هل العهد الذي قطعه الله مع إبرآم (تك 15: 7-19) مستمد من أسطورة طروادة وغيرها من الأساطير؟
296- هل العهد الذي قطعه الله مع إبرآم (تك 15: 7-19) مستمد من أسطورة طروادة وغيرها من الأساطير؟
ويعلق “چيمس فريزر ” علي الذبائح التي قدمها بحسب أمر الرب، والعهد الذي قطعه الله مع إبراهيم فيقول أن هذه عادات سادت منذ القديم بين الشعوب الوثنية، وذكر أمثلة عديدة علي هذا، نذكر منها ما يلي:
أ-عندما قاد “أغا ممنون ” الإغريق للهجوم علي طروادة، ذبح العراف “كلخاس” خنزيرًا بريًا في ميدان السوق وشطرة شطرين.. ومر كل جندي بينهما شاهرًا سيفه وهو يغمس طرف سيفه في دم الذبيحة، ولهذا أقسموا علي عدائهم لبريام ملك طروادة..
ب- عند عقد معاهدة سلمية في قبيلة “ناندي” كان يُذبح كلب ويشطر شطرين، يحمل كل شطر ممثل عن طرف من الطرفين المتنازعين، ثم يأتي رجل ثالث ليقول “ليقتل من ينقض هذه المعاهدة، كما قُتل هذا الكلب”(1).
ج- عندما كان يعقد زعيم قبيلة “بارولونج” في أفريقيا الجنوبية معاهدة سلمية مع زعيم قبيلة أخري، كان يأتي بمعدة ثور ويبقرها، ويزحف الزعيمان واحد تلو الآخر، وفسر “و. روبرتسون “هذه العادات علي أساس نظرية التطهير أو السر المقدس حيث أفترض أن مرور الجانبين بين أجزاء الحيوان المذبوح رمز إلي انتمائهم إلي حياة الحيوان الروحية”(2).
د- عند عقد معاهدة سلمية لدي عشائر “لو شاي كوكي “كان يُربط حيوان المثان (وهو من فصيلة الثور الأمريكي) في عمود، ثم يطعن كل فرد من المتعاهدين الثور خلف رقبته برمح، فيتدفق الدم، ثم يذبحونه، ويدهنون جباه المتعاهدين وأرجلهم بدمه، ويأكلون قطعًا صغيرة نيئة من كبده، وبذلك يقسمون علي العيش معًا ًفي سلام.
ه- عندما عقد الرومانيون والألبانيون معاهدة، تضرع ممثل الشعب الروماني للإله “جوبيتر” قائلًا “إذا نقض الشعب الروماني المعاهدة عن عمد، فتلحق بهم الضربات عند ذلك أيها الإله جوبتر، كما أضرب هذا الخنزير البري اليوم”(3).
و- عندما عقد الإغريق والطرواديون هدنة فيما بينهم ذبحوا الأغنام، وسكب أغا ممنون الخمر علي الذبائح وهم يدعون أن من يحنث باليمين تُهشَم رأسه ويسيل مخه مثل هذا الخمر.
ز- عندما كان يجتمع زعماء “الباتاكيون ” في سومطرة ليعقدوا صلحًا أو عهدًا، ويذبح أكبرهم خنزير أو بقرة، يخرجون قلبه، فيأخذ كل زعيم جزء في سنج ويشويه أو يدفئه علي النار ويأكله وهو يقول “إذا حدث وحنثت بيميني، فلأُقتل كما هذا الحيوان المسجي أمامي وهو يُدمي وليلتهم لحمي كما يُلتهم قلبه الآن”(4).
ح- في قبائل الشينيين يطلق المتعاهدون النار علي رأس الثور، وعندما يسقط يذبح، ويلطخ المتعاهدون وجوه بعضهم البعض بدم الثور، ويقول حكمائهم “ليمت من يُنقض هذا العهد ميتة هذا الحيوان، وليدفن جسده خارج القرية، ولا تهدأ روحه أبدًا، ولتمت أسرة كل من ينقض العهد، وليلحق بها كل حظ عاثر”(5).
