278- هل يمكن إلقاء الضوء على “الأينوما إيليش” (إنوما إليش) قصيدة خلق الآلهة والكون والإنسان البابلية؟
ج–
تعتبر قصيدة Enûma Eliš “الأينوما إيليش ” Enuma Elish من أشهر أساطير الخلق البابلية، وأول من فك رموز هذه القصيدة “جورج سميث ” ثم تُرجمت هذه القصيدة إلى أكثر من لغة، ومن أقدم هذه الترجمات الترجمة الفرنسية التي لم تعد صالحة الآن، بالنظر إلى الترجمات الحديثة التي تمت سنة 1989م.
وقال البعض أن تاريخ القصيدة يرجع إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، بينما قال آخرون ” يعود تاريخ كتابتها إلى القرن العاشر قبل الميلاد، ولكنها نشأت قبل هذا التاريخ”(1). ويقول الأب سهيل قاشا، كانت القصة الأولى للخلق هي السومرية نحو 3000 ق.م. ثم تبعتها نصوص بابلية في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد (أي نحو 1500 ق.م) وكان آخر نص هو ملحمة الخلق البابلية (أينوما إيليش) التي أخذت شكلها النهائي في القرن السابع قبل الميلاد.. وقد نُظمت أصلًا في الألف الثاني قبل الميلاد، وفي كل النسخ يلعب مردوخ الدور الرئيسي. وقد بقيت هذه الملحمة تتلى في اليوم الرابع من احتفالات رأس السنة الـ”أكيتو ” من شهر نيسان ولمدة ألفى عام في بابل. تُذكَر الناس بسيادة النظام على الفوضى.. وقصص الخلق المتعددة لا تختلف في جوهرها الفكري. إنما كانت تعدل جزئيًا مع تبديل في أسماء الآلهة، حسب الهيمنة السياسية لكل مدينة، لأن لكل مدينة إلهها الرئيسي، فبعد أن كان (إنليل) هو الخالق في القصة السومرية أصبح (مردوخ) في البابلية، وأستعيض عن (إنكى) و(آيا)”(2).
وتدور ملحمة “الأينوما إيليش” حول قصة خلق الكون والإنسان بعد صراع طويل بين الآلهة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وتمجد الملحمة مردوخ الذي هزم الوحش المائي “تيامات ” Tiamat، ويعتبر الكثيرون أن هذه الملحمة أفضل تعبير عن اللاهوت البابلي، وكان كهنة بابل ينشدون هذه القصيدة بأُبَهة وعظمة في عيد رأس السنة حتى سنة 500م، وتتألف القصيدة من 1100 سطر تم تجميعها من 60 نسخة تم اكتشافها في أماكن عديدة، ولاسيما في مكتبة الملك أشور بانيبال (673 – 668ق.م) كما تم اكتشافها خلال فترات زمنية متباعدة من نهاية القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين، وقد سجلت القصيدة على سبعة لوحات تشمل كل لوحة نحو 150 سطرًا:
اللوح الأول – اللوح الثاني – اللوح الثالث – اللوح الرابع – اللوح الخامس – اللوح السادس – اللوح السابع
اللوح الأول:
يحوى 162 سطرًا ويتحدث عن البدايات، ثم خلقة الآلهة، وما أحدثته الآلهة الصغار من ضجيج مما أزعج الآلهة الكبار ولاسيما “أبسو ” أبوهم، فأراد الخلاص منهم، ولكن “إيا ” الحكيم يقتل “إبسو ” وينقذ الموقف، وتعود الآلهة الصغار للضجيج، وتحتج الآلهة الكبار لدى “تيامات ” أرملة “إبسو ” ويحفزونها على الخلاص من هؤلاء الآلهة الصغار مصدر الإزعاج، فتصنع جيشًا عظيمًا وتستعد لخوض غمار الحرب.
