التكوين، وبعيدة عن قصص الخلق التي جاءت في الأساطير السومرية والبابلية، فهي تحكي عن الإله الواحد الذي خلق من العدم السموات والأرض والقمر والنجوم، ووُجِد على هذه الألواح أيضًا أسماء بعض المدن التي جاء ذكرها في سفر التكوين مثل ” أور” و”سدوم” و”عمورة”، وبعض الأسماء مثل “آدم” و”حواء” و”نوح”، وقضت اكتشافات “إبلا” على الزعم بأن انتصار إبراهيم على كدر لعومر والملوك الأربعة قصة أسطورية، لأن أسماء المدن الخمسة سدوم، وعمورة، وأدمة، وصبوئيم , وصوغر وردت في ألواح “إبلا” وبنفس الترتيب، كما ورد في الألواح الأثرية بعض الأسماء التي ورد ذكرها في العهد القديم مثل إسرائيل وإسماعيل وميخا(6).
وأيضًا حوت ألواح ” إبلا ” على بعض الأمور التشريعية والقضائية التي تتشابه لما جاء في التوراة، وبهذا قضت على الزعم القائل بأن موسى النبي لم يكتب التوراة، لأن مجموعة القوانين الكهنوتية والتشريعية التي وردت في التوراة، ترجع إلى عصر متأخر خلال الحكم الفارسي (538 – 331 ق. م.) كما قضت ألواح إبلا أيضًا على الزعم القائل بأن الكتابة لم تكن عُرفت أيام موسى النبي، وقد كذَّبت اكتشافات إبلا أيضًا بعض النظريات الخاطئة، فمثلًا قال البعض أن الذبائح وطقوس العبادة ظهرت بعد عودة بني إسرائيل من السبي، بينما أثبتت اكتشافات مدينة إبلا التي ترجع إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد بأن الذبائح والطقوس كانت تقدم في الشرق الأدنى منذ أقدم العصور، وردت اكتشافات إبلا على القائلين بأن بعض الكلمات المستخدمة في العهد القديم تثبت أنه كُتب في وقت متأخر، فيقول جوش مكدويل ” إن الزيادة الكبيرة في معرفتنا بالتاريخ القديم للكلمات العبرية للعهد القديم أدى إلى تغيير هذا الموقف، فإذا استخدمت كلمة معينة في مدينة إبلا عام 2300 ق.م. وفي مدينة أوغاريت عام 1300 ق.م.، فلا يمكن تصور أنها كلمة من عصر متأخر (300 ق. م.) أو أنها مصطلح آرامي في الوقت الذي لم تكن فيه اللغة الآرامية القياسية قد تطوَّرت بعد، بل أنها تصبح حينئذ كلمة من عصر مبكر، وجزءًا من التراث الآبائي للعبرية الكتابية، وعلى نحو أكثر إيجابية، فإن ازدياد أعداد النصوص التي نحصل عليها والتي تشتمل على الكلمات الأكثر ندرة يمكن أن تؤيد -أو تعدل- فهمنا لمعاني هذه الكلمات”(7)(8).
3- اكتشافات ماري:
تقع مدينة ماري على بعد سبعة أميال تقريبًا إلى الشمال الغربي من ” تل الحريري ” وكانت تقع عند ملتقى طريقين رئيسيين للقوافل،الأول هو الطريق الممتد من ساحل البحر المتوسط ويمر بصحراء سوريا إلى نهر الفرات، والثاني هو الذي يبدأ في شمال بلاد النهرين ويمتد جنوبًا إلى وادي نهر خابور ثم إلى وادي الفرات، وتميزت المدينة بالثراء الفاحش، وكانت تعتبر عاصمة المملكة الأمورية خلال الفترة 1800 – 1700 ق.م.، ثم انتهت حضارتها على يد القوات البابلية في القرن 11 ق.م.، وترجع أهمية مدينة ماري للاكتشافات الأثرية التي قامت بها البعثة الفرنسية، في منطقة ” تل الحريري ” بالقرب من مدينة ” أبو كمال ” خلال الفترة 1933-1939 م.، بقيادة ” أندريه بارو ” Andre Parrot وقد توقفت البعثة عن العمل بسبب الحرب العالمية الثانية، وعادت للعمل خلال الفترة 1951 – 1956م، وجاءت أهم الاكتشافات متمثلة في:
أ – معبد الإلهة ” أشتار”.
