Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

في الأساطير البابلية أزعج البشر الآلهة، فضربتهم الآلهة بمرض الطاعون، ثم بالمجاعة، وأخيرًا بالطوفان.. كيف حدث هذا في الأساطير؟

 289- في الأساطير البابلية أزعج البشر الآلهة، فضربتهم الآلهة بمرض الطاعون، ثم بالمجاعة، وأخيرًا بالطوفان.. كيف حدث هذا في الأساطير؟

ج:

تحكي ملحمة أتراحسيس Atrahasis قصة خلق الإنسان والطوفان وتعمير الأرض من جديد، وقد عثر على نسختين لهذه الملحمة أحدهما يرجع تاريخها للقرن السابع عشر قبل الميلاد، والثانية يرجع تاريخها إلى النصف الأول للألف الأولى قبل الميلاد، وكلتا النسختين غير كاملة.

فقد تزايد عدد البشر، وازداد ضجيجهم، مما سبب قلقًا بالغًا للآلهة، التي أرادت ضربهم بمرض الطاعون: “قبل أن تمضي ألف ومئتا سنة.. بدأت البلاد المأهولة تتوسع والبشرية تتكاثر.. وكانت تخور أرض البشر كالثور.. ومن الضجيج الذي أحدثوه تعكر صفو الآلهة.. لقد سمع إنليل ضجيجهم.. فقال للآلهة الكبار:

إنه يثقل عليَّ جدًا ضجيج البشرية.. وهذا الصخب الذي يحدثونه يمنع عيني من الرقاد فليكن ثمة طاعون يسكتهم “.

وطلب الإله من الآلهة “ننكارك ” أن ترفع يدها عن الأمراض لتفتك بالبشر، فأوصت ننكار الإله “نمتار ” Nimtar وهو أحد آلهة العالم الأسفل، ويوصف بأنه إله الطاعون، بضرب البشر “فانتشرت الأمراض، كما انتشرت رائحة الموت في المدينة، وطارت الشياطين فوق البيوت، وأخذ البشر يتساقطون كالأوراق اليابسة “.

وماتت زوجة أتراحاسيس وابنه، فنعاهما بعبارات مؤثرة، وذهب إلى معبد الإله “آيا ” معترفًا بخطيته، وطلب الصفح والمغفرة فقال “إنني خادمك قد أخطأت وجدَّفت بالآلهة.. لم أعد أنطق بالشر، لم آكل من الطعام الخاص بالآلهة، ولم أنتهك المحرمات وأرتكب الشر، ولم أوجه رغباتي نحو ممتلكاتك الواسعة، لم يتجه طمعي إلى فضتك الثمينة.. لم أرتكب المعصية المعلنة والمكتومة، ولم أقترف المخازي، يا إلهي لقد أخذت مني زوجتي وولدي وجعلت الناس في مدينتي يئنون من المرض فهل كان هذا كافيًا؟ عسى أن يهدأ قلبك، وعسى أن تغفر وتسامح.. كانت أخطائي كثيرة، آه.. إنني أعيش أيام الألم وأشهر الحزن وسني الخيبة ويحيق بي الخراب والاضطراب والهيجان. لقد جعلت الموت والبؤس نهايتي.. أتيت إليك مبتهلًا أن تمحي لعنتي ولعنة شعبي، وأن تمحي إساءتي وذنبي وشري وخطيتي “.

واستمع “آيا ” لشكوى أتراحسيس، فأسدى له النصيحة بأن يجمع شيوخ المدينة ويبنوا معبدًا للإله “نمتار ” ويقدمون هدايا من الدقيق والأرغفة المحَّمصة، ففعلوا هكذا فرفع “نمتار ” يده عن الناس فتركهم الوباء، وهبت “ننكارك ” لكيما تداوي الناس وتسهر عليهم، فعاش الناس عيشة طيبة، وازداد عددهم، وعادوا إلى الضجيج مما أزعج الإله “آنو ” ثانية، فدعى الآلهة لكيما تمنع المطر والمياه الجوفية عن الأرض، لتحل المجاعات والقحط، فمنع “أدد ” إله الرعد والمطر، ومنعت “نصابا ” إلهة الحنطة فيض الحنطة من ثدييها، وفعلًا حدث هذا، فهلك الكثيرون من الجوع(1).