ففي بداية اللوح الأول نجد الإشارة إلى البداية “عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء.. وفي الأسفل لم يكن هناك أرض ” كان هناك “إبسو ” Apsu ويمثل المياه البدائية العذبة، “وتيامات ” Timat زوجة إبسو وتمثل المياه البدائية المالحة، وقد مزجا إبسو وتيامات مياههما معًا. كما كان هناك الإله “ممو ” Mummu ثم أنجب إبسو وتيامات آلهة عديدة بدءًا من “لخمو ” Lakmu و”لخامو ” Lakkamu وقبل أن يكبرا لخمو ولخامور، جاء إلى الوجود “أنشار ” Anshar و”كيشار ” Kishar. ثم أنجب إنشار وكيشار ابنهما “أنو ” Anu فكان آنو بكر انتشار، ثم أنجب “آنو ” ابنه “نوديموت” (آيا) على شكالته، فصار نوديموت سيد أبائه، وكان حكيمًا وعظيمًا وواسع الإدراك.
وعندما أثار الآلهة الصغار ضجيجًا أزعج أبيهم “أبسو ” اصطحب أبسو حاجبه “ممو ” وشكى هؤلاء إلى أمهم “تيامات ” قائلًا “لقد غدا سلوكهم مؤلمًا لي.. في النهار لا أستطيع راحة، وفي الليل لا يحلو لي رقاد.. لأدمرنَّهُم، وأضع حدًا لفعالهم.. فيخيم الصمت وتخلد بعدها للنوم.. فلما سمعت تعامة (تيامات) منه ذلك.. ثار غضبها وصاحت بزوجها.. صرخت وصار هياجها. كتمت الشر في فؤادها وقالت.. لماذا ندمر من وهبناهم نحن الحياة؟ إن سلوكهم مؤلم حقًا، ولكن دعونا نتصرف بلين (وروية).. ثم نطق ممو ناصحًا أبسو.. وفي غير صالح الآلهة جاءت نصيحة ممو.. نعم يا والدي دمرهم، دمر فوضاهم.. لتستريح نهارك، وترقد ليلك.. فلما سمع أبسو ذلك، استضاء وجهه.. للخطط الشريرة التي يضمرها لأولاده الآلهة.. ثم قام إليه ممو معانقًا.. وجلس في حضنه وقبله.. ولكن ما دار في مجلسهم من خطط.. قد وصل سمعه إلى أبنائهم الآلهة.. جلسوا صامتين، وسكنوا (حائرين)”(3).
ولم ينقذ هذا الموقف إلاَّ الإله الحكيم “أيا ” Eo الذي ضرب حلقة سحرية حول الآلهة الصغار ليحميهم من بطش “أبسو ” ثم سحر “أبسو ” فنام في سبات عميق، فأسرع وذبحه، كما أن “آيا ” تمكن من “ممو ” فأوثقه بحبل من أنفه وأغلق عليه في سجن محكم، ويقول فراس السواح “أنقض (آيا) على ممو (الضباب المنتشر فوق المياه الأولى) المعاضد لأبسو فسحقه وخرم أنفه بحبل يجره وراءه أينما ذهب. ومنذ ذلك الوقت صار “آيا ” إله الماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار، ويتحكم فيه بمقدار، وهو الذي يعطى الأنهار والجداول والبحيرات ماءها العذب، وهو الذي يفجر الأرض عيونًا من مسكنه الباطني ومنذ ذلك الوقت أيضًا، يشاهد ممن فوق مياه الأنهار والبحيرات لأن آيا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلى الأبد(4).
