297- هل قصة دمار سدوم وعمورة قصة خيالية؟ ولو كانت قصة حقيقية ألاّ تعتبر خرقًا للعهد الذي قطعه الله مع نوح بأن لا يُهلك الأرض مرة أخري؟
قال فراس السواح “فقصص الآباء في سفر التكوين رغم ترجيح وجود أساس واقعي لها، ليست إلا نوعًا من الملحمة البطولية، مما تعودت الشعوب تدبيجه عن البدايات الأولي.
فبعد المقدمة الميثولوجية المتعلقة بخلق العالم، ندخل في سلسلة أحداث مليئة بالتهويلات والمبالغات فنري.. مدن بكاملها تختفي من الوجود بنار وكبريت من السماء تنسكب عليها (تك 19: 22 – 26)”(1).
وقال ليوتاكسل ساخرًا “ولكن إذا أردت ألا تصدق بأن الحمامة (كناية عن الروح القدس) سخرت من مؤلف سفر التكوين المقدّس، وإذا كانت لديك رغبة في تصديق قصة المطر الناري، الذي هطل من السماء ليقتل الذين كانوا يمارسون اللواط والسحاق في سدوم وعمورة، فعليك أن تعترف إذًا بأن يهوه الذي لا يتغير، قد (ذكر ليوتاكسل لفظًا يعني عدم الصدق).. أليس هو نفسه من أقسم لنوح بأنه لن يعود إلي قتل الناس ثانية؟ ألم يكن قوس قزح علامة لعهده بألا يرسل الطوفان ثانية؟ فإن تقسم بألاّ ترسل الطوفان، ثم تستبدل تيارات الماء بتيارات من النار والكبريت لهي (وهنا نطق ليوتاكسل بألفاظ لا تليق بعظمة الله)..”(2).
ويري “زينون كوسيوفسكي ” أن تحول امرأة لوط إلي عمود ملح هو خرافة، فيقول ” قرب البحر الميت تلال من الملح الصخري، أخذ بعضها نتيجة للنحت والعوامل الجوية الأخرى هيئة تذكر بشكل إنسان وهذا كان بلا شك كان أساسًا لظهور خرافة حول زوجة لوط التي تحوّلت إلي عمود من الملح”(3).
ج:
1- لم يخرق الله عهده مع نوح لأن نص العهد القديم جاء في الصيغة الآتية:
“لا أعود ألعن الأرض. لا أعود أيضًا أُميت كل حي كما فعلت” (تك 8: 21).
وهذا العهد قائم لليوم، فمنذ أيام نوح وللآن لم يُهلك الله كل كائن حي من إنسان وحيوان، وما حدث في سدوم وعمورة هو إبادة جزئية لأنها شملت مساحة ضئيلة من مساحة الكرة الأرضية، ولم تكن الإبادة شاملة لكل حي علي وجه الأرض، وهنا تظهر بوضوح مغالطات النُقاد التي يختلقونها بهدف خدمة مقاصدهم.
2- رغم أن “ليوتاكسل ” سخر من حرق سدوم وعمورة معتبرًا أنها خرافة، إلا أنه أورد قولًا لسترابون في القرن الأول الميلادي، يؤكد فيه علي حقيقة خراب سدوم وعمورة، فقال “وإذا عُدنا إلي الجغرافي العظيم “سترابون ” الذي عاش في الحقبة التي تنتسب إليها الخرافة المسيحية عن ميلاد يسوع المسيح، فسنري أنه درس آسيا الصغرى دراسة مفصلة، وخاصة فلسطين التي وصفها بدقة متناهية، وقد درس سترابون منطقة سدوم والبحر الميت علي وجه الخصوص.. إلاّ أن ما وصفه “سترابون ” يثير الفضول حقًا، فيقول}هناك أُسس كثيرة تدعو إلى الاعتقاد بأن هذه المنطقة كانت فريسة للنار، صخور محترقة، شروخ كثيرة، أرض من الرماد، إنها تفوح منها رائحة كريهة، وأطلال المنازل منتشرة في كل مكان وهذا يرغمنا أن نصدق ما يزعمه السكان المحليون من أنه كانت تقوم هنا في زمن ما، ثلاثة عشرة مدينة عاصمتها سدوم، ولكن هزة أرضية، أو حممًا بركانية، وتيارات مياه البحيرة الكبريتية، ابتلعت هذه البلاد، ولم يبق منها سوي الصخور شاهدة علي الكارثة. بعض المدن غرق وبعضها الآخر تركه السكان لينجوا بأرواحهم{(4) غني عن القول أن هذا الوصف لا يشبه ما جاء في كتاب التكوين}فأمطر الرب علي سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من السماء{“(5).
أما احتجاج ليوتاكسل بأن الخراب حدث عن طريق الحمم البركانية، وهو يخلف ما جاء في سفر التكوين بأن الله أمطر نارًا وكبريتًا، فالحقيقة أن الحمم البركانية تندفع من فوهة البركان لأعلي ثم تهبط لتغطي مساحة كبيرة، فهي شبيهة بالمطر في منظر سقوطها علي اليابسة. ثم ما هو مصدر الأمطار؟ أليست مياهًا كانت مستقرة علي الأرض ثم تبخرت فارتفعت، وتكثفت فهبطت ثانية علي اليابسة أمطارًا، وهنا نري دقة التشبيه فهذه الحمم البركانية انطلقت من جوف الأرض وارتفعت ثم عادت وهبطت ثانية. ثم أيها القارئ العزيز ألم تري إنسانًا بذيئًا يمطر الآخرين بالبذاءات والشتائم؟!(7)
3- يقول جوش مكدويل “كان من المعتقد أن تدمير سدوم وعمورة من الأمور الخيالية، حتى كشف الدليل الأثري أن الخمس مدن المذكورة بالتوراة كانت بالفعل مراكز تجارية نشطة بالمنطقة، وكانت مواقعها الجغرافية هي بالضبط كما وصف الكتاب المقدَّس، وكذلك يظهر أن وصف التوراة لنظام الحكم يبدوا أنه ليس أقل دقة. تشير الأدلة أيضًا إلي تواجد نشاط بركاني، وأن طبقات الأرض المختلفة قد انفجرت وتشتت عاليًا في الهواء، فالبيتومين منتشر بدرجة عالية هناك، والوصف الدقيق يبرهن علي أن الكبريت (أحد مخلفات البيتومين) قد سقط علي تلك المدن التي رفضت الله، وهناك أدلة أخري توضح أن الصخور الرسوبية قد اختلطت مع بعضها البعض بفعل الحرارة الهائلة، وهناك دلائل نراها فوق جبل سدوم تؤكد أن الحريق والتدمير الهائل الذي حدث في ذلك الزمن البعيد، ربما حدث بسبب انفجار خزان بترولي أسفل البحر الميت واشتعل ودمّر، مثل هذا التفسير لا يُقلل من شأن القيمة الإعجازية للحدث، لأن الله يسيطر علي قوي الطبيعة..”(6)(8).
ويقول نيافة الأنبا بولا أثناء مراجعته لهذا البحث “وما لا يمكن تفسيره الآن يمكن تفسيره علميًا بدقة في المستقبل القريب للتطور العلمي “.
4- يتحدث ” زينون كوسيدوفسكي “عن تلال من الملح الصخري الذي اتخذ شكل إنسان، ولو كان اللفظ دقيقًا فإنه من المستحيل أن تشكل مجموعة تلال شكل إنسان واحد، فإما هو تل واحد شكّل شكل إنسان، أو تلال شكلت أشكال مجموعة من البشر، وبلا شك أن كوسيدوفسكي يعلم أن سفر التكوين قد أخبرنا بأن لوط كان له زوجة واحدة وليس مجموعة زوجات. ثم لم يذكر زينون في أي عصر كانت هذه التلال قائمة؟ وهل هذه التلال كانت قائمة بهذا الشكل قبل أيام إبراهيم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد أم منذ أيام إبراهيم..؟! وهكذا يا صديقي تري افتراضات النقاد تقوم علي أساس هش بهدف زعزعة الإيمان، ومبدأهم هو “العيار اللي ما يصبش يدوش “.
_____
(1) الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ص196.
(2) هل التوراة كتاب مقدس أم جمع من الأساطير ص102.
(3) الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص68.
(4) سترابون-الجغرافيا – الكتاب 1xv الفصل 11.
(5) هل التوراة كتاب مقدّس أم جمع من الأساطير ص100.
(6) Geisler, BECA, 50-51.
(7) نحن في موقع الأنبا تكلاهيمانوت لا نرتاح لمثل هذا الأسلوب في الرد (الجملة الأخيرة)، حتى وإن كان مجرد مثل لتقريب الصورة.
(8) برهان يتطلب قرارًا ص347.