ط- عند غجر “ترانسلانيا” تمر المرأة التي ولدت بين شطري ديك إذا كان المولود ذكرًا، أو بين شطري دجاجة إذا كانت المولودة أنثي، ثم يأكل الرجال الديك، أو تأكل النساء الدجاجة.
ويقول ﭽيمس فريزر “ويتضح من هذه الأمثلة أن المرور بين أجزاء الحيوان المذبوح يُقصد به الوقاية لا العقاب. كما أن لحم الضحية ودمها تشكل عقبة في طريق القوي الشريرة.. فإذا عدنا من حيث بدأنا، فإنه يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانت الوسيلة التي كان يتبعها العبريون القدماء عند عقد عهد بين طرفين، عن طريق المرور بين أجزاء الضحية، يُقصد بها العقاب أو التطهير، وبتعبير آخر هل كانت تعد وسيلة رمزية لإحلال الموت بالحانث باليمين.. أم كانت وسيلة سحرية لوقاية المتعاهدين من تأثير القوي الشريرة، ومن ثمَ فهي تحميهم من أخطار بعينها يمكن أن يتعرضوا لها”(6).
كما يعلق ﭽيمس فريزر علي الضحايا البشرية التي كان يقدمها الكنعانيون، فيقول “إذا كان هيكل الفتاة التي عُثر عليها في مقبرة “جيزر ” يمثل حقًا عادة التضحية بإنسان، فما زال علينا أن نتساءل: لماذا شق جسد الفتاة أو نُشر علي هذا النحو؟ إن عهد إبراهيم الذي نقيس عليه وبالمثل الطقوس المشابهة التي تحدثنا عنها، تشير إلي أن شطر الفتاة الضحية إلي شطرين ربما كان ُيقصد به الوقاية الجماعية، أو التصديق علي عهد. أو أننا نفترض أن جسد البنت قد قُطع إلي نصفين وأن الناس مروا بين هذين النصفين، إما بقصد تضليل قوي شريرة، أو بقصد تأكيد معاهدة سلمية..
عندما استولى “ببليوس ” علي مدينة ” أولكس ” قيل أنه أسر زوجة ملك المدينة وقطعها إلي نصفين وترك جيشه يمر بين هذين النصفين قبل أن يدخل المدينة.. فإن التأثير الذي يحدثه المرور بين جزئي الضحية من شأنه أن يخلق عهدًا دمويًا بين الظافرين والمنهزمين معًا، ومن ثَم فهو يؤمن المنتصرين ضد كل المحاولات العدائية من جانب المنهزم.. فالغزاة يطهرون أو يحمون أنفسهم من تأثير أعدائهم الشرير بالدخول ضمنًا معهم في عهد دموي”(7).
وأيضًا يذكر ﭽيمس فريزر “جاكسون ” الذي عاش في بداية القرن العشرين تقريبًا لمدة سنتين بين الفيجيائيين المتبررين الملحدين، فرآهم يدفنون الرجال أحياء بجوار أعمده البناء، والرجال يعانقون الأعمدة بقصد الإمساك بدعائم البيت بحجة أنه إذا ضحي هؤلاء الرجال بأرواحهم من أجل هذا المبني، فإن فضيلة الضحية تحض الآلهة للحفاظ علي سلامة البناء(8).
ج:
ما ذُكر سابقًا لا يمثل كل ما ساقه ﭽيمس فريزر من قصص وأساطير، ومع هذا فما عُرض يكفي القارئ العزيز ليعرف بوضوح تام مدي الفرق الشاسع بين العهد الذي أقامه الله مع إبراهيم، وبين القصص التي أوردها ﭽيمس فريزر، فمثلًا:
1-تنفرد ذبيحة العهد بين الله وإبراهيم، بأن الله هو الذي حدد لإبراهيم الذبائح التي تُقدم، وهي عَجلة عمرها ثلاث سنوات، وكذلك عنزة وكبشًا عمر كل منهما ثلاث سنوات، ويشطر كل منهما نصفين مع يمامة وحمامة لا تشطران، بينما ما جاء في القصص التي ساقها فريزر تجد الذبيحة قدمت من نوع واحد، سواء كانت ثورًا، أو خنزيرًا، أو كلبًا، أو بشرًا، ولا يشترط لها عمر معين.
2- تنفرد ذبيحة العهد التي قدمها إبرآم بأنها ظلت قائمة طوال اليوم، حتى أن الجوارح أرادت التهامها وظل إبرآم يزجرها وهذا لا نجد له أثرًا في الأساطير.
3- تنفرد ذبيحة العهد التي قدمها إبرآم، أنه وقت المغيب وقعت رعبة مظلمة عظيمة علي إبرآم، ووقع عليه ثبات، ورأي رؤيا، وسمع صوت الله ينبئه بمستقبل نسله، الذي سيتغرب في أرض غريبة لمدة أربعمائة عامًا، ويتعرض للذل والاستعباد، ثم ينقذه الله، ويدين الأمة التي استعبدته، وهذا ما تحقق بالضبط، فأي أسطورة أو قصة سادت بين الشعوب تحكي عن رؤيا مقترنة بنبوءة لأحد طرفي العهد؟!
4- تنفرد ذبيحة العهد التي قدمها إبرآم بأن تنور دخان ومصباح ناربدون مصدر بشري لهما، قد جازا بين شطري الذبيحة، وهذا لا نجد له أي أثر في الأساطير.
5- في الأمثلة التي ذكرها ﭽيمس فريزر تُذبح الذبيحة وتشطر، أو تطعن بالرماح، أو يُحرق وجهها بالنار وهي حية، والهدف هو عقد معاهدة سلمية بين طرفين متخاصمين أو متحاربين، بينما العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم لم يكن إثر نزاع أو خصام بين الله وإبرآم، إنما هو عهد بين الله القادر علي كل شيء وبين عبده إبرآم الإنسان الأمين المحبوب.. إنه تنازل من الله ليُدخل الطمأنينة في نفس حبيبه إبرآم، وبأنه سيرث أرض كنعان “فقال أيها السيد الرب بماذا أعلم إني أرثها. فقال له خذ عجلة ثلاثية و..” (تك 15: 8-10).
6- ذكر فريزر أن الهدف من ذبائح العهد بين الشعوب إقرار السلام بين المتنازعين، أو عدم الحنث بالعهد وتعرض من يحنث بالعهد للعقوبة والذبح كما حدث للذبيحة، أو تطهير الذين تلوثت أيديهم بسفك الدماء أو الوقاية من قوي شريرة، وهذه الأهداف لا نجد لها أثرًا في ذبيحة إبرآم، فالسلام كان قائمًا بين إبراهيم وإلهه، وإن الله صادق وأمين، فليس هناك أي احتمال ولو ضئيل جدًا لأن يحنث بعهده، أما إبرآم فقد تلقي الوعد الإلهي دون أية شروط، وبالتالي فلا يوجد هنا أيضًا أي احتمال لحنث إبراهيم، لأن العهد والوعد كان من جانب الله وحده، ولو تصوّرنا جدلًا أن هناك إلزامًا علي إبراهيم بشيء وحنث به، فإن الله لن يَشقه كما شُقت هذه الذبائح، وأخيرًا فإن يدي إبرآم لم تتلوث بسفك الدماء، فلم يُقم هذا الطقس من أجل نوال التطهير، ولا خشية من قوي شريرة.
7- كل ما ذكره فريزر هو عهود بين أشخاص أو بين جماعات، ولم توجد منها أسطورة واحدة تمثل عهدًا بين الإنسان والإله.
8- لو كان نقد النُقاد صحيحًا لحدّدوا الأسطورة أو الأساطير التي استمد منها إبرآم ذبيحته، ولعقدوا المقارنات الدقيقة، وهذا لم يحدث، إنما كل ما حدث فهو من قبيل إلقاء الكلام علي عواهنه.
_____
(1) الفلكلور في العهد القديم ﺠ 2ص 18.
(2) المرجع السابق ص 31.
(3) المرجع السابق ص 26.
(4) الفولكلور في العهد القديم ﺠ2 ص28، 29.
(5) المرجع السابق ص 29.
(6) الفولكلور في العهد القديم ﺠ2ص35.
(7) المرجع السابق ص 43-45.
(8) راجع الفولكلور في العهد القديم ﺠ 2 ص 48.