وأقام ” آيا “فوق ” أبسو “قصرًا ” ودعا مسكنه الأبسو وجعله مقدسًا.. فيه بنى غرفة مقامًا لنفسه.. وسكن هناك مع زوجته دومكينا بكل أبهة وعظمة” (المرجع السابق ص 47) وأنجب ” آيا “و ” دومكينا “ابنهما ” مردوخ ” Marduk ذو الأربعة الأذان والأربعة عيون ” بفن بديع تشكلت أعضاؤه.. لا تدركه الأفهام، ولا يحيط به خيال.. أربعة كانت آذانه، أربعة كانت عيونه.. تتوهج النيران كلما تحركت شفتاه.. اتسعت آذانه الأربعة، كما اتسعت عيونه فأحاط بكل شيء.. كان الأعلى بين الآلهة، ما لهيئته نظير”(40) وأعجب به جده ” آنو “فخلق الرياح الأربعة وسلمها لحفيده مردوخ.
“مردوخ الذي أحدث الأمواج فاضطربت لها مقامة (تيامات).. قلقة صارت، تحوم على غير هدى.. والآلهة (الكبيرة) نسيت الراحة، في خضم العواصف.. أضمروا الشر في سرائرهم.. وجاءوا إلى أمهم تعامة (تيامات) قائلين.. عندما قتلوا زوجك أبسو.. لبثت هادئة دون أن تمدى له يدًا.. وعندما خلق ” آنو “الرياح الأربعة.. اضطربت أعماقك وغابت عنا الراحة.. تذكري أبسو زوجك.. تذكري ممو المقهور وأندبى وحدتك.. لم تعودي أمًا لنا. تهيمين على غير هدى..”(5).
فثارت تيامات وولدت تنانين وحيات وأسود وكلاب وعقارب، وأعدت العدة لسحق الآلهة الصغار مصدر الإزعاج ” الأم هابور “.. خالقة الأشياء جميعًا.. أتت بأسلحة لا تقاوم، أفاع هائلة.. حادة أسنانها، مريعة أنيابها.. ملئت أجسادها بدل الدم، سمًا.. (أتت) بتناين ضارية تبعث الهلع.. توجتها بهالة من الرعب وألبستها جلالة الآلهة.. يموت الناظر إليها فزعًا.. حتى إذا انتصبت لم تخنع ولم تدبر.. خلقت الأفعى الخبيثة والتنين وأبا الهول.. الأسد الجبار والكلب المسعور والرجل العقرب.. عفاريت العاصفة والذبابة العملاقة والبيسون.. كلها مزودة بأسلحة لا ترد”(6).
ثم أقامت تيامات الإله ” كينغو “على هذا الجيش المفزع ليحطم الآلهة الصغار “اختارت “كينغو” وجعلته عليًا وعظيمًا.. وضعته أمام جيشها قائداَ.. فيشهر السلاح للمعركة ويبدأ الصراع.. إنه الآمر الأعلى للمعركة.. سلمته الأمانة، وأجلسته في المجمع قائلة.. لقد قرأت عليك تعويذتى، وجعلتك عظيمًا في مجلس الآلهة.. وأسلمت إلى يدك قيادة الآلهة جميعًا.. فلتكن عليًا عظيمًا يا زوجي الفذ.. وليعل اسمك فوق جميع آلهة الأنوناكى.. ثم أسلمت إليه ألواح الأقدار، وزينت به صدره قائلة.. سيكون أمرك نافذًا وكلمتك ماضية.. ويعد أن جرى تنصيب كينغو وتسليمه السلطة العليا.. قاما بتقرير مصائر الآلهة”(7).
اللوح الثاني:
يحوى 150 سطرًا، ويستكمل قصة الصراع بين الآلهة، تيامات بجيشها المفزع ترعب ” آبا “فيتخلى عن التصدي لها، وكذلك أبوه ” آنو “ولكن مردوخ بن ” آيا “هو الذي يبدى استعداده لخوض غمار الحرب، ففي بداية اللوح علم ” أيا “باستعداد تيامات الجبارة وجيشها الذي لا يقهر، فلجأ إلى جده ” أنشار “الذي اهتز من هول ما سمع، وأشار ” أنشار “على حفيده ” آيا “بأنه أفضل من يتصدى لتيامات بعد أن أعدت تعامة (تيامات) عدتها.. تهيأت لبدء الصراع مع ذريتها من الآلهة.. أعدت كل شيء انتقامًا لأبسو.