ب- برج مدرج (زيجورات).
جـ- قصر مُقام على 15 فدان يحتوي على 300 حجرة، ويرجع للأسرة البابلية الأولى (1850 – 1750 ق. م.) وعثرت البعثة في منطقة القصر على نحو 20 ألف لوحة بالخط المسماري، تمثل سجلات تجارية، وسياسية، وإدارية، ورسائل متبادلة بين ملوك ماري والملوك الآخرين، كما ورد بهذه الألواح أسماء لبعض المدن التي جاء ذكرها في سفر التكوين مثل مدينة ” حاران ” التي كانت مزدهرة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ومدينة أخرى باسم ” ناحور ” شقيق إبراهيم، ومدينة ” تل التوارحي ” وقد يكون هذا الاسم نسبة إلى “تارح” والد إبراهيم، ومدينة ” سروج ” وهو جد إبراهيم، و” دوثان” و”بيت إيل” و”شكيم ” وقال ” باورز ” Burrows ” تؤكد كل الحقائق أن إبراهيم شخص تاريخي عاش فعلًا ويجئ اسمه في آثار بابل كاسم شخص كان يعيش في تلك الحقبة التي ينتمي إليها”.
ويرجع معظم اللويحات المكتشفة إلى عصر ” بسماح حدد” (نحو 1796 – 1780ق. م.) الذي بدأ في عهده بناء القصر، واكتمل البناء في عصر ” وزمري ليم” (نحو 1779 – 1761ق. م.) وعاصر هذان الملكان ” حمورابي ” ملك بابل (نحو 1792 – 1750 ق. م.).. ” وإن كانت مدينة ” ماري ” لا تُذكر في العهد القديم إلاَّ أنه من وجهة النظر اللغوية، ساعدت الوثائق التي اُكتشفت فيها على دراسة أسماء الأعلام الأمورية التي تشبه إلى حد كبير أسماء الأعلام في العهد القديم. كما أن هذه الوثائق تقدم تفصيلات وافية عن الحياة اليومية والعوائد التي كانت سارية في المنطقة في عهود الآباء، مما يلقي الضوء على أساليب الحياة في تلك العصور، كما نجدها في أسفار العهد القديم”(9).
ويقول زينون كوسيدوفسكي أنه أُكتشف تمثال رجل ملتح مكتوب عليه “أنا لامي – ماري ملك دولة ماري” وهو يضع يديه في وضع يشبه الصلاة، واتضح أن مدينة حاران كانت تتبع تلك المملكة، وتم اكتشاف أسماء بعض المدن مثل ناحور، وتاريحي، وساروجي، وفالكي، وهي تتشابه مع أسماء أقرباء إبراهيم ناحور، وتارح، وسروح، وفالك، وظهر أسماء إبراهيم وحفيده يعقوب وابنه بنيامين(31) وقد أُكتشفت لوحة في ” ماري ” تحمل إتفاقية من عصر إبراهيم يُؤجر فيها صاحب عربة عربته لمدة سنة، بشرط ألاَّ يسافر فيها المستأجر إلى ” كتيم ” شمال فلسطين على البحر الأبيض، وفي لوحة أخرى وجدوا اسم رجل يدعى ” أبا راما ” وهذا يُثبت أن اسم ” إبرام ” كان مستخدمًا حينذاك.
وتُعتبر آثار ماري في غاية الأهمية لأنها تلقي الضوء على عصر الأباء الذين اعتبرهم فلهاوزن شخصيات وهمية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ويقول الذين يشايعون فلهاوزن ” لا ينبغي أن نتشدد في الحكم عليه (على فلهاوزن) إذ لم تكن في أيامه اكتشافات نوزي، وماري، التي تطابق إلى الحد المثير ما جاء في سفر التكوين”(10) بينما يقول ” يونج”.. ” إن إعتراضنا الأكبر على الصورة التي رسمها فلهازن.. على مخالفته التامة للحقائق الواضحة في الكتاب المقدَّس، لأنه إذا كانت الصورة التي رسمها عن إسرائيل صحيحة، فمعنى ذلك أن الكلمات المُوحى بها غير صحيحة. إن نهج فلهاوزن في أساسه مضاد للإيمان الصحيح بالله، إذ أنه ينازع في الإعلان الإلهي، ومن ثم يلزم طرحه وهجره، وفي الحقيقة أن هذا النهج الذي أخذ شهرته في وقت من الأوقات، لم يلبث أن طُرح في زوايا الإهمال والنسيان إثر الاكتشافات المتوالية”(11).
