هل استخدام اسمين للفظ الجلالة (ايلوهيم، ويهوه) يدل على أن التوراة جُمعت من عدة مصادر؟
319- هل استخدام اسمين للفظ الجلالة (ايلوهيم، ويهوه) يدل على أن التوراة جُمعت من عدة مصادر؟
يقول د. عبد الحميد زايد ” أن الأسفار الخمسة ليست لموسى أولًا، ولا لمؤلف واحد، بل هي عبارة عن كتاب، يرجع إلى مصادر عديدة وعصور متباينة”(1).
ويقول الدكتور محمد بيومي مهران ” التوراة كلمة عبرانية تعني الهداية والإرشاد ويقصد بها الأسفار الخمسة الأولى والتي تنسب -ظلمًا وعدوانًا- إلى موسى عليه السلام”(2).
ويقول ” ول ديورانت“.. ” كيف كُتبت هذه الأسفار؟ ومتى كُتبت؟ وأين كُتبت؟ ذلك السؤال برئ لا ضير منه ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد، ويجب أن نفرغ منه هنا في فقرة واحدة نتركه بعدها من غير جواب. إن العلماء يجمعون على أن أقدم ما كُتب من أسفار التوراة هما القصتان المتشابهتان المنفصلة كلتاهما عن الأخرى في سفر التكوين، تتحدث أحداها عن الخالق باسم “يهوه” على حين تتحدث الأخرى عنه باسم ” إيلوهيم ” ويعتقد هؤلاء العلماء أن القصص الخاصة بيهوه كُتبت في يهوذا، وأن القصص الخاصة بأيلوهيم كُتبت في أفرايم، وإن هذه وتلك قد امتزجتا في قصة واحدة بعد سقوط السامرة. وفي هذه الشرائع عنصر ثالث يُعرف بالتثنية أكبر الظن أن كاتبه أو كتابه غير كُتاب الأسفار السابقة الذكر. وثمة عنصر رابع يتألف من فصول أضافها الكهنة فيما بعد. والرأي الغالب أن هذه الفصول تكون الجزء الأكبر من ” سفر الشريعة ” الذي أذاعه عزرا ويبدو أن هذه الأجزاء الأربعة قد اتخذت صورتها الحاضرة حوالي عام 300 ق.م.”(3).
ويقول د. موريس بوكاي ” ونحن لا نجد هنا قصة واحدة لخلق الإنسان بل قصتين، القصة الأحدث مستقاة من ” الطبعة الكهنوتية ” وهي التي تظهر في بداية الكتاب المقدَّس المعاصر. أما النص الأسبق، وهو النص اليهودي Yahvist فيأتي بعد نص ” الطبعة الكهنوتية ” Sacerdotal وهو متناهي القصر. ويظن كثير من الناس خطأ أن قصة الخلق واحدة في العهد القديم، بينما يُسلم المفسرون المسيحيون بالأصلين المختلفين للقصة، وأشهر هؤلاء هو الأب ” دي فو ” De Vawx الذي كان رئيسًا لمدرسة التوراة والإنجيل بالقدس. ويشير الأب ” دي فو ” بوضوح في تعليقه على سفر التكوين إلى أجزاء النص التي تخص كل نسخة بالترتيب. ونجد أن الفكرة القديمة عن أن موسى كان مؤلف سفر التكوين غير مقبولة بالطبع، فلا أحد يعرف من الذي كتب النسختين اليهودية Yahvist والأيلوهست Elohist”(4).
ويعلق الدكتور سيد القمني على استخدام اسمين للفظ الجلالة في التوراة فيقول ” أما نحن فنرى في ذلك تأليفًا بين قصتين للتكوين أحدهما قصة عتيقة قام بها بدور البطولة مجموعة من الأبطال من الآلهة القديمة عبَّرت عنهم التوراة باسم الجمع (ايلوهيم) كل منها (إيل) وهي الآلهة التي رافقت العهد الإبراهيمي في التوراة، وقصة أخرى أحدث قام بها بدور البطولة الإله (يهوه) الإله الذي أرفقته التوراة بالعهد الموسوي وما بعده حتى اليوم”(5)(6).