وجاء في نص الأسطورة “لم تنته بعد ألف ومئتا عام.. حتى امتلأت البلاد وتوسعت وتكاثرت الشعوب.. وأمست أرض البشر تخور كالثور.. ومن الجلبة التي أحدثوها تعكر صفو الآلهة.. سمع إنليل ضجيجهم فقال للآلهة الكبار:

كم هي ثقيلة على نفسي ضجة البشرية.. وبسبب الصخب الذي يحدثونه لم يغمض لي جفن.. ليحبس “حدد” (الإله أدد) الأمطار.. ولتتوقف على الرض فيضانات المياه الجوفية.. وليعصف الريح وتجف الأرض.. ولتتجمع الغيوم دون أن تسقط قطرة ماء.. وليقلل الحق إنتاجه.. ولتغلق آلهة الحصاد صدرها حين كان.. ولينته كل فرح للإنسان “.

ولكن عندما أسرع أتراحاسيس إلى معبد “آيا ” يصلي ويقد شكواه نصحه “آيا ” ببناء معبد للإله “أدد” (حدد) وتقديم هدايا له من الدقيق والأرغفة المحمصة، فخجل الإله “حدد ” ورفع يده، وأرسل الضباب والمطر خفية عن الإله “إنليل ” فابتعد شبح المجاعة عن البشر، وعندما رأى “إنليل ” الحقول أخضرت والمياه عادت غضب جدًا، وأمر بفرض مجاعة ست سنوات على البشر.

 “فعاشت البشرية عامها الأول تقتات النجيل.. وفي السنة الثانية أعثرتهم الحكمة.. وحين حلت السنة الثالثة.. غابت ملامحهم من شدة الجوع وأصبحوا غير معروفين.. وأصبحت وجوههم خضراء.. ولما انتهت السنة الرابعة.. أصبحت سيقانهم الطويلة قصيرة.. يروح الناس ويجيئون في الدرب منحني الظهور.. وحينما أتت السنة الخامسة.. كانت الابنة ترصد عودة أمها.. بيد أن الأم لم تفتح لابنتها الباب.. حين حلت السنة السادسة.. كان الأهل يضعون على المائدة لحم ابنتهم.. كما يتغذون بلحم ولدهم.. لقد أمسى وجه البشر وكأنه مطلي بمطاط الموت “.

فاشتكى البشر لخالقهم الإله “آيا ” الذي تأثر جدًا، ففتح مزلاج البحر العميق وعارضته، فتدفق الماء وعادت الحياة، وعلم الإله “إنليل ” فغضب جدًا، وقد أخبرته الآلهة أن “آيا ” هو الذي أعاد الحياة للإنسان الذي خلقه. أما “آيا ” فقال بل تراكم الأسماك هو الذي كسر مزلاج البحر العميق، فأقسم الإله إنليل على فناء البشر بطوفان عظيم:

 “وأقسم الإله “آنو ” على هذا، وتبعه الإله “إنليل ” وأبناؤه. أما “آيا ” فقال: لماذا تريدون أن تربطوني بالقسم؟ وكيف أنال شعبي بسوء بيدي هاتين؟ وحزن “آيا ” لأن شعبه الذي خلقه سيباد، فظهر في حلم لأتراحسيس وقال له (حذار يا أتراحسيس المياه.. المياه ستحطم كل شيء فانتبه لذلك، وخلص الإنسان بسلطان، حذار.. حذار) ففزع أتراحسيس من هذا الحلم… وتوجه أتراحسيس في الغد إلى معبد “آيا ” يستفسر منه عن هذا الحلم المزعج، فأوصاه “آيا ” ببناء سفينة ضخمة مكعبة يدعوها (ماكور أوكر) أي منقذة الحياة، ويحمل فيها بذرة كل المخلوقات الحيَّة “.

وجاء في نص الأسطورة كما وردت في سلسلة الأساطير السومرية ما قاله الإله “آيا ” لأتراحسيس:

 “أهدم بيتك وأصنع فلكًا.. لا تعتد بثروتك حتى تنجو بحياتك.. ليكن الفلك الذي ستصنعه ذات قياسات واحدة (أس مكعب الشكل).. غطه مثل “الأبسو “.. حتى لا ترى الشمس ما في داخله… وليكن القار سميكًا، اجعله مقاومًا..

 (ثم أمره أن يحضر) الكثير من الطيور والكثير من الأسماك.. عندئذ ادخل الفلك وأغلق الباب.. اشحن فيه حبوبك وممتلكاتك وثرواتك.. وامرأتك وعائلتك.. وأقرباءك وأساتذة الفن أيضًا.. وسأنبهك حتى يكونوا قرب الباب.

فتح أتراحسيس فاه وتكلم.. قال: “آيا ” سيدي.. أنا لم أصنع قط فلكًا.. ارسمه لي على التراب.. وهكذا بعد أن أرى الرسم أصنع الفلك.. رسم “آيا ” على الأرض صورة الفلك.. وفتح الساعة المائية وملأها.. ملأها بالرمل ليعلن بعد سبع ليالٍ عن الطوفان.. تلق أتراحسيس هذه التعليمات.. وعند بيته جمع الشيوخ.. فتح أتراحسيس فمه.. وقال للشيوخ:

مع إلهكم لم يعد إلهي على وفاق.. إن “إنكي ” و”إنليل ” في خصام الواحد مع الآخر.