4- اكتشافات نوزي:
تقع مدينة ” نوزي ” بالقرب من مدينة نينوى القديمة على بعد 13 كم جنوب غرب مدينة كركوك بالعراق، وفي سنة 1925 م تم اكتشاف نحو 4000 لويحة يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد، وأوضحت هذه الاكتشافات نظام التبني حينذاك، فيمكن للسيد أن يتبنى ابنًا ولو كان عبدًا، فيصير ابنًا له الحق في الميراث، وهذا ما عبر عنه إبراهيم عندما قال ” أيها السيد الرب ماذا تعطيني وأنا ماض عقيمًا ومالك بيتي هو اليعازر الدمشقي. وقال إبرآم أيضًا أنك لم تعطني نسلًا وهوذا ابن بيتي وارث لي” (تك 15: 2، 3) ولكن إن أنجب هذا الأب العاقر فأن ابنه يصبح هو الوريث الشرعي له ولذلك قال الله لأبرام ” فإذا كلام الرب إليه قائلًا لا يرثك هذا. بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك” (تك 15: 4)
ويقول ” س.هـ. هورن ” إن اكتشافات نوزي قد ألقت الضوء على بعض أحداث العهد القديم مثل(12):
أ – الأب هو الذي يختار العروس لابنه كما حدث في زواج إسحق.
ب- يدفع العريس مهرًا لحماه، وإن لم يستطع توفير المهر يعمل لدى حماه، كما حدث مع يعقوب الذي عمل أربعة عشر سنة مقابل زواجه من ليئة وراحيل.
جـ- لا يمكن نقض الوصية الشفهية للأب كما حدث مع إسحق في منحه البركة ليعقوب، وعدم تراجعه رغم اكتشاف خداعه.
د – كان الأب يهدي ابنته العروس إحدى الإماء، كما حدث في زواج يعقوب.
هـ- يحكم على سارق المتعلقات الدينية بالموت، وهذا ما حدث مع يعقوب عندما حكم بموت من سرق آلهة حميه.
وكان من عادات ذلك العصر أيضًا أن الزوجة التي لا تنجب تستطيع أن تزوج زوجها لجاريتها، كما حدث مع سارة وهاجر، ومتى ولدت الجارية لا تستطيع سيدتها أن تطردها، وهذا يفسر لنا لماذا كان إبراهيم مستاء جدًا من طرد سارة لهاجر، وأيضًا قوانين حمورابي لم تسمح للجارية التي تنجب من سيدها أن تحل محل سيدتها، ومن تلك العادات أيضًا بيع البكورية كما حدث مع عيسو إذ باع بكوريته ليعقوب، ويقول جوش مكدويل ” هناك حادث مماثل لبيع عيسو بكوريته ليعقوب في ألواح نوزي التي تذكر أن أحد الأشخاص باع لأخيه بستانًا كان قد ورثه مقابل ثلاثة من الأغنام. وقد تبدو هذه صفقة غير عادلة كما في حادثة عيسو.. ويوضح ” فري ” قائلًا: في أحد ألواح نوزي، هناك قصة عن رجل يدعى توبكيتيلا نقل حقوق ميراثه في بستان إلى أخيه كوريازا في مقابل ثلاثة من الأغنام، وقد فعل عيسو الشيء نفسه عندما قايض حقوق ميراثه بوجبة طعام(13).. يرسم ” س.هـ. هورن ” صورة معبرة قائلًا: باع عيسو حقوقه في مقابل وجبة طعام جاهزة، بينما باع توبكيتيلا حقوقه في مقابل وجبة طعام لم تجهز بعد(14)(15).
وطالما هاجم النُقَّاد سفر التكوين عندما قال ” والحوُريّين في جبلهم سعير إلى بطمة فاران التي عند البرية” (تك 14: 6) مدَّعيّن أنه لم يوجد شعب يُدعى بالحوريّين، إلاَّ أن اكتشافات نوزي قد أسكتتهم تمامًا، فوُجدت ألواح خزفية تحكي عن الحوريين، وبعد أن ظن البعض أن الحوريين (تك 36: 20) من نسل عيسو، وهم سكان الكهوف، معتمدين على التشابه بين اسم ” حوران ” وكلمة ” كهف ” باللغة العبرية، “ولكن الاكتشافات أثبتت أن الحوريّين هم مجموعة متميزة من المحاربين الأشداء الذي عاشوا في منطقة الشرق الأدنى في زمن الآباء البطاركة”(16)(17) بل أن هذه الألواح الخزفية قد حكت عن حياة هؤلاء الحوريّين، وعقودهم، واتفاقياتهم، وبعض أسمائهم، ومنها عرف العلماء اللغة الحورية القديمة، واكتشفوا أن من عادات الحوريّين أنهم لا يبيعون أراضيهم، فإذا أراد إنسان أن يأخذ قطعة أرض من آخر، فإن المالك يتبنى هذا الإنسان، ويعطيه الأرض كميراث للابن الشرعي، ويقوم الابن المُتبنى بتقديم هدية لوالديه الجديدين (كمقابل للأرض) وإذا رغب إنسان في التخلي عن أرضه فإنه يعهد بها إلى شخص آخر يهتم به، ويحرص على دفنه بعد موته بأسلوب محترم، ثم يصبح هو الوريث الشرعي بعد موت المالك الأصلي، وهذا يفسر لنا حديث الله مع إبراهيم عن عبده اليعازر الدمشقي(18).
كما أوضحت هذه الاكتشافات أيضًا أن من يحوز الأصنام البيتية الصغيرة له نصيب في الميراث، وإن هذه الآلهة تجذب له الثراء والنجاح، فحكت آثار نوزي عن رجل يَدعي ” نشوي ” تبنى ابنًا اسمه “ووللو” وزوَّجه ابنته، فأضحى “ووللو” وارثًا لنشوى من جهة الأملاك أو من جهة الآلهة الصغيرة التي يعبدها “نشوى”، فيبدو أن امتلاك أنصاب الآلهة البيتية تعطي من يمتلكها الحق في رئاسة العائلة والميراث، وهذا يفسر لنا لماذا أخذت راحيل هذه الأصنام، وغضب لابان عندما اكتشف إختفاء آلهته، وتفهُّم يعقوب لغضب لابان حتى قال له “الذي تجد آلهتك معه لا يعيش” (تك 31: 32) ويقول جوش مكدويل ” ولطالما تساءل المفسرون لماذا يتكبد (لابان) مثل هذا العناء لاستعادة أصنام يمكن أن يحصل على غيرها بسهولة، وتسجل ألواح نوزي قصة لأحد الأشخاص أستحوذ على أصنام العائلة فكان له الحق في المطالبة القانونية بممتلكات حميه، وهذا يفسر موقف لابان، وهذه القصة وغيرها مما نجده في ألواح نوزي توضح موافقة الخلفية التاريخية لقصص الآباء الأولين للعصر المبكر الذي عاشوا فيه، وتناقض رأي النُقَّاد بأن هذه الروايات دونت بعد 1000 عام من ذلك الوقت(19) أو بفضل علم الآثار، فقد بدأنا نتفهم الخلفية التاريخية لمعظم أجزاء الكتاب المقدَّس”(20).