ويقول ليوتاكسل ” والمعنى الحرفي لكلمة ” الوهيم ” هو آلهة، وأنه من الغريب حقًا أن تُسمِي التوراة سيدًا واحدًا بهذا الاسم”(7).
ويقول الدكتور أحمد حجازي السقا ” من جهة ربط الموضوعات بعضها ببعض فذلك لم يتيسر للكاتب في كثير من المواضيع، لأنه -كما يقول كثيرون من ناقدي التوراة- جمع معلومات قديمة وحديثة، ورصها بجوار بعضها، ولم يسعفه الوقت أن يعيد نظره فيما جمع، ليحسن تنظيمه ويزيل ما به من تناقضات”(8).
ج:
1- كثير جدًا من النُقاد (سواء من أصحاب مدرسة النقد الأعلى، أو من الناقلين آراءهم) يركزون على نظرية المصادر، حيث يدَّعون أن التوراة اتخذت صورتها الحالية سنة 400 ق.م. على يد عزرا، بعد أن جُمعت من مصادر مختلفة، وللأسف الشديد فإن هذه الآراء وجدت قبولًا لدى الكنيسة الكاثوليكية وهذا ما نجده في كتابات العديد من رجال الكنيسة الكاثوليكية(9)، وأيضًا انتشر هذا الفكر لدى أصحاب اللاهوت الليبرالي من البروتستانت.
والحقيقة أن موسى النبي استخدم الاسمين منفردين كل على حدة، واستخدم الاسمين مجتمعين، ففي أول 34 آية في سفر التكوين استخدم موسى اسم ” إيلوهيم ” 33 مرة، وفي الـ46 آية التالية استخدم موسى ” يهوه ايلوهيم ” 20 مرة، وفي الـ25 آية التي تليها استخدم موسى اسم ” يهوه ” 10 مرات(10) والحقيقة أيضًا أن لكل اسم دلالته، فاسم ” ايلوهيم ” هو الاسم الشائع لله، ويشير لله الخالق في كمال قوته، ولذلك عندما تكلم موسى النبي عن خلقة الكون ذكر اسم ايلوهيم، وأيضًا عندما كان موسى النبي يتناول تقليدًا عالميًا أو حدثْ خاص بشخص غير يهودي كان يستخدم أيضًا اسم ايلوهيم.
أما اسم “يهوه” فهو يشير لله القوي من جهة علاقته مع شعبه، فهو صديق الإنسان، وهو الإله الشخصي للآباء، فهو الاسم الخاص بإله إسرائيل، فعندما كان يتحدث موسى النبي عن علاقات الله مع شعبه كان يذكر اسم يهوه، وعندما كان يتناول الموضوع الحديث عن تقاليد إسرائيل كان يستخدم أيضًا اسم يهوه، فيقول ماكنتوش ” لقب الله -تبارك اسمه- كمن هو ” ايلوهيم ” هو اللقب أو الاسم الكريم الذي يتفق مع عملية الخلق في ذاتها، فهو الاسم الذي يُعبّر عن الله الكائن، أصل كل الكائنات، من له ملء القوة متجلية في الحكمة والصلاح.
وذلك في مفارقة مع ضعف الإنسان المخلوق، وذلك كله رأيناه في مشاهد الإصحاح الأول. أما في إصحاحنا الثاني فهنالك مشاهد أخرى، فإن الله الخالق العظيم هو نفسه الخالق الأمين، وقد شاء أن يدخل في علاقة مع رأس الخليقة، ومن منطق هذه العلاقة ظهر الاسم الودود ” الرب الإله” و”الرب ” هو الاسم الذي يعبر عنه تعالى كالواجب الوجود، السرمدي الإله الحقيقي لأولئك الذين على الأرض، والذين عرَّف لهم نفسه كإله العهد الذين عليهم أن يسيروا أمامه.. ومن هنا، ففي وصف الخليقة ابتداء وانتهاء نقرأ عن ” ايلوهيم ” فقط، كمن يمنح الوجود للسموات والأرض وكل ما فيها.
وحينما شاء تبارك اسمه أن يقيم روابط أبدية على الأرض نقرأ عنه كمن هو ” الرب الإله ” أي ” يهوه ايلوهيم ” ذلك أننا في الإصحاح الثاني لا نجد سوى الإنسان، ليس فقط كمخلوق، بل كمن جبله الرب الإله في شركة مباشرة معه تعالى ولو كان جسده من تراب”(11).
ويقول ” ديفيد أتكنسون“.. ” في الإصحاح الأول، نقرأ أنه ” الله ” وفي (تك 2: 4) نراه ” الرب الإله ” وكلمة ” الرب ” جاءت تمثل اسم الله بحسب العهد ” يهوه ” Yahweh وبالتالي، فإن مركز اهتمامنا لم يعد المنظور الكوني عن (الواحد) الذي خلق النجوم، بل أُلفة الشركة مع (الواحد) الذي يدعو الإنسان باسمه”(12).
ويقول جوش مكدويل ” عمومًا، فإن ” يهوه ” يُستخدم عندما يكون الله هو الإله الخاص بإسرائيل ويشار إليه على أنه فوق الآلهة الغريبة، وعند التحدث عن تاريخ الآباء، بينما من الناحية الأخرى فإن ايلوهيم يعطي صورة كونية مجردة لله”(13) كما يقول جوش مكدويل أيضًا ” ولقد طبق أرشر هذا على الإصحاحات الأولى من سفر التكوين. إن الدراسة بعناية لاستخدام يهوه وايلوهيم في سفر التكوين سوف تكشف الغرض الذي كان في ذهن الكاتب.
ايلوهيم تشير إلى الله الخالق العظيم وسيد الكون، هكذا يكون اسم ايلوهيم مناسبًا لتكوين الإصحاح الأول، لأن الله يكون في دور الخالق العظيم. بينما يهوه يكون اسم الله عندما يكون مرتبطًا بالعهد، هكذا في تكوين الإصحاح الثاني، يُستخدم اسم يهوه على نطاق واسع لأن الله يتعامل مع آدم وحواء في علاقة عهد.
في تكوين الإصحاح الثالث عندما ظهر الشيطان يتغير اسم الله مرة أخرى إلى ايلوهيم، لأن الله لا يرتبط بالشيطان بعلاقة عهد، هكذا فإن كلا من الشيطان وحواء يُشيران لله على أنه ايلوهيم، ويتغير الاسم مرة أخرى إلى يهوه عندما ينادي على آدم (تك 3: 9) ويؤنب حواء (تك 3: 13) وعهد الله هو الذي وضع اللعنة على الحيَّة (تك 3: 14)”(14).
2- أوضحت أثار راس شمرا وأوغاريت أن اسمي ” ايلوهيم” و”يهوه ” كانا شائعًا الاستخدام منذ أيام موسى، وقبل التاريخ الذي حدده النقاد للمصدر اليهوي (950 – 850 ق.م.) كأقدم المصادر.
3- سبق مناقشة نظرية المصادر، وعرفنا أن النُقَّاد قد اختلفوا في عدد المصادر، فبينما قال البعض بمصدرين فقط ارتفع البعض بالمصادر إلى ثلاثين مصدرًا، وهاك باختصار شديد فحوى هذه النظريات المختلفة:
أ – نظرية المصادر القديمة: وقالت بأن التوراة استمدت مادتها من مصدرين، وهما اليهوي ” J ” والإيلوهيمي ” E ” ومن روادها ” هينج فيتر ” H. B. Witter في بداية القرن الثامن عشر، و” جان استروك ” Jeen Istruc (1684 – 1766م) و” ايخهورن ” J. G. Eichern (1752 – 1827م) و” الكسندر جيدس ” Alexander Geddes في نهاية القرن الثامن عشر.
ب- نظرية المصادر غير الكاملة: التي توسعت في عدد المصادر إلى نحو ثلاثين مصدرًا، ومن روادها ” فاتير ” Vater في بداية القرن التاسع عشر، و” هارتيمان ” Hartman في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر.
جـ- نظرية التكميل: لصاحبها ايولد H. G. Ewold (1803 – 1875م) والذي اعتقد بأن التوراة كُتبت من مصدر واحد ثم أُدخل إليها إضافات وتكميلات فعرفت بنظرية الإضافات. ثم هدمها إيوالد نفسه سنة 1855م معتبرًا أن التوراة استمدت مادتها من المصدرين الإيلوهيمي واليهوي فقط، وبذلك عاد إلى نظرية المصادر القديمة.