 (وقبيل الطوفان) أصعد أتراحسيس إلى السفينة عائلته.. ومن ثمَّ أكلوا وشربوا، أما هو فكان يدخل ويخرج.. دون أن يجلس أو يقعد.. كان قلبه يتمزق.. والمرارة تملأ فمه.. وزمجر الإله “حدد ” في الغيوم.. وإذ سمعوا صوت الإله.. جلبوا القار لإحكام الباب.. وبعد أن أُغلق الباب.. كان يزمجر في الغيوم “حدد “.. وحين يقف كانت الرياح تعصف.. عندئذ قطع الحبل وحرَّر السفينة.. فانطلق الطوفان.. لم يعد الواحد يرى الآخر.. يخر الطوفان كالثور.. ويزأر كالنسر ويعوي كالريح.. كان الظلام دامسًا وقد توارت الشمس “.

وجاء ضمن النص الذي أورده فراس السواح ما قصه أتراحسيس لجلجامش فيما بعد عن أوصاف السفينة، وحمولتها، وهول الطوفان، وخوف الآلهة وبكائهم، وانتهاء المأساة، وعودة البشر إلى الطين، ورسو السفينة، وإرسال الطيور، وتقديم الذبيحة، ومنح “إنليل ” أتراحسيس الخلود، فدُعي باسم أوتنابشتيم، ونورد هذا الجزء الأكبر من النص بحسبما أورده فراس السواح

 “جلب الأطفال القار (بينما) جلب الكبار (كل ذي) فائدة.. وفي اليوم الخامس أنهيت هيكل (السفينة).. وحول كل جانب من جوانب سطحها مائة وعشرون ذراعًا.. حَددتُ شكلها الخارجي وشكَّلته.. وست سطوح سفلية بنيت فيها.. وبذلك قسمتها لسبع طوابق.. كما قمت بتقسيم أرضيتها لتسعة أقسام.. وثبتُ على جوانبها مصدات المياه.. زودتها بالمؤن والذخيرة.. وسكبت في الفرن ست وزنات من القار.. وثلاث وزنات من الأسفلت.. ثلاث وزنات من الزيت آتى بها حاملو السلال.. واحدة استهلكها نقع مصدات المياه.. واثنتان قام ملامح السفينة بخزنها.. ذبحت للناس عجولًا.. ورحت أنحر الخراف كل يوم.. عصير العنب والخمر الأحمر والزيت والخمر الأبيض.. أعطيت الصناع فشربوا كما من نهر ماء.. واحتفلوا كأعياد رأس السنة..

حملتُ إليها (إلى السفينة).. كل ما أملكه من فضة حملت إليها.. كل ما املكه من ذهب حملت إليها.. كل ما لدي من بذور، كل شيء حي إليها.. وبعد أن أدخلتُ إليها أهلي وأقاربي جميعًا.. وطرائد البرية ووحوشها وكل أصحاب الحرف.. عين لي الإله “شمس ” وقتًا محددًا.. وعندما يرسل سيد العاصفة، مطرًا مدمرًا في السماء.. أدخل الفلك وأغلق عليك بابك..

وما أن أزف الموعد.. حتى أرسل سيد العاصفة مطرًا مدمرًا في السماء.. قلبت وجهي في السماء، كان الجو مرعبًا للنظر.. دخلت السفينة وأغلقت عليَّ بابي.. وأسلمت قيادتها للملاح بوزور – أموري.. أسلمته الهيكل العظيم بكل ما فيه.. وما أن لاحت تباشير الصباح.. حتى علت للأفق غيمة كبيرة سوداء.. يجلجل في وسطها صوت “حدد “.. إلاَّ أن ثورة حدد بلغت حدود السماء.. عصفت الريح العاتية يومًا كاملًا.. بعنف عصفت.. أتت على الناس وحصدتهم كما الحرب، حتى عمى الأخ عن أخيه.. وبات أهل السماء لا يرون الأرض..

حتى الآلهة زعروا من هول الطوفان.. وهربوا صاعدين إلى سماء “آنو”.. انكمشوا كالكلاب الخائفة وربضوا في آسي. صرخت “عشتار ” كامرأة في المخاض.. ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت العذب.. وبكى معها آلهة الأنوناكي.. جلسوا يندبون وينوحون.. وقد غطوا أفواههم.. ستة أيام وستة ليالٍ.. والرياح تهب والعاصفة وسيول المطر تطفي على الأرض.. ومع حلول اليوم السابع، العاصفة والطوفان.. خففت من وطأتها وكانت قبل كأنها الجيوش المحاربة.. وأخذ البحر يهدأ والعاصفة تسكن، والطوفان يتوقف..

فتحتُ نافذة، فوقع النور على وجهي.. نظرت إلى البحر، كان الهدوء شاملًا.. وقد عاد البشر إلى الطين.. جلست وانحنيت أبكي.. وانسالت دموعي على وجهي.. ثم نهضتُ وتطلعت في كل الاتجاهات.. مستطلعًا حدود البحر.. على بعد اثنتي عشرة ساعة مضاعفة، انبثقت قطع من الأرض.. واستقرت السفينة على جبل (نصير).. أمسك الجبل بالسفينة ومنعها من الحركة.. ومضى اليوم الأول والثاني والجبل ممسك بالسفينة.. ومضى اليوم الثالث والرابع والجبل ممسك بالسفينة.. ومضى اليوم الخامس والسادس والجبل ممسك بالسفينة..

وعندما حل اليوم السابع.. أتيتُ بحمامة وأطلقتها في السماء.. طارت الحمامة بعيدًا وما لبثت أن عادت إليَّ.. لم تجد مستقرًا فآبت.. فأتيت بسنونو beni وأطلقته في السماء.. طار بعيدًا وما لبث أن عاد إليَّ.. لم يجد موطئًا لقدميه فآب.. ثم أتيت بغراب وأطلقته في السماء.. فطار الغراب بعيدًا ولما رأى أن الماء قد انحسر.. أكل وحام ولم يعد..

عند ذلك أطلقت الجميع للجهات الأربع وقدمت أضحية.. سكبت خمر القربان على قمة الجبل.. أقمتُ سبعة قدور وسبعة آخر.. وجمعت تحتها قصب السكر الحلو وخشب الأرز والأسى.. فتنسم الآلهة الرائحة الزكية.. تجمعوا على الأضحية كالذباب.. وعندما وصلت الآلهة العظيمة “عشتار “.. رفعت عقدها الكريم الذي صنعه “آنو” وفق رغباتها وقالت:..

أيها الآلهة الحاضرون.. كما لا أنسى هذا العقد اللازوردي.. الذي يزين عنقي.. فإنني لن أنسى هذه الأيام قط وسأذكرها دومًا.. تقدموا جميعًا وقربوا من الذبيحة.. إلاَّ إنليل وحده لن يقترب.. لأنه سبب الطوفان دونما ترو.. وأسلم شعبي للدمار.. وعندما وصل إنليل.. ورأى السفينة انتابه الغيظ الشديد.. واستشاط غضبًا من آلهة الأيجيجي.. أنجا أحد من الفانين؟ ألم يكن مُقدَّرا أن يهلكوا جميعًا..؟ ففتح “ننورتا ” فمه وقال مخاطبًا إنليل المحارب:

من يستطيع أن يقوم بأمر دونما “آيا “.. إن “آيا ” وحده يعي كل الأمور.. ففتح “آيا ” فمه وقال مخاطبًا إنليل المقاتل:

أيها المحارب، أيها الحكيم بين الآلهة.. كيف، آه كيف دونما تفكر جلبت هذا الطوفان..؟ حَمّل المذنب 1نبه، والآثم إثمه.. أمهله حتى لا يفنى، ولا تهمله كي لا يفسد.. كنتَ تستطيع بدل الطوفان أن تسلط الأسود لتنقص عدد البشر.. كنتَ تستطيع أن تطلق الذئاب فتنقص من تعدادهم.. أو تُحدث القحط الذي يهلك البلاد.. أو تأتي ب إيرا.. فيحصد الناس.. ثن إنني لستُ الذي أفشى سر الآلهة العظام.. لقد أريتُ أتراحسيس.. حلمًا فاستشف منه السر.. والآن أعتقد أمرك بشأنه..

فصعد إنليل إلى السفينة.. وأخذ بيدي وأصعدني معه.. كما أصعد زوجتي أيضًا وجعلها تركع إلى جواري.. ثم وقف بيننا ولمس جبهتينا مباركًا:

ما كنت يا أوتونابشتيم إلاَّ بشرًا فانيًا.. ولكنك منذ الآن ستغدوان مثلنا (خالدين).. وفي القاصي البعيد عند فم الأنهار ستعيشان.. ثم أخذوني وأسكنوني في البعيد حيث فم الأنهار”(2).

ونرجئ التعليق أيضًا على ملحمة أتراحسيس إلى إجابة السؤال رقم (291).

_____

(1) راجع خَزْعَل الماجدي – إنجيل بابل ص170 – 172.

(2) راجع أيضًا خَزْعَل الماجدي – إنجيل بابل ص178 – 184.

Exit mobile version