هل أخذ سفر التكوين قصة برج بابل وبلبلة الألسن من الأساطير؟
293- هل أخذ سفر التكوين قصة برج بابل وبلبلة الألسن من الأساطير؟
يقول الخوري بولس الفغالى عن برج بابل في الأساطير “في هذا المعنى نقرا عن {جوديا} ملك لأغاش في بلاد الرافدين (ملك حوالي 2500 ق.م) إنه افتخر ببناء بناه فوصل به إلى السماء فارتجفت السماء، وتروى التقاليد عن نبوفلاسر الذي حكم قبل قورش في بلاد فارس (626-605 ق.م) أن الإله مردوك طلب إليه أن يبنى برجًا تكون قاعدته في الجحيم ورأسه في السماء. لا شك أن الكاتب الملهم استفاد من هذه المعلومات وأعطاها أبعادا دينية تدل على ان الله يحط المتكبرين وبرفع المتواضعين”(1).
ويعلل البعض ذكر سفر التكوين لقصة برج بابل، فيقول الخوري بولس الفغالى أن البعض يرى أن حادثة برج بابل هو تفسير فولكلوري لوجود عدة لغات وتنوعها، فالكاتب انطلق من الواقع ليبين أن الاختلاف في اللغات هو سبب الانقسامات بين الشعوب. وقال البعض أن القصد من هذه القصة إظهار تزايد خطايا البشرية، وعدم ثقتها في الله، رغم العهد الذي قطعه الله مع نوح، وأيضًا إظهار الخطر الذي تشكله المدن على الإنسان، فالطبيعة من صنع الله أما المدن فهي من صنع الإنسان، ولذلك بنى من قبل قايين مدينة ليستتر بها أبنائه عند فعلهم الخطية لان الخيام لا تسترهم، والمدينة تمثل مركز عبادة الأصنام ورمز الشر، ولذلك احتقر العبراني سكنى المدن(2).
ويتساءل ليوتاكسل كيف زال برج بابل ولم يبق له أثر، بينما هرم خوفو مازال قائمًا، ويقول إن بعض اللاهوتيين أكدوا أن ارتفاع برج بابل بلغ 1500 مترًا بينما هرم خوفو بلغ 147 مترا فقط(3).
ويقول السيد سلامة غنمي “تحكى قبائل أفريقية حكايات عديدة تتشابه مع أسطورة برج بابل في وجوه محددة. كما يحكى في المكسيك عن بناء هرم “كولولا” حكاية شبيهة بحكاية الكتاب المقدَّس عن برج بابل، على أنه يبدو أن حكاية بلبلة الألسن قد انتشرت في المكسيك بعد غزو الأوربيين لها بزمن قصير.. كما أن هناك عدد غير قليل من الشعوب حاولت أن تفسر اختلاف اللغة عن طريق حكايات لا تمت لحكاية بابل بسبب.. على أن الكتاب الذي ضمنوا الفصول الأولى من سفر التكوين آراءهم الساذجة عن الأصول البشرية لم يذكروا شيئا عن الوسيلة التي يمكن أن يكونوا قد تصوروا أن الإنسان قد حصل بها على القدرة على الكلام البين”(4).
ويقول كمال الصليبي “خرافة تعدد الألسنة: كان القدماء في جزيرة العرب، على ما يبدو، يعترفون باله خاص بالبلبلة، واسمه آل بلال، ويبدو أنهم كانوا يعترفون بالوقت ذاته بوجود إله خاص باللغة والكلام (آل لسان).. جاء الإله آل لسان في البداية، فأعطى البشر لغة واحدة.. فاستاء الرب يهوه من ذلك، وهو الإله الذي كان همه الأول أن يسلب صلاحيات غيره من الآلهة، وأن يفرض سطوته وحده على البشر، ومما زاد خصوصا من استياء الرب يهوه.. تخوفه من أبعاد وحدة اللغة بين الناس، إذ كان في ذلك ما يمكنهم من كسب قدرات لا حد لها عن طريق التفاهم والتعاون فيما بينهم، فيصبح بإمكانهم الاستقلال عن إرادته.
فما لبث أن قام بما لزم ليمنع ذلك، متحالفا لهذه الغاية مع آل بلال.. وبوحي من الرب يهوه، أو بتشجيع أو تحريض منه، أخذ آل بلال على عاتقه بلبلة الألسنة، فلم يعد الناس على الأرض يفهمون بعضهم البعض، فارتاح الرب يهوه لذلك، وكان الرب بهذه المناسبة قد استغل التناقض الطبيعي بين صلاحيات آل لسان من جهة، وصلاحيات آل بلال من جهة أخرى، فأوقع الخصام فيما بينهما، وصارت له بالتالي سطوة على كليهما.. إن المسرح المفترض لأحداث القصة هو منطقة الطائف بالحجاز، حيث لازالت قرية آل بلال تحمل إلى اليوم اسم الإله الذي قام ببلبلة الألسُن”(5).
تعليق:
1- قصة برج بابل وبلبلة الألسن حقيقة، وليست أسطورة أو خرافة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فنمرود الجبار ونسله هم أصحاب فكرة بناء البرج، وقد تم العثور على أبراج تعلوها معابد في عدة أماكن ببلاد الرافدين، ودعيت باسم زيجورات Ziggurat. ومن أهم هذه الأبراج برج بابل الذي جاء وصفه بالحروف المسمارية Cuneiform على لوح فخاري، وهذا اللوح محفوظ الآن في متحف اللوفر بباريس، حيث كان يرتفع البرج سبعة طوابق بارتفاع تسعين مترا (وليس 1500 مترا كما ذكر ليوتاكسل على لسان بعض اللاهوتيين المجهولين الذين لم يذكر اسم واحد منهم) ومساحة قاعدته تسعون مترا مربعا، وقد قام نبوخذ نصر بترميمه، وقد كشفت الحفريات في العراق عن أبنية ضخمة مربعة يبلغ طول ضلعها 90 مترا ومساحتها 8100 م2، وتشمل نحو 85 مليون قرميدة، تشد من يراها ببريق ألوانها(6).
2- يقول الارشيدياكون نجيب جرجس “لا يزال في آثار بابل برج شامخ يرى العلماء أنه قام على أساسات برح بابل نفسه وهو في مكان يسمى “بورسيا” أي برج الألسنة، ويدعى البرج (برج نمرود) وقد وجدت كتابات الملك نبوخذ نصر أعلن فيها انه هو الذي قام بإصلاح البرج وتكميله، وأشار في كتابته إلى مسألتيّ الطوفان وبلبلة الألسنة”(7).
كما يقول أيضًا “موضوع بلبلة الألسنة مجمع عليه من العلماء والمؤرخين، فالمؤرخ اليوناني “يولهيستر” قال إن الناس كانوا يتكلمون لغة واحدة وفكروا في إقامة بناء يصل إلى السماء فبلبلت الآلهة ألسنتهم، والمؤرخ “أبيدينوس” ينقل خبرًا عن الآشوريين أن الناس قديما فكروا في بناء برج يتحدون به الآلهة، فأحبطت الآلهة مسعاهم، وهدمت بنائهم، وبلبلت ألسنتهم، وإن بابل قامت في المكان الذي وقع فيه هذا، ويؤكد “أفلاطون” أن الناس كانوا يتكلمون بلسان واحد، ولكن “جوبتر” بلبل ألسنتهم لأنهم كانوا يطمعون في الخلود”(8).
3- ويقول ناجح المعموري أن الرحالة الشهير “هيردوس” زار بابل نحو سنة 460 ق.م. ووصف البرج بأنه يشمل سبعة أبراج فوق بعضها، يعلوها حجرة تعتبر الطابق الثامن، وتعتبر هذه الحجرة هيكلًا وبها سرير عظيم من الذهب، بالقرب منه مائدة من ذهب، أو لتعبر عن مفهوم كزنى، ولذلك صنعت من سبعة طوابق إشارة للسموات السبع(9) ويقول “أندريه بارو” “أن برج بابل هو كاتدرائية العصور الغابرة، بل أنه أكثر من ذلك، لأن البشرية عندما شيدت الكاتدرائيات كانت قد عرفت الرؤيا المسيحية، وفي الألف الثالث ق.م كان الجنس البشرى لم يزل يتملس طريقة، ولكن الناس كانوا قد بدأوا يضمون أيديهم في وقفة الصلاة ويرفعون أعينهم بالسليقة نحو السماء”(10).
4- يقول المتنيح الأسقف أيسيذورس “ومنشور بختنصر مشهور، وهو إنه كان نقش بالخط المسماري على هرم وجد في محل برج نمرود الذي موقعه بين بغداد وبابل، وكان يسمى “بوربا” حيث الآن خرابات كبيرة من أجر بعضها مشو بالنار، وفي وسطها صرح بقي من ارتفاعه 46 مترًا، وقد ترجم هذه الكتابة العالم “أوير” في كتابه الدروس الآشورية وهي: {نبوخذ نصر ملك بابل راعى الشعوب.. نقول عن الآخر (برج بابل) أي أن هذا البناء هيكل أنوار الأرض السبعة المعلق على أقدم ذكر لبورسيا، بناه ملك قديم، ولكنه لم يتمم رأسه، فتركه الناس منذ أيام الطوفان متكلمين كلاما شرسا، وزلازل الأرض والرعود زعزعت اللبن وشققت الأجر المشوي الملبس به البناء، فتهدم اللبن وتكون منه تلول، فألهم مردوخ قلبي لأجدد بناءه، فلم أنزع حجر الأساس، بل اخترقت في الشهر الخلاصي واليوم المسعود اللبن والأجر بقناطر أقمتها، ورفعت قمته كما كان يبزم أن تكون، وكذا أعدت تشييده كما كان يلزم في العصور الخالبة القاضية، وكذا رفعت أعلاه}.
وقد وصف هذا البناء الضخم والصرح الجسيم “هيردوس” الذي شاهده بقوله{أنه مؤلف من سبعة بروج الواحد مبنى فوق الآخر بدرجات ضخمة.. وكانت جميعها مخصصة للآلهة السبعة التي هي زحل والزهرة والمشترى وعطارد والمريخ والقمر والشمس.. أما المصعد إليها فكان ممرا ملتفا تتخلله مساطب ومقاعد للراحة، وفي أعلاه مزار مقدس لنبو ولكنه لم يحتو على تمثال الإله، بل كان معبدا فيه مقعد ومائدة ذهبية تأوي إليه كل ليلة كاهنة هذا الإله. أما البرج الأسفل فقائم فيه تمثال بعل الذي به سمى كل البناء المشيد..}”(11).
5- يقول جوش مكدويل “هناك أدلة كثيرة على أن العالم كله كان له حقا لغة واحدة في وقت من الأوقات، ويشير الأدب السومري إلى هذه الحقبة في مرات عديدة.. لقد دلت الكشوف الأثرية على أن “أور-نامو” ملك أور في عام 2044 حتى 2007 ق.م قد تلقى أوامر، كما يعتقد، ببناء برج عظيم (زيجورات) كنوع من العبدة لإله القمر نانات، ويسجل لنا أحد الأعمدة الحجرية الأثرية الذي يصل عرضه إلى خمسه أقدام وطوله إلى عشرة أقدام الأعمال التي قام بها “أور-نامو” ففي إحدى اللوحات يظهر ومعه وعاء للطمي حتى يبدأ في تشييد البرج العظيم.. كما تبين لوحة طينية أخرى أن تشييد البرج أثار استياء الآلهة، فهدموا ما قام البشر ببنائه وشتتوهم، وجعلوا لغتهم الغربية. ومن الواضح أن هذا مماثل لما سجله لنا الكتاب المقدَّس.. ويشهد الكثير من اللغويين المعاصرين لرجحان هذه القصة كأصل للغات العالم، ويقول الفريدو تروبيتى أنه يستطيع أن يتتبع ويثبت الأصل المشترك لجميع اللغات..”(12).
_____
(1) المجموعة الكتابية – سفر التكوين ص 171.
(2) راجع المجموعة الكتابية – سفر التكوين ص 179.
(3) راجع هل التوراة كتاب مقدس أم جمع من الأساطير؟ ص 75، 76.
(4) التوراة والأناجيل بين التناقض والأساطير ص 101، 102.
(5) خفايا التوراة وأسرار شعب الله ص 88، 89.
(6) راجع بولس الفغالى – سفر التكوين ص 180.
(7) تفسير سفر التكوين ص 127.
(8) تفسير سفر التكوين ص 127.
(9) راجع موسى وأساطير الشرق ص 129-131.
(10) موسى وأساطير الشرق ص 132.
(11) المطالب النظرية في المواضع الإلهية ص 492، 493.
(12) برهان يتطلب قرارًا ص 129.