وأيضًا أوضحت هذه الاكتشافات احترام كلمات رب البيت وهو على فراش الموت، حتى تعتبر كلماته كوثيقة قانونية ملزمة، فجاء في آثار نوزي أن شخصًا يدعى “ترميا” له شقيقان، فتدثر بثوب وحصل على بركة أبيه كما حدث مع يعقوب عندما أخذ البركة من أبيه إسحق، وهذا يوضح أيضًا أهمية كلمات يعقوب وهو على فراش الموت، ويقول جوش مكدويل ” يشير جوزيف فري إلى أنه قد يبدو أمرًا غريبًا ألاَّ يتراجع إسحق عن بركته الشفهية ليعقوب عندما أكتشف خداعه، إلاَّ أن ألواح نوزي تخبرنا أن مثل هذا التصريح الشفهي كان ملزمًا تماما. ومن ثمَّ لم يستطع إسحق التراجع عن بركته الشفهية. ويسجل لنا أحد ألواح نوزي قصة لقضية امرأة كانت ستتزوج من أحد الأشخاص، ولكن الغيرة دفعت إخوته إلى مقاومة الأمر، إلاَّ أن الرجل ربح القضية لأن أباه كان قد قدَّم وعدًا شفهيًا له بأن يزوجه هذه المرأة. كانت التصريحات الشفهية آنذاك تحمل أهمية خاصة وليس كما هو الحال اليوم. لقد أتت نصوص نوزي من ثقافة مماثلة لتلك المذكورة في سفر التكوين(21) ويصف ج. إرنست رايت هذا الأمر قائلًا: كانت تصريحات البركة الشفهية أو وصايا ما قبل الموت معروفة ومقبولة في نوزي، وفي مجتمع الآباء الأولين. وكانت هذه التصريحات ذات أهمية كبيرة حتى أنه لا يمكن الرجعة فيها، ونحن نذكر كيف أن إسحق صدَّق على كلمته حتى بعد أن أغتصب يعقوب هذه البركة بأساليب الخداع {فارتعد إسحق ارتعادًا عظيمًا جدًا. وقال فمن هو الذي اصطاد صيدًا وأتى به إليَّ فأكلت.. نعم ويكون مباركًا} (تك 27: 33)”(22)(30).
وأوضحت هذه الاكتشافات الدور الهام للابن البكر في الأسرة، إذ هو يمثل رب الأسرة في حالة غياب الأب الحقيقي لها.
5- اكتشافات تل العمارنة:
كانت تل العمارنة عاصمة مؤقتة للملك أمينوفيس الرابع في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وفي سنة 1887م تم اكتشاف أرشيف أمينوفيس الثالث والرابع، ووجد به رسائل مسمارية، فهناك 380 وثيقة تضم بعض المكاتبات بين فرعون مصر وملوك بابل وآشور، والحثيون، وأيضًا الرسائل إلى ملوك سوريا ولبنان وفلسطين التابعين له حينذاك، ويقول الخوري بولس الفغالي ” وفي بعض هذه الرسائل يروي حاكم أورشليم عن أسباط سام المتجولة المعروفة باسم ” الخبيرو ” والمهاجرين من الصحراء إلى كنعان، ويناشد حاكمه الحضور لمساعدة رعاياه المقهورين”(23).
وكشفت لوحات تل العمارنة أن أحد الرؤساء انحنى أمام أحد الملوك سبع مرات كنوع من الاحترام الزائد، وهذا يفسر لنا سجود يعقوب أمام عيسو سبع مرات (تك 33: 3) وتم اكتشاف لوح طيني وارد من بابل يحكي قصة سقوط الإنسان وكيف فقد الحياة الخالدة، فيقول الأب سهيل قاشا ” فإن متحف برلين يحتفظ بكنز فريد نفيس جدًا، وهو لوح طيني عليه أسطورة بابلية تروي كيف فقد الإنسان الحياة الخالدة، إن موضع اكتشاف هذا اللوح – وهو تل العمارنة – والنقاط المنتشرة عليه بحبر مصري أحمر تدل على الجهد الذي بذله العالِم المصري لفهم النص المكتوب بلغة أجنبية، وهو شاهد عيان على دراسة الأدب البابلي بحماس منذ تلك العصور القديمة حتى في بلاد الفراعنة”(24). وعند بيع يوسف بعشرين من الفضة كان هذا الثمن يوافق ذاك العصر، فيقول جوش مكدويل ” ويشير ك. أ كيتشن في كتابه ” الشرق القديم والعهد القديم ” إلى أن (تك 37: 28) يورد ثمنًا واقعيًا للعبد في القرن الثامن عشر قبل الميلاد. إن الثمن الذي بيع به يوسف في (تك 37: 28) والذي بلغ عشرون شاقلًا من الفضة هو ثمن معقول بالنسبة لعبد في القرن الثامن عشر ق.م. وقبل ذلك كان ثمن العبد أقل (من عشر إلى خمسة عشر شاقلًا في المتوسط) ثم أخذ ثمن العبد يرتفع فيما بعد”(25)(26).
ويقول ” ميللر باروز ” أن هناك شواهد في الآثار المصرية تشير إلى زيارة الساميين لمصر كما هو واضح من جدار المعبد القائم في بني حسن، والصور المرسومة على قبر أخناتون. كما يقول ” هوارد فوس ” أن الهكسوس بدأوا يتسللون إلى وادي النيل سنة 1900 ق.م.، وفي سنة 1730 ق.م. جاءت منهم مجموعات واستولت على الحكم في مصر، فإذا افترضنا أن العبرانيين دخلوا إلى مصر خلال الفترة 1700 – 1650 ق.م.، فهل كان الهكسوس يحكمون مصر حينذاك، ولعلهم استضافوا شعوبًا أجنبية أخرى لسكنى مصر(27) ويرى جوش مكدويل أن هناك ارتباطًا بين الهكسوس وأحداث سفر التكوين فيقول ” يرى فوس أن هناك ارتباطًا بين عشائر الهكسوس والكتاب المقدَّس في أربعة أوجه أولًا: أن المصريين اعتبروا الهكسوس والعبرانيين شعبين مختلفية. ثانيًا: هناك احتمال أن الملك المصري الذي كان يعادي شعب يوسف (خر 1: 8) كان ملكًا مصريًا وطنيًا، ومن الطبيعي ألا تكون هذه النزعة الوطنية في صالح أي أجنبي. ثالثًا: يأتي ذكر الخيول لأول مرة في الكتاب المقدَّس في (تك 47: 17) والهكسوس هم الذين أدخلوا الخيول إلى مصر. رابعًا: بعد طرد الهكسوس تركزت معظم الأراضي في أيدي الملوك. وهذا يوافق أحداث المجاعة التي تنبأ عنها يوسف ثم دعم خلالها مركز الملك”(28)(29).
_____
(1) أدمون جاكوب – ترجمة جورج كوسي – رأس شمرا والعهد القديم ص 12.
(2) فراس السواح – مغارة العقل الأول ص 88.
(3) الأسطورة والتراث ص 205.
(4) المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 ص 50.
(5) راجع مركز المطبوعات المسيحية – تفسير الكتاب المقدَّس جـ 1 ص 69، 70.
(6) راجع جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 136، 137.
(7) Kitcen, BIW, 50.
(8) برهان يتطلب قرارًا ص 137.
(9) دائرة المعارف الكتابية جـ 7 ص 74، 75.
(10) د. ادوار ج. يونج – تعريب القس الياس مقار – أصالة الكتاب المقدَّس ص223.
(11) د. ادوار ج. يونج – تعريب القس الياس مقار – أصالة الكتاب المقدَّس ص 224.
(12) راجع جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 143.
(13) Free, ABH, 68 , 69.
(14) Horn, RIOT 14 , 15.
(15) برهان يتطلب قرارًا ص 140، 141.
(16) Free, ABH , 72.
(17) المرجع قبل السابق ص 349.
(18) راجع دكتور ادوارد ج. يونج – أصالة الكتاب المقدَّس ص 219 – 221.
(19) Free, AB , 20.
(20) برهان يتطلب قرارًا ص 141.
(21) Free , AL , 322 , 323.
(22) Wright, PSBA , as Cited in Willoughby, SBTT , 43.
(23) المدخل إلى العهد القديم جـ 1 ص 155.
(24) أثر الكتابات البابلية في المدونات التوراتية ص 264.
(25) Kitchen – AOOT 52 – 53.
(26) برهان يتطلب قرارًا ص 141.
(27) راجع جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 141.
(28) VOS – GA , 104.
(29) برهان يتطلب قرارًا ص 142.
(30) برهان يتطلب قرارًا ص 140.
(31) راجع الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 57.