310- بأي لغة كتب موسى النبي التوراة؟ هل كتبها باللغة المصرية القديمة التي تكلم بها وأجادها؟
يرى د. عبد الحميد زايد أن موسى النبي كتب التوراة باللغة المصرية القديمة فيقول ” فموسى عاش وتوفي قبل أن توجد العبرية ويعرفها الإسرائيليون، فموسى كما تذكر المصادر اليهودية وغيرها وُلِد في مصر وسُمي باسم مصري.. (إن) العبرية لغة الشعب الإسرائيلي التي اقتبسها من الكنعانيين عندما تسللوا إلى أرض كنعان.. وهذه التسمية ” لغة عبرية ” لا تجد لها أثرًا في العهد القديم حيث ذُكرت في سفر إشعياء (لسان كنعان) أي لغة كنعان.. كما أُطلق على اللغة العبرية في المؤلفات المتأخرة اسم “لشون هقودش” أي اللسان المقدَّس.. قد أخذ الإسرائيليون هذه اللغة الكنعانية الأصل بعد اختلاطهم بالكنعانيين أيام يشوع بن نون.. فصحف موسى لم تدوَّن بالعبرية بل بالمصرية القديمة (الهيروغليفية)”(1).
ويعلق د. سيد القمني على أن العبرية هي لغة كنعان فيقول ” أما النسخة العربية، فتؤكد على غلافها {قد تُرجم من اللغات الأصلية، وهي العبرانية (أصلًا الكنعانية) واللغة الكلدانية (وما تحمله من تراث رافدي طويل) واللغة اليونانية (وما حملته من علوم جامعة الإسكندرية وتراثها المصري العريق)”(2).
ويرى ناجح المعموري أن اللغة العبرية لم تكن قد عُرفت في زمن موسى النبي فيقول ” يتفق الباحثون(3) على أن الموسويّين بعد أن استقروا في أرض كنعان في القرن الثالث عشر قبل الميلاد أخذوا بالثقافة الكنعانية وبحضارتها بما في ذلك اللغة الكنعانية التي كان يتكلم بها أهل البلاد، ولم تكن قد تكوَّنت لغة عبرية بعد، ولاشك في أن لغة هؤلاء الموسويّين عندما جاءوا إلى كنعان كانت اللغة المصرية”(4).
ج:
هناك عدة آراء في اللغة التي كتب بها موسى النبي التوراة، وللأمانة نعرض هذه الآراء، مع أننا نرى أن اللغة العبرية كانت معروفة في زمن موسى، وتكلم بها بنو إسرائيل في مصر وبعد خروجهم، وكتبت بها التوراة، ثم جاءت الترجمات من اللغة العبرية إلى اللغات الأخرى كاليونانية وغيرها.
فقد رأى بعض النقاد أن موسى النبي كتب التوراة باللغة المصرية القديمة التي أجادها بحكم حياته في قصر فرعون أربعين سنة. بينما رأى البعض الآخر مثل دكتور “نافل” ومستر “سايس” والكولونيل “كوندر” أن موسى النبي كتب التوراة بالخط المسماري على ألواح من الأجر(5) فقد انفتحت مصر لغويًا على بلاد المشرق، وبعد أن ماتت اللغة المسمارية Cuneiform خلال الألف الثاني قبل الميلاد، سادت اللغة البابلية حتى أصبحت لغة الشرق الأدنى، وانتشرت الكتابة المسمارية خارج حدود الشرق الأدنى، فوُجِدت أجزاء من ملحمة جلجامش باللغة البابلية في مكتبات ” أمنمفيس ” الثالث في مصر، كما أن فراعنة مصر يراسلون ملوك الحثيين بلغتهم البابلية هذه أي بالكتابة المسمارية(6) وقد استعمل البابليون الخط المسماري ليس في الأمور التجارية والسياسية فحسب، بل في كل أمور حياتهم، وكان الكثيرون من البابليون يلمون بالقراءة والكتابة، حيث إنتشرت المدارس والمكتبات وصارت هذه اللغة هي اللغة الدولية، فكان البلاط المصري يستعملها في مراسلاته مع الخارج، حتى أن ألواح تل العمارنة التي يرجع تاريخها إلى سنة 1887 ق.م. توضح مراسلات أخناتون مع أمراء كنعان في أورشليم وبيبلوس (جبيل) بالخط المسماري.
ورأى قسم ثالث أن موسى النبي لم يكتب التوراة لا بالمصرية القديمة، ولا بالخط المسماري، إنما كتبها بالأبجدية، فيقول ” ويدك ” في كتابه ” الأصل الآري للأبجدية”.. ” أن الأبجدية كانت تستعمل منذ أزمنة ترجع إلى ما قبل أيام موسى، فقد استعملها السومريون في الأزمنة الأولى”(7) وعند دراسة ألواح رأس شمرا يقول ” سيفر ” بأنها كُتبت بأبجدية تامة للغاية، وهي لغة لها صلة وثيقة باللغة الفينيقية واللغة العبرية أيضًا، وعند دراسة الحجر الموآبي الذي يرجع إلى سنة 860 ق.م. وُجِد أنه كُتب بالأبجدية العبرية بحروفها الفينيقية القديمة التي تتكون من 22 حرفًا (وهي تختلف عن الحروف العبرية الحالية) واكتشف ” سير فاندرز بتري ” كتابات في شبه جزيرة سيناء يرجع تاريخها إلى عصر موسى في هيكل سيرابيط بسيناء وهي قريبة من مناجم حُفرت وقت الخروج بأيدي غير مصرية، وقد بُني الهيكل على مكان مرتفع، حيث كان يتعبد فيه بنو إسرائيل فاستعملوا مذابح للبخور وكانوا يغتسلون ويقدمون الذبائح، وقد نُقشت هذه الكتابات بالحروف الأبجدية التي تشبه العبرية القديمة متأثرة بالعلامات أو الإشارات الهيروغليفية مما يثبت أن موسى كتب التوراة بهذه اللغة السامية القديمة، وهي تختلف عن اللغة المصرية القديمة، ولا ننسى أنه عندما جاء أخوة يوسف إلى مصر كان يتكلم معهم بواسطة ترجمان لأنه كان ينطق المصرية بينما إخوته لا ينطقونها بل ينطقون العبرية، ومع هذا فإن يوسف كان يفهم كلام إخوته العبري قبل أن يترجمه الترجمان لأنه منهم، أما الترجمان فكان من قبيل سبك الدور الذي قام به يوسف أمام أخوته ليعرف هل تغيروا في طباعهم أم لا(8).
وأيضًا يرى الأب جورج سابا أن التوراة لم تُكتب بالخط المسماري ولا بالخط الهيروغليفي، لأن هذين الخطين يخصان الخاصة، إنما كُتبت بالأبجدية، فيقول ” لم يكن في الإمكان أن يوضع الكتاب المقدَّس بخط ما بين النهرين المسماري، ولا بخط وادي النيل الهيروغليفي، وهما خطان صعبا المراس والقراءة، موقوفان بسبب ذلك على طائفة من الأخصائيين، في حين أن الله شاء أن يكون الكتاب المقدَّس كتاب البشرية، وهذا لا يمكن أن يتم إلاَّ بواسطة الأبجدية، مع ما في قراءة اللغة السامية من الصعوبة، لخلو كتابتها من الحركات”(9) كما يقول أيضًا الأب جورج سابا عن انتشار الأبجدية ” في صرابيط الخادم، على بُعد خمسين ميلًا من جبل سيناء، وفي كنعان (لاكيش – بيت شمس – جيزار..) وفي بيبلوس، أي جبيل، حيث عُثر على أقدم كتابة في الأبجدية التي كُتِب لها الفوز، على قبر أجيرام، في مقبرة الملوك، وفي أوغاريت (رأس شمرا) ما بين سنة 1500 و1000 ق.م.، انتشرت الأبجدية المعروفة.. وقد لقى شعب العهد القديم الأبجدية، وأقبلوا على استعمالها”(10).
ويذكر ” وليم البرايت ” أنواع الكتابات التي كانت تمارس في عصر موسى وما قبله قائلًا ” نقول في هذا الصدد أن الكتابة كانت معروفة جيد المعرفة في فلسطين وسوريا أثناء عصر الآباء المعروف بالعصر البرونزي الوسيط 2100 – 1500 ق.م.، نعرف منها على الأقل خمسة أنواع: (1) الهيروغليفية المصرية.. (2) الأكادية المسمارية (3) الأبجدية المقطعية في فينيقية (4) الأبجدية الطولية في سيناء (5) الأبجدية المسمارية في أوغاريت والتي اكتشفت عام 1929م”(11)(12).
وجزم البعض بأن موسى النبي كتب التوراة باللغة العبرانية(14) لأن إبراهيم عاش في أرض كنعان وتكلم لغتهم بدون حاجة إلى مترجم، ودُعي بإبراهيم العبراني (تك 14: 13)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولذلك فالشعب الإسرائيلي في مصر تكلم العبرية وحافظ عليها، ولا بُد أن موسى كان يعرف لغة قومه ويعتز بها، بالإضافة إلى إتقانه للغة المصرية القديمة، ولذلك تجد بعض الكلمات المصرية تخللت التوراة، فمثلًا كلمة ” أُبرك ” حيَّرت العلماء زمنًا طويلًا لأنهم ظنوها كلمة عبرية، ولكن اتضح أنها كلمة مصرية مألوفة لدى العبرانيين، وهي مازالت متداولة للآن في مصر حيث يقول المصري للجَمَل عندما يريد أن ينيخه ” أُبرك ” كما أنه وردت أسماء مصرية في التوراة دون أن يُذكر معناها لأن شعب التوراة يعرف المعنى، فمثلًا كلمة ” فينحاس ” تعني ” من بخس ” أي النوبي، و” رعمسيس ” أي مولود رع، كما حدث العكس إذ استخدمت اللغة المصرية القديمة بعض الكلمات العبرية مثلما جاء في كتاب الموتى(15) ولنلاحظ أن اليهود عندما تشتتوا في أرجاء العالم منذ القرن الأول الميلادي وحتى تجمع بعضهم في القرن العشرين على أرض فلسطين لم يتخلوا عن لغتهم، بل حافظوا عليها على مدار عشرين قرنًا.
ويقول الأستاذ وديع فرج الله زخاري ” ذكر دكتور أحمد عبد الحميد يوسف في كتابه (مصر في القرآن والسنة) فقال: الذي لا شك فيه أن موسى كان مصريًا بفكره ولسانه، إن لم يكن كذلك بقلبه وولائه، ولا شك أن أمه وهو في حجرها ترضعه وتربيه فقد علمته شيئًا من العبرية، فنطق بها وتكلم بعباراتها، ثم ازداد علمًا بها حين بلغ أشده.. أما من ناحية القول بأن العبرانيين لم يكونوا يعرفوا اللغة العبرية فليس بصحيح إذ أن العبرانيين كانوا يحتفظون بتلك اللغة في مصر، وبالتالي كتابة التوراة بها وليس بالهيروغليفية كما ذكر فؤاد حسنين على””(16)(17).
وتعتبر اللغة العبرية أحد اللغات السامية، وهي لغة كنعان ولذلك دعاها إشعياء ” بلغة كنعان” (أش 19: 18) كما دعاها نحميا ” باللسان اليهودي” (نح 13: 24) وأيام السيد المسيح صارت هذه اللغة وقفًا على قراءة النصوص المقدَّسة وطقوس العبادة، أما الشعب فكان ينطق بالآرامية.
_____
(1) مقدمة ترجمة نصوص الشرق الأدنى القديمة المتعلقة بالعهد القديم لجيمس بريتشارد جـ 1 ص 4.
(2) الأسطورة والتراث ص 190.
(3) أحمد سوسه – مفصل العرب واليهود في التاريخ ص 611.
(4) أقنعة التوراة ص 220، 221.
(5) راجع أ. م هودجن – تعريب حافظ داود – شهادة علم الآثار للكتاب المقدَّس ص 17، والقس صموئيل مشرقي – مصادر الكتاب المقدَّس ص 69، والقس عبد المسيح بسيط – التوراة كيف كُتبت ؟ ص 104.
(6) راجع سلسلة الأساطير السورية – ديانات الشرق الأوسط ص 16، 17.
(7) القس صموئيل مشرقي – مصادر الكتاب المقدَّس ص 68.
(8) راجع القس صموئيل مشرقي – مصادر الكتاب المقدَّس ص 69 – 71، 73.
(9) على عتبة الكتاب المقدَّس ص 103، 104.
(10) المرجع السابق ص 104.
(11) W.F.Albright, Archeology Confronts Biblical Criticism Vol. 7, P 186.
(12) راجع د. وليم كامبل – القرآن والكتاب المقدَّس في نور العلم والتاريخ – الفصل الأول. القسم الثالث.
(14) راجع أ. م هودجكن – شهادة علم الآثار للكتاب المقدَّس، ونجيب جرجس – تفسير سفر التكوين ص 28، ورأفت شوقي – سفر التكوين.
(15) راجع القس صموئيل مشرقي – مصادر الكتاب المقدَّس ص 71، 72.
(16) من رسالة ماجستير في تاريخ الكنيسة للكاتب سنة 2003م.
(17) مقال بجريدة الكتيبة الطيبية عدد 67 – فبراير 2008 تحت عنوان “تاريخ بني إسرائيل في مصر”.