ولكن استعداداتها وصلت لأيا.. فلما أحاط بالمسألة علمًا.. أقعده الخوف وجلس في حزن عميق.. وبعد أن قلب الأمر وسكنت ثائرته.. مضى إلى جده أنشار.. فلما صار في حضرة جده أنشار.. أفضى إليه بكل ما تخطط له تعامة (تيامات).. فلما سمع أنشار ذلك وعرف بثوران تعامة (تيامات).. فضرب فخذه وعض على شفتيه.. كان حزنه عظيمًا واضطرابه بالغًا.. كتم تأوهاته.. ونادى “آيا” قائلًا قم يا بنى وتأهب للقتال.. والأسلحة التي صنعتها، ستحملها الآن.. أنت يا من ذبحت أبسو.. قم الآن وأقض على كينغو الذي يتقدم جمعها”(8).
وأطاع ” آيا “جده أنشار، ولكنه ما أن أبصر قوة تيامات وجيشها، حتى قفل راجعًا إلى جده أنشار يقدم اعتذاره، ويطلب من جده أنشار أن يرسل ” آنو” (والد آيا وإبن أنشار) عوضًا عنه، فطلب أنشار من ” آنو ” التوجه للتصدي لتيامات ” صرخ أنشار بغيظ عظيم.. وتوجه بالنداء إلى ابنه أنو.. يا أول أبنائي، أيها البطل الرائع.. يا ذا القدرة الفائقة والانقضاض الجريء.. أمض الآن وقف أمام تعامة (تيامات).. لعل روحها تهدأ.. وقليها عله يسكن.. فلما سمع أنو كلام أبيه.. قام ملتمسًا طريق تعامة (تيامات).. وعندما اقترب منها وعرف كل ما تدبره.. أدرك عجزه عن مجابهتها وعاد من حيث آتى.. مضى في رعب إلى أبيه أنشار.. ولفظ أمامه ما تمتمه في سره لما رأى تعامة (تيامات).. إن ذراعي لا تكفيان لإخضاعها”(9).
فلجأ أنشار إلى ” مردوخ “ابن حفيده ” آيا “لينقذ الموقف، وشجع ” آيا “ابنه مردوخ لخوض المعركة، فوافق مردوخ على شرط أن يجعلوه كبير الآلهة الذي له حق تقرير المصائر، وله السلطة المطلقة، فلا يرد أحد كلمته، وقد وصف د. سيد القمني على لسان ” بوتيرو “شكل مردوخ فيقول أن هناك ” نقش لوجل يلبس تاجًا مخروطيًا عاليًا تزينه وريدات، له لحية طويلة مصففة بتجاعيد مصطنعة على غرار صنعة الحلاق بالقصر الملكة، ومثل الملك كان (مردوخ) يرسل شعره خلفه، بينما يرتدى ثوبًا طويلًا مرصعًا بالنجوم، يضم يسراه إلى صدره، وهي تقبض على رموز السيادة (الدائرة والعصا)”(10)(11).
اللوح الثالث:
ويحوى 138سطرًا وفيه يدعو أنشار الآلهة لوليمة عظيمة فيمنحون “مردوخ”حق تقرير المصائر بدلًا منه، كما يمنحونه قوة الله الخالقة، ففي بداية اللوح يطلب أنشار من وزيره ” كاكا “أن يذهب للآلهة، ويخبرهم بكل ما جرى، ومدى هول الموقف، ويدعوهم إلى وليمة ليمنحوا “مردوخ “حق تقرير المصائر ” فتح أنشار فمه.. متحدثًا إلى وزيره كاكا.. كاكا يا وزيري الذي يفرح به قلبي.. سأرسلك إلى لخمو ولخامو.. فأنت واسع الإدراك مجيد الحديث.. ادع آبائي الآلهة للحضور إلى.. وليأت معهم جميع الآلهة.. فيجلس الجميع إلى مأدبتي ونتحدث.. سنأكل خبزًا ونشرب خمرًا.. وإلى مردوخ المنتقم فليسلموا مقاديرهم”(12).
وعندما شرح الوزير كاكا الموقف المتأزم للآلهة ” فلما سمع لخمو ولخامو ذلك، صرخا بصوت عال.. وكل الأيجيجى بكوا بحرق.. وما الذي ألجأها لمثل هذا القرار.. إن سلوكها مستعصي على أفهامنا.. ثم جمعوا بعضهم وانطلقوا.. كل الآلهة التي تقرر المصائر (انطلقت).. والتأم الشمل في حضرة أنشار فامتلأت قاعة الاجتماعات.. قبلوا بعضهم بعضًا حين تلاقوا.. وجلسوا للمأدبة يتحاورن.. أكلوا خبزًا وشربوا خمرًا.. فبدد الفرح مخاوفهم.. وانتشت أجسامهم بالشراب القوى.. زال الهم عن قلوبهم وسمت أرواحهم.. ولمردوخ المنتصر أسلموا المصير”(13).
اللوح الرابع:
يحوى 146 سطرًا وفيه يتم تنصيب مردوخ ملكًا على الآلهة، وتجليسه على العرش، وتسليمه الصولجان، ويستعد مردوخ للقتال، وتنشب المعركة التي تنتهي بمصرع تيامات، وخلقة الكون من جسدها، ففي بداية اللوح يجلس مردوخ على عرش الربانية وتحتفي به الآلهة ” وأنت الأعظم شأنًا بين الآلهة الكبرى.. لا يدانيك أحد، وأمرك من أمر أنو.. ومن الآن فأمرك نافذ لا يرد. أنت المعز وأنت المذل حين تشاء.. كلمتك العليا، وقولك لا يخيب.. ما من إله يقارب حدودك.. مساكن الآلهة تستصرخ الحماية.. فزينها بحضورك. نجد في كل مكان ركنًا لك.. مردوخ أنت المنتقم لنا.. لك منحنا السيادة على العالمين.. وعندما تتصدر المجلس، كلمتك هي العليا.. لتكن أسلحتك ماضية ولتفتك بأعدائنا.. أيها الرب أحفظ حياة من وضع عليك اتكاله.. وأهدر حياة من مشى في ركاب الشر.. ثم أتوا بثوب فوضعوه في وسطهم.. وقالوا لبكرهم مردوخ.. سلطانك أيها الرب هو الأقوى بين الآلهة ليفن الثوب بكلمة من فمك.. وليرجع سيرته الأولى بكلمة أخرى.. فأمر بإفناء الثوب، فزال.. ثم أمر به فعاد ثانية كما كان.. فلما رأى آباؤه الآلهة، قوة كلمته (الخالقة) ابتهجوا وأعطوه ولائهم: مردوخ ملكًا.. منحوه الصولجان والعرش والرداء الملكي.. وأعطوه سلاحًا ماضيًا يقضى على الأعداء قائلين.. أمض وأسلب تعامة (تيامات) الحياة.. ولتحمل الريح دماءها للأماكن القصية”(39). واستعد مردوخ للمعركة، فعلق على جنبه القوس والجعبة ملأها بالسهام المسنونة، كما حمل البرق أمامه، وكسا جسده بشعل ملتهبة، وصنع شبكة ليوقع بها تيامات، وجمع الرياح الأربع ليتصدى لها، كما صنع ريحًا خبيثًا وعواصف دوامية، وركب العربة المرعبة والزوبعة التي لا تقاوم، واحتدمت المعركة الرهيبة، فوضع مردوخ سلاحه الرهيب فيضان المطر.. ولتعامة الهائجة توجه قائلًا.. كفى ما رأينا من عجرفتك وتكبرك.. لقد شحنت البغضاء قلبك فحرضت على القتال.. وأوقعت بين الآباء والأبناء.. فنسيت حب من أنجبت.. أعليت كينغو وجعلتيه زوجًا لك.. وأعطيته منزله آنو، دون حق.
لتتقدمي إلى وحيدة في معركة ثنائية.. فلما سمعت تهامة (تيامات) منه ذلك القول.. انتابها السعار وضاع منها الرشد.. في اهتياج أطلقت صراخها عاليًا.. وحتى الأعماق انتفضت ساقاها معًا.. تلت تعويذة ووجهتها مرارًا وتكرارًا (ضد مردوخ).. بينما آلهة المعركة تشخذ أسلحتها.. ثم تقدما من بعضهما، تعامة ومردوخ أحكم الآلهة.. اشتبكا في قتال فردى والتحما في عراك (مميت).
نشر الرب (مردوخ) شبكتة واحتواها في داخلها.. وفي وجهها أفلت الرياح الشيطانية التي تهب وراءه.. وعندما فتحت فمها لابتلاعه.. دفع في فمها الرياح الشيطانية، فلم تقدر لها إطباقًا.. وامتلأ جوفها بالرياح الصاخبة.. قبضتها منتفخ، وفمها فاغر على اتساعه.. ثم أطلق الرب من سهامه واحدًا فمزق أعماقها.. تغلغل في الحشا وشطر منها القلب.. فلما تهاوت أمامه أجهز على حياتها.. طرح جثتها أرضًا واعتلى عليها”(14).
وحاول أتباع تيامات الهرب ” وما من سبيل، فهم محاصرون من كل جانب.. ضيق عليهم (مردوخ) وحطم أسلحتهم.. في شبكته وقعوا وفي الشرك استقروا.. تكأكأوا في الزوايا وعلا نحيبهم.. فصب عليهم جام غضبه وهم محتبسون.. أما المخلوقات الإحدى عشرة التي خلقتها وألبستها الجلالة.. وحشد العفاريت التي مشت إلى جانبها.. فقد رماها جميعًا في الأصفاد، وربط أيديهم بعضهم ببعض.. وداسهم بقدميه، رغم كل مقاومة.. أما كينغو الذي وضع رئيسًا عليهم.. فقد كبله وأسلمه إلى إله الموت (سجينًا).. جرده من ألواح الأقدار التي حازها دون حق.. فمهرها بخاتمه وزين بها صدره”(15).
ثم عاد مردوخ إلى تيامات، فصنع الكون من جسد هذه الإلهة الأم المندحرة، حيث شق جسدها نصفين، رفع النصف الأعلى، فكانت السماء، وبسط النصف الأسفل فكانت الأرض، ثم عاد إلى تعامة (تيامات) المقهورة.. وقف على جزئها الخلفي.. وبهراوته العتية فصل رأسها.. شقها نصفين فانفتحت كما الصدفة.. رفع نصفها الأول وشكل منها السماء سقفًا.. وصنع تحته العوارض وأقام الحراس.. أمرهم بحراسة ماتها فلا يتسرب”(16).
اللوح الخامس:
يحوى 155 سطرًا، ويتحدث عن خلقه النجوم والغمام والرياح والأنهار والجبال والعيون، ثم تكلم عن سجود الآلهة للآلة العظيم ” مردوخ “واقتراع مردوخ ببناء بابل لتكون مقرًا لملكه وبها قدس الأقداس، فوافقه الآلهة على هذا، مع مطالبتهم بخلق بشر ينجزون الأعمال نيابة عنهم.. ففي بداية اللوح الخامس يقوم مردوخ بخلق النجوم كمنازل ومحطات راحة للآلهة، كما يحدد السنة باثني عشر شهرًا، ويترك للآلة ” نانا” (القمر) تحديد الأمان ” خلق محطات لكبار الآلهة (يستريحون بها).. أوجد لكل، مثيله من النجوم.. حدد السنة وقسم المناخات.. ولكن من الاثني عشر شهرًا أوجد أبراج.. وبعد أن حدد بالأبراج أيام السنة.. خلق كوكب المشترى ليصنع الحدود.. ثم أخرج القمر فسطع بنوره، وأوكله الليل.. وجعله حلية له وزينة، وليعين الأيام.. إن أطلع كل شهر دون انقطاع مزينًا بتاج.. وفي أول الشهر عندما تشرق كل البقاع.. ستظهر بقرنين يعينان ستة أيام.. وفي اليوم السابع يكتمل نصف تاجك.. وفي المنتصف من كل شهر ستغدو بدرًا في كبد السماء.. وعندما تدرك الشمس في قاعدة السماء.. انقض من ضوئك التام وابدأ بإنقاص تاجك كما اكتمل.. وفي فترة اختفائك ستسير في درب مقارب لدرب الشمس. وفي التاسع والعشرين، ستقف في مقابل الشمس مرة أخرى”(17).
وفي توضيح آخر للدكتور فريحة تقول الأسطورة ” صنع مردوخ منازل للآلهة.. خلق الأبراج.. ثبتها في أماكنها.. حدد الأزمنة.. جعل السنة فصولًا.. ولكل شهر من الاثني عشر.. ثلاثة أبراج.. حدد الأيام بأبراجها.. وإلى الشرق، وإلى الغرب.. فتح بوابة.. وسلط القمر على الليل.. وجعله زينة في الليل.. به يعرف الناس مواعيد الأيام”(18)(19).. ثم يقول ” لكن سماء (مردوخ) لم تكن سماء واحدة، وأرضه لم تكن أرضًا واحدة إنما كانت السماء سماوات، فهي سبع سماوات طباقًا، والأرض أيضًا، طبقات سبع. أما في أعلى السموات، فقد ابتنى (مردوخ) لذاته العليا عرشًا يليق بجلاله”(20)(21).
ثم أوكل مردوخ لإله الشمس حكم النهار، وخلق من لعاب تيامات الغيوم والضباب، وصنع من رأسها التلال، ومن عينيها فجر نهرى دجلة والفرات ” بعد أن أوكل بالأيام شمس (إله الشمس).. وفصل بين تخوم النهار وتخوم الليل.. أخذ من لعاب تعامة (تيامات).. وخلق منها مردوخ.. خلق منها الغيوم وحملها بالمطر والزمهرير.. ووضع الرياح وأنزل المطر.. وخلق من لعابها أيضًا ضبابًا.. ثم عمد إلى رأسها فصنع منه تلالًا.. وفجر في أعماقها مياهًا.. فاندفع من عينيها نهرا دجلة والفرات”(22).
وفرحت الآلهة بخلق الكون، وقدموا لمردوخ الهدايا وسجدوا له، كما أن أمه ” دومكينا “خصته بهدية سرت فؤاده ” سر الآلهة بما رأوا سرورًا عظيما.. لخمو ولخامو وكل أبائه منهم.. عبروا إليه، وأنشار الملك وقف مرحبًا.. أما آنو وإنليل وآيا فقد قاموا بتقديم الهدايا.. وأمه دومكينا أيضًا خصته بهدية سرت فؤاده.. ولما اكتمل جميع الأيجيجى ركعوا أمامه.. وقبل كل من الأنوناكى قدميه.. فقد إجتمعوا لتقديم فروض الإحترام.. إنحنوا جميعًا وأعلنوا مردوخ ملكًا”(23).
واقتح مردوخ على الآلهة بناء بيت يدعو اسمه بابل، فيستقبل الآلهة ” سأمهد مكانًا صالحا للبناء.. هناك أبنى بيتًا لي وهيكلًا.. به قدس الأقداس رمز جلالتى.. وعندما تصعدون من الأبسو للاجتماع.. سيكون مفتوحًا لاستقبالكم وبه تبيتون.. أو تهبطون من السماء للاجتماع.. سيكون مفتوحًا لاستقبالكم وبه تبيتون.. سأدعوا اسمه بابل، أي بيت الآلهة الكبرى.. وسينهض لبنائه أمهر البنائين”(24).
ويقول د. نجيب ميخائيل أن المعبد الذي بنى دعى الإيساج يل Esag El ومعناه ” مقر رأس الإله”(25) ويعلق الدكتور سيد القمنى على تسمية معبد مردوخ بمقر رأس الإله حيث يربطه بآلهة الفداء الشهيرة فيقول ” مثل أوزيريس Osiris المصري ، و” أدونيس “الفينيقى و” أتيس ” Atis الفريجى، و” ميتهرا ” Methera الفارسي و” يسوع “العبري و”الحسين ” العربي.. إلخ وقد وجدنا أن أسطورة إله الري الذبيح قد لحقت بالإله (مردوخ) وكانت تقام له سنويًا، طقوس واحتفالات للتذكرة بعودته حيًا من بين الأموات وفي عيد القيامة مجيد، وساعتها يتلو الكهنة أمامه أسماءه الخمسين، إعلانًا عن حيازته كل ألقاب السيادة، وأهم هذه الألقاب لفظ الجلالة الأسمى (إل) أو (إيل)”(26). وفي نهاية اللوح الخامس تطلب الآلهة من الإله العظيم (مردوخ) خلق بشر يحملون عبء العمل عنها.
اللوح السادس:
يحوى 166 سطرًا، وفي بداية اللوح يطلع مردوخ أباه ” أيا “بعزمه على خلق ” لولو” (الإنسان) ليحمل عبء العمل عن الآلهة، فيقترح ” أيا “بأن يذبح أحد الآلهة ليمزج دمه بالطين لصنع الإنسان، فسأل مردوخ عن الإله الذي أثار تيامات ليذبحه ” فقام مردوخ بدعوة الآلهة الكبيرة.. متوجهًا لهم بود ورحمة، مصدرًا توجيهاته.. فأعطى الآلهة له آذانًا صاغية.. قال المليك لهم كلمة.. لقد صدق حقًا ما دعوتكم به.. والآن أريد منكم قول الحق.. من الذي خلق النزاع..؟ من دفع تعامة (تيامات) للثورة، وأعد للقتال..؟ سلموا لي من خلق النزاع.. فيلقى جزاءه، وتخلدون للراحة.. فأجاب الأيجيجى، الآلهة الكبار.. أجابوا سيدهم مردوخ، ملك السماء والأرض.. إنه ” كينغو “الذي خلق النزاع.. ودفع تعامة للثورة، وأعد القتال.. ثم قيدوه ووضعوه أمام أيا.. أنزلوا به العقاب، فقطعوا شرايين دمائه.. ومن دمائه جرى خلق البشر.. ففرض (أيا) عليهم العمل وحرر الآلهة.. بعد أن قام أيا الحكيم بخلق البشر.. وفرض عليهم العمل وحرر الآلهة.. وذلك الفهم الذي يسمو عن الأفهام.. والذي نفذه وفقًا لخطط مردوخ المبدعة”(27).
ويحكى خزعل الماجدي قصة خلق الإنسان بصورة أوضح فيقول أن الآلهة الصغار ظلوا يعملون أعمالًا شاقة لمدة أربعين يومًا فأخذوا يبكون ويصرخون، وقرروا العصيان، فذهبوا في ثورة عارمة وقد أضمروا النار في معاولهم وسلالهم وأحاطوا بمعبد الإله ” إنليل “وعندما رآهم الخفير ” كلكل “أصابه الذعر وأيقظ الإله ” نسكو “وزير إنليل الذي ارتعب، وأيقