Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

هل تأثر الكتاب المقدس بما جاء في الأساطير عن العالم السفلي؟ وهل تطورت فكرة الكتاب المقدس عن الهاوية؟

 305- هل تأثر الكتاب المقدس بما جاء في الأساطير عن العالم السفلي؟ وهل تطورت فكرة الكتاب المقدس عن الهاوية؟

قال النقاد أن هناك عدة أوجه تشابه بين ما جاء في الكتاب المقدَّس والأساطير:

أ- إن الأتقياء يرتعبون من الهاوية، وهكذا انزعج الملك حزقيا الصالح، فأطال الله حياته خمسة عشر عامًا. وهذا تأكيد على أن جزاء الإصلاح ليس في الدار الآخرة بل على هذه الأرض، ولهذا جاءت الوصية “أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك” (خر 20: 13). “يا ابني لا تنس شريعتي.. فإنها تزيدك طول أيام سني حياة وسلامة” (أم 3: 1 و2). ويقول الدكتور سيد القمني “وكان أعظم عقاب رباني يلحق بإنسان هو أن يموت، حتى أن الله ذاته كثيرًا ما كان يلجأ إلى هذا السلاح السريع المفعول لإنزال عقابه على العصاة، فيميتهم ليذهبوا إلى عالم تحت الأرض (الهاوية). أما الإنسان المخلص ليهوه، فكان يهوه يزيد في سني عمره وفي حياته الدنيوية الأرضية. فالتوراة تحكي {وكان عير بكر يهوذا شريرًا في عيني الآب فأماته الرب} (تك 38: 7).

وهذا {أونان. أفسد على الأرض.. فقبح في عيني الرب ما فعله فأماته أيضًا} (تك 38: 8- 10). وذاك الملك التقي الورع (حزقيا) يخبر النبي إشعياء بقرب موعد موته، ويرجوه أن يتوسط لدى الرب يهوه، وأن يُذكّر (يهوه) بأفضاله عليه، فينقل إشعياء الرسالة ليهوه، ويتلقى الرد {اذهب وقل لحزقيا هكذا يقول الرب إله داود أبيك. قد سمعت صلاتك. قد رأيت دموعك. وهآنذا أُضيف إلى أيامك خمس عشرة سنة} (أش 38: 5) لذلك فإن {مخافة الرب تزيد الأيام. أما سنو الشرير فتُقصَر} (أم 10: 27) لأن شيول تساوى بين الجميع”(1).

ب- الهاوية مكان الرعبة كما جاءت في الأساطير، وهكذا وصفها أيوب الصديق “قبل أن أذهب ولا أعود. إلى أرض ظلمة وظل الموت. أرض الظلام مثل دُجى ظل الموت وبلا ترتيب واشراقها كالدجى” (أي 10: 21، 22).

جـ- الهاوية في العالم الأسفل كما جاءت في الأساطير، وهكذا جاء في وصفها في سفر التكوين، فقيل عن يعقوب “فأبى أن يتعزى وقال إني أنزل ابني نائحًا إلى الهاوية” (تك 37: 35). وقيل عن الملاك الساقط “لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب” (أش 14: 15).

د- الهاوية هي أرض الصمت والسكوت في الأساطير لذلك طلب جلجامش من أنكيدو أن لا يحدث صوتًا، وهكذا جاء وصفها في سفر المزامير “لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت” (مز 94: 17). “ليس الأموات يسبحون الرب ولا من ينحدر إلى أرض السكوت” (مز 115: 17).

هـ- يقول فراس السواح أن الهاوية لا تخضع لسيطرة يهوه، لكننا نعلم مؤكدًا أن هذا العالم لا يقع تحت سيطرة يهوه، وأن الأموات هناك لا يعبدونه، ولا يسبحون بحمده. ففي المزمور 6 نجد صاحب المزمور يطلب من الإله أن يخلصه من الموت ليطيل من حمده له وشكره على نعمه، ويذكّره بأن أهل العالم الآخر لا يسبحون له {عد يا رب. نج نفسي. خلصني من أجل رحمتك. لأنه ليس في الموت ذكْرك. في الهاوية من يحمدك} (مز 6: 4، 5)(2).

و- يقول فراس السواح أن الكتاب المقدَّس يشابه الأساطير في سيطرة القوى العمياء على الهاوية. ويحدثنا سفر الجامعة عن سيطرة القوى العمياء على شيئول وعن ضرورة تزود الإنسان بما يستطيع من هذه الحياة لأن بعدها يأتي النسيان. فنقرأ في الإصحاح التاسع كلمات تشبه إلى حد بعيد كلمات فتاة الحانة إلى جلجامش {اذهب كل خبزك بفرح واشرب خمرك بقلب طيب. لتكن ثيابك في كل حين بيضاء.. إلتذ عيشًا مع المرأة التي أحببتها.. لأن ذلك نصيبك في الحياة وفي تعبك الذي تتعبه تحت الشمس. كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها} (جا 9: 7- 10)(3).

ز- يرى فراس السواح أن فكرة الهاوية في العهد القديم مرت بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى:

تميز الهاوية بالسكوت المطبق، وهذه الفكرة تتمشى مع فكر موسى النبي الذي أدان بآراء “إخناتون” الذي أنهى عبادة “آتون” التي تميزت بالتركيز على الحياة الأخرى.

المرحلة الثانية:

عندما استقر الشعب اليهودي في أرض كنعان “وتسربت للدين معتقدات الفلسطينيين والكنعانيين والآراميين، وبدأت فكرة العالم الأسفل بالتوضيح أكثر فأكثر لتأخذ شكلًا قريبًا من معتقدات السومريين والبابليين”(4).

المرحلة الثالثة:

وهي فترة السبي البابلي “وهناك احتك المسبيون بالديانة الزارادشتية -عند جيرانهم الفرس- التي تؤكد على الحياة الأخرى تأكيدًا مطلقًا، فيوضح اللاهوت الزرادشتي بكل دقة وتفصيل حياة العالم الآخر. فبعد الانتصار النهائي “لاهورامزدا” الإله الممثل للقوة الخيرة والضياء والنظام على “أهريمان” الإله الممثل لقوى الشر والظلام والفوضى، يتوَّج أهورامزردا إلهًا واحدًا أحدًا مطلقًا على الأكوان، وتُبعث الأموات من مرقدها إلى يوم الحساب، فيوضع أمام كل إنسان ميزانه الذي يزن حسناته وسيئاته، فمن زادت حسناته فإلى نعيم دائم ومن كثرت سيئاته إلى جحيم مقيم. وبعد المحاكمة يمشي كل واحد على درب يوصله للجنان وتحته تتوقد ألسنة اللهيب. فأما الظالمون فيضيق الدرب بهم حتى يعدو كالشعرة، وأما المفلحون فيتسع لهم فيسيروا الهوينا سالمين”(5).

ج:

1- يجب النظر إلى موضوع الموت في العهد القديم في ظل الاعتبارات الآتية:

أ- تمثل الحياة على الأرض الفترة المتاحة لتوبة الإنسان، فطالما قلب الإنسان ينبض بالحياة فباب التوبة مفتوح أمامه. أما بعد الموت فباب التوبة يغلق تمامًا. ولذلك عندما أمات الله عير بن يهوذا وشقيقه أونان فمعنى هذا أن باب التوبة أُغلق أمامهما بسبب شرهما.

ب- عندما كان يموت الإنسان سواء كان شريرًا أو صالحًا كان يذهب إلى الجحيم، حيث ملك الشيطان على جميع أنفس البشر من آدم وحتى إتمام الفداء على عود الصليب، فكان الجميع بعد الموت يدخلون إلى سجن الجحيم، حتى الأبرار، لأن إبليس تسلط على كل بني البشر الذين أخطأوا على شبه معصية آدم، ولذلك دعى الكتاب المقدَّس الجحيم بأرض الظلمة والصمت والسكوت والكف عن التسبيح.. إلخ.

جـ- بعد السقوط عاش الإنسان ظلمة الخطية، وطمس الشيطان ذهنه، فعجز عن إدراك الأمور الآخروية، فعامله الله على قدر مستواه هذا، وجعل البركات المادية وطول سني الحياة على الأرض مكافأة لطاعته وتنفيذه الوصايا، ولذلك قرن وصية إكرام الوالدين بالعمر الطويل، وقرن تنفيذ الوصايا الإلهية بالبركات المادية، فمن سمع صوت الرب يأكل دسم الأرض، ومن أبىَ وتمرد بالسيف يُؤكل “يأتي عليك جميع هذه البركات إذا سمعت لصوت الرب إلهك. مباركًا تكون في المدينة ومباركًا تكون في الحقل. ومباركة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك نتاج بقرك وإناث غنمك. مباركة تكون سلتك ومعجنك” (تث 28: 2- 5).

2- رأت حكمة الله الكشف عن صورة العالم الآخر شيئًا فشيئًا: فمثلًا الإعلان عن السماء جاء شيئًا فشيئًا، وجاءت قمة الإعلان في السفر الأخير من الكتاب المقدَّس، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ومع ذلك فإن السماء مازالت في نطاق ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر، وهذا ما نلاحظه أيضًا في الإعلان عن ذات الله الواحد في الجوهر المثلث الأقانيم، فنجد في العهد القديم إشارات لم يدركها الإنسان، إلى أن استُعلن الثالوث بعد التجسد الإلهي عندما رأينا الابن، وتلامسنا مع الروح القدس.

3- الكتاب المقدَّس كله وحدة واحدة: وقد أوضح داود النبي في القرن العاشر قبل الميلاد بأن الهاوية ليست هي نهاية المطاف للأبرار، ولذلك قال:

أ- “لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادًا” (مز 16: 10).

ب- “يا رب أصعدت من الهاوية نفسي أحييتني من بين الهابطين في الجب” (مز 30: 3).

جـ- “لأن رحمتك عظيمة نحوي وقد نجيت نفسي من الهاوية السفلى” (مز 86: 13).

د-رنم بني قورح “إنما الله يفدي نفسي من يد الهاوية لأنه يأخذني” (مز 49: 15).

هـ- قال هوشع النبي في القرن الثامن قبل الميلاد “من يد الهاوية أفديهم من الموت أخلصهم. أين أوباؤك يا موت أين شوكتك يا هاوية. تختفي الندامة من عيني” (هو 13: 14).

و- أوضح دانيال النبي الصورة أكثر عندما قال “وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي” (دا 12: 2).

ز- أوضح العهد الجديد صورة المجيء الثاني والدينونة، والانتقال من الفردوس للملكوت، ومن الجحيم إلى جهنم النار بصورة أوسع وأشمل.

4- إن كانت الهاوية تحت سلطان إبليس، فإن إبليس ومملكته في داخل دائرة الضبط الإلهي، فالله هو ضابط الكل والمتحكم في كل الأمور، ولذلك القول بأن الهاوية لا تخضع لسلطان الله قول خاطئ، وتجعل الله غير كلي القدرة والسلطان، فيتسلط على أمور دون الأخرى.

5- هناك بعض الأمور التي ذكرها النقاد والكتاب المقدَّس بريء منها، مثل قولهم بوزن السيئات بالحسنات، فالكتاب لم يعلم بأن الحسنات يذهبن السيئات، وكذلك المشي على درب للعبور للجنة وتحته تتوقد ألسنة اللهب، ويتسع هذا الدرب للطالحين، ويضيق للظالمين حتى يصير مثل الشعر، فهذا فكر غير كتابي وثقافة غير مسيحية.

_____

(1) قصة الخلق أو منابع سفر التكوين ص 183.

(2) مغامرة العقل الأولى ص 239.

(3) المرجع السابق ص 239.

(4) المرجع السابق ص 240.

(5) مغامرة العقل الأولى ص 240.

هل تأثر الكتاب المقدس بما جاء في الأساطير عن العالم السفلي؟ وهل تطورت فكرة الكتاب المقدس عن الهاوية؟

Exit mobile version