د – نظرية الوثائق الحديثة: والتي أضافت مصدرين آخرين لليهوي والإيلوهيمي، وهما التثنوي ” D ” والكهنوتي ” P”، ومن روادها روبرتسون E. Robertson، و” فون راد ” G. Von Rad، و” ويلهلهم دي فيت ” W. Wette (1780 – 1849م) و” ريم ” E. Riehm وربطوا بين سفر التثنية وسفر أرميا النبي، مما دفع البعض إلى القول أن الذي كتب سفر التثنية هو أرميا النبي، وقد كتبه وأخفاه في الهيكل، حتى اكتشفه حلقيا الكاهن (2 مل 22: 8) وذلك ليسبغ الصفة الشرعية على الإصلاحات التي يقوم بها يوشيا الملك الصالح بينما تصوَّر البعض مثل ” جيمس فريزر ” أن الكاتب مجهول، فيقول ” كما إنهم يقولون أنه مهما بلغ جهلنا بمؤلف سفر التثنية إلاَّ أنه لاشك أنه كان مُصلحًا نزيهًا، مدفوعًا بدافع الحب الصادق لبلده، ورغبة مخلصة في الإصلاح الديني والأخلاقي الخالص أنه كتبه بدافع التأثير المُلهَم بكبار أنبياء القرن الثامن وهم عاموس وهوشع وإشعياء.. وقد كان من الطبيعي، لكي يُقنع سامعيه وقراءه بهذه المبادئ أن يستغرق في الانفعال الجاد بل الدفاع الشجوي الذي هو أقرب إلى حيوية الخطيب وحماسه منه إلى هدوء رجل القانون وصرامته.. تكاد ترى عينيه المضطرمتين وملامحه المتلهفة التي تلاحق نبرات صوته الجهوري.. وليس في العهد القديم منافس يقف مع هذا الخطيب على قدم المساواة”(15). أما القائلين بالمصدر الكهنوتي ومن بينهم “ادوارد ريوس” E. Reuss فقد ربطوا بين سفر اللاويين وسفر حزقيال النبي، وقالوا أن كاتب سفر اللاويين هو حزقيال النبي.
وظهرت نظرية يوليوس فلهاوزن J. Wellhausen (1844 – 1918) والتي سادت لزمن طويل ومازال صداها يتردد حتى الآن في جنبات كتب النُقَّاد، وقد وضع فلهاوزن نظريته على أساس تاريخي، فأرجع المصدر اليهوي ” J ” إلى 950 – 850 ق.م.، وقال أن الذي وضعه شخص من مملكة يهوذا بقصد تمجيد مُلك داود وتعظيم مكانة أورشليم وكهنوت هارون، ونادى هذا المصدر بمركزية العبادة في هيكل سليمان، وفيه نرى الكاتب يُظهر يهوه بالصفات البشرية، فيتمشى في الجنة، ويتكلم مع آدم، ويأكل مع إبراهيم.. إلخ.
كما أرجع فلهاوزن المصدر الإيلوهيمي ” E ” إلى 850 – 750 ق.م.، وقال أن الذي وضعه شخص أو أكثر من مملكة السامرة بقصد إظهار إمكانية العبادة في أي مكان، وقد أظهر الكاتب ايلوهيم المتسامي الذي يتعامل مع الإنسان من خلال الرؤى والأحلام أو الملائكة، وأرجع فلهاوزن المصدر التثنوي ” D ” إلى 623 ق.م. في عصر يوشيا الملك، وذلك لوجود بعض التشابه بين ما جاء في سفر التثنية (تث 12: 1 – 7) ومع ما جاء في ملوك الثاني (2 مل 23: 4 – 6) وأرجع فلهاوزن المصدر الكهنوتي ” p ” إلى 500 – 450 ق.م. والذي يتمثل في الجزء الأخير من سفر الخروج (إصحاحات 25، 31، 35، 40) بالإضافة لسفر اللاويين والجزء الأكبر من سفر العدد، وادعى فلهاوزن أن حزقيال النبي هو الذي كتب سفر اللاويين، وفي سنة 400 ق.م. جاء عزرا ودمج هذه المصادر الأربعة فظهرت التوراة في صورتها الحالية.
هـ- نظرية النقد التقليدي التاريخي: وظهرت في بداية القرن العشرين، وعادت بنا إلى الأصل، فنادت بالعودة إلى الفكر التقليدي الأصيل بأن موسى النبي هو كاتب التوراة، ومن رواد هذه النظرية ” إينجيل ” Engell سنة 1945م.
ولخص ليفنجستون نتائج نظرية المصادر والتي تتمثل في الآتي(16):
1- هناك أجزاء صغيرة من التوراة ترجع للعصر الموسوي.
2- الذين يقبلون نظرية فلهاوزن يعتقدون أن أسماء الرجال والنساء في أسفار التوراة ليست أسماء لأشخاص حقيقيين، بل أسماء أبطال مثاليين.
3- التواريخ التي وردت في التوراة ليست تواريخ حقيقية إنما تُظهر تاريخ مملكة إسرائيل قبل الانقسام.
4- لم يعتقد اليهود بوحدانية الله، ولكن كهنة ما بعد السبي هم الذين جعلوهم وكأنهم يؤمنون بإله واحد.
5- لم يتكلم الله مع أي شخص في التوراة، ولكن الكهنة هم الذين أعطوا هذا الانطباع.
6- عدد قليل جدًا من قوانين التوراة يرجع إلى فترة ما قبل عصر الملوكية.
7- عدد قليل جدًا من الممارسات الدينية يرجع إلى فترة ما قبل عصر الملوكية.
8- لم يكن لدى اليهود خيمة اجتماع كما ذكر سفر الخروج.
9- كل المعجزات التي ذكرت لخلاص بني إسرائيل من أرض مصر غير صحيحة.
10- لا توجد وحدة بين أسفار التوراة الخمسة.
وقد انتهينا إلى رفض نظرية المصادر للأسباب الآتية:
1- يتجاهل أصحاب نظرية المصادر تأكيدات الكتاب المقدَّس على أن موسى النبي هو كاتب التوراة بشهادة النصوص الواردة في التوراة ذاتها، وبشهادة رجال العهد القديم والعهد الجديد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وفوق كل شيء شهادة رب المجد يسوع الذي نسب التوراة إلى موسى مرارًا وتكرارًا، وموسى النبي هو الذي لديه خبرة بجغرافية مصر وسيناء، فأشار لبعض المدن المصرية ومواقعها الجغرافية مثل مدينتي فيثوم ورعمسيس (خر 1: 11) وسكوت (خر 12: 37) وإيثام التي في طرف برية سيناء (خر 13: 20) وفم الحيروث بين مجدل والبحر أمام بعل صفون (خر 14: 2) واستخدم بعض الكلمات المصرية مثل ” أُبرك” (تك 41: 43) أي ” أركعوا ” واستخدم بعض الموازين وبعض المكاييل المصرية مثل الأيفة، واستخدم بعض الأسماء المصرية مثل ” فوطيفار” (تك 39: 1) و” صفنات فعنيح” و”أسنات” و”فوطي فارع” (تك 41: 45) وذكر بعض العادات المصرية مثل عادة من يريد أن يكرمه الملك يمنحه الخاتم الملكي ويلبسه ثياب بوص ويجعل طوقًا من ذهب في رقبته (تك 41: 42) وأن المصريين لا يأكلون مع العبرانيين (تك 43: 41)..
2- اعتمد أصحاب نظرية المصادر على الافتراضات والاحتمالات والتخمينات، فأصبح مجال دراسة هذا الموضوع يعتمد أساسًا على التخمين، فلا يوجد رأي واضح وصريح لديهم عمن هو الذي كتب التوراة، أو على الأقل من هم الذين كتبوا المصادر التي تهيؤها، فعلى سبيل المثال نلاحظ الآتي:
أ – أنكر ” توماس هوبز ” سنة 1658م و” سبينوزا ” سنة 1670م نسبة التوراة لموسى النبي، وقالا أن الأسفار من التكوين حتى الملوك من وضع عزرا الكاهن.
ب- إدعى ” ريتشارد سيمون ” بأن التوراة كتبها إنسان استعان بمذكرات لموسى النبي.
جـ- قال ” جان استروك ” أن موسى هو الذي كتب التوراة، ولكنه استعان بمصدرين سابقين.
د – قال ” ايخهورن ” أن موسى النبي كتب سفري التكوين والخروج معتمدًا على مصدرين، ثم جاء شخص آخر فأعاد صياغة ما كتبه موسى النبي.
هـ- قال ” جيدس ” سنة 1792م إن الكتاب المقدَّس وصل إلينا كأجزاء متفرقة، وأن التوراة كُتبت في عصر سليمان في أورشليم.
و – توسع ” فاتير ” سنة 1805م و” هارتيمان ” سنة 1831م في نظرية المصادر حتى وصلا إلى ثلاثين مصدرًا اعتمد عليها كاتب التوراة.
ز – وضع ” أيولد ” سنة 1838م نظرية التكميل، وهدمها سنة 1855م وعاد وأقرَّ أن موسى هو الذي كتب التوراة معتمدًا على مصدرين.
ح – أضاف ” ريم ” سنة 1854م المصدر التثنوي وأرجع تاريخه إلى قبل سنة 621 ق.م. بقليل.
ط – أضاف ” ريوس ” سنة 1854م المصدر الكهنوتي.
ى- وضع ” فلهاوزن ” نظريته في المصادر الأربعة، وقال أن عزرا قام بجمع هذه المصادر سنة 400 ق.م.
3- البساطة الواضحة في التوراة تُكذب الرأي القائل بأن الذي حرَّر التوراة في صورتها النهائية أخذ من أربعة مصادر مختلفة، وكل مصدر كتبه شخص غير الآخر، وفي زمن مختلف عن الآخر.
4- كثير من علماء الكتاب إنتقدوا نظرية المصادر مثل ” فيجوركس ” F. Vigouroux، و” كورنيلي ” R. Cornely، و” داهس ” Dahse، و” لور ” Lohr، و” كيتيل ” G. Kittle و” سترنبرج ” Sternberg، و” ب. فولز ” P. Volz، و” رودلف ” W. Rudolph، و” كاسيتو ” U. Casuto، و” إينجيل ” Engell(17).
5- سبق مناقشة الأدلة التي قامت عليها نظرية المصادر سواء الأدلة اللغوية كاختلاف الأسماء الإلهية، واختلاف الأسلوب الأدبي، واختلاف الألفاظ والأسماء، أو الأدلة الموضوعية مثل التكرارات، والأمور التي تبدو متناقضة، أو الأدلة التشريعية التي تشمل مركزية العبادة، ووحدة المعبد، والأعياد، والذبائح والتقدمات، والنظام الكهنوتي، فمن يرغب التوسع في هذا الموضوع له أن يرجع إليها(18).
6- لا ينبغي الحكم على الأدب الشرقي القديم بقواعد الأدب الغربي الحديث كما فعل هؤلاء النُقاد، وقد جاء في دائرة المعارف الكتابية أن ” محاولة دراسة الأدب الشرقي في الكتاب المقدَّس بتطبيق قواعد ومعايير الأدب الغربي لا تقل خطورة عن محاولة الحكم على الأدب الغربي بتلك الخصائص المميزة للأدب الشرقي القديم.. إن معنى اللغة في أي أدب إنما هو المعنى الذي فهمه به الذين قالوه، ولهذا فطرق النقد الحديثة من تحليل الكلمات وتركيب الجمل وأساليب التفكير، لكي تكون جديرة بالثقة، لا بُد لها من الرجوع إلى الأساليب التاريخية والاعتماد عليها”(19).
7- لقد ساهمت الاكتشافات الأثرية بقدر كبير في هدم آراء النُقاد، فيقول ” مير بديث كلاين“.. ” قصة القرن العشرين الخاصة بالاكتشافات الأثرية التوراتية هي قصة إسكات الجعجعة الصوتية العالية لمؤيدي فلهاوزن في العصر الحديث، من خلال الصوت الهادئ الذي ظهر من شهادة الدراسات الأثرية القديمة.. الجميع الآن مضطر أن يعترف بأن السرد التوراتي عن الآباء والعهد الموسوي ملازم للألفية الثانية قبل الميلاد، وليس الألفية الأولى (كقول النُقاد) وأن التتابع الزمني لأسفار الشريعة والأنبياء قد تأكد تمامًا وبات واضحًا بلا شك”(20)(21).
ويقول ” كتشن ” المحاضر بجامعة ليفربول ” لقد نشأت نظرية النقد الأدبي بخصوص J , E , P , D من فراغ، وهي بلا قيمة لو قارناها بالطريقة التي كان الناس يكتبون بها زمن الكتاب المقدَّس. إنها نظرية وهمية لا تتماشى مع بيئة الكتاب المقدَّس في الشرق الأوسط، وعندما يُعاد تقييم كتابات التوراة في ضوء المحيط الذي تصفه التوراة، سنجد أنها متناسبة مع قراءتها. أما النظريات المبنية على افتراضات وهمية لا يساندها الواقع القديم فهي لا بُد ساقطة”(22)(23).
وقد رد العالِم اليهودي ” أومبيروتو كاسوتو ” على أهم خمس حجج تقوم عليها نظرية الوثائق خلال ستة فصول من كتابه ” نظرية الوثائق ” حيث يقول ” لم أبرهن أن الحجج الخمس واهية، أولًا أن أي واحد منها فشل في أن يسند البناء، ولكني برهنت أنها ليست أعمدة بالمرة، وإنه لا وجود لها إلاَّ في عقول أصحابها، وإنها محض خيال”(24)(25).
8- نقول لإخوتنا من الكتَّاب المسلمين لماذا لا تطبقون نظرية المصادر على سور القرآن، فقد ورد اسم “الله” (ويتماثل مع اسم ايلوهيم) في سور عديدة دون أن يستخدم اسم “الرب”، وحدث العكس أيضًا إذا استخدمت سور أخرى اسم ” الرب ” دون اسم ” الله ” فمثلًا لم يذكر اسم ” الرب ” في الصور الآتية: 4، 9، 24، 33، 48، 49، 57، 59، 61، 62، 63، 64، 86، 88، 95، 101، 102، 103، 104، 107، 109، 111، 112، وأيضًا لم يذكر اسم “الله” في السور الآتية: 15، 32، 54، 55، 56، 68، 75، 78، 83، 87، 89، 92، 93، 94، 99، 100، 105، 106، 108، 113، 114. بل نقول أن هذا دليل حاسم ومقنع على أن أدب اللغات السامية القديم كان قادرًا أن يستخدم اسمين من أسماء الله في مؤلف واحد(26)(27).
_____
(1) مقدمته لكتاب نصوص الشرق الأدنى القديمة بالعهد القديم لجيمس بريتشارد ص 3.
(2) مذكرة تاريخ الشرق الأدنى القديم – تاريخ اليهود ص 213.
(3) ترجمة د. زكي نجيب محمود، ومحمد بدران – قصة الحضارة – المجلد الأول ص 367، 368.
(4) ما أصل الإنسان؟ ص 151.
(5) راجع أيضًا قصة الخلق أو منابع سفر التكوين ص 193.
(6) قصة الخلق أو منابع سفر التكوين ص 149 .
(7) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 5.
(8) نقد التوراة ص 73.
(9) راجع مثلًا الخوري بولس الفغالي – سفر التكوين ص 347، 358، 431، 433.
(10) راجع جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 427.
(11) شرح سفر التكوين ص 57، 58.
(12) ترجمة نكلس نسيم – سلسلة تفسير الكتاب المقدَّس يتحدث اليوم – سفر التكوين جـ 1 ص 70، 71 .
(13) برهان يتطلب قرارًا ص 431.
(14) Archer, SOTI, 112.
(15) الفولكلور جـ 3 ص 28، 29.
(16) راجع جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 359، 360.
(17) راجع مدارس النقد والتشكيك جـ 1 ص 79 – 132.
(18) راجع مدارس النقد والتشكيك جـ 1 ص 133 – 185.
(19) دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 174.
(20) Kline, CITMB. 139.
(21) أورده جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 354.
(22) K. A. Kitchen, The Old Testament in its Context, P. 15.
(23) راجع وليم كامبل – القرآن والكتاب المقدَّس في نور التاريخ والعلم – الفصل الأول – القسم الثالث.
(24) Cassuto, Op. Cit , Magnes Press Jerusalem, 1941, P. 100.
(25) راجع وليم كامبل – القرآن والكتاب المقدَّس في نور التاريخ والعلم – الفصل الأول – القسم الثالث.
(26) Archer, SOTI. 111.
(27) راجع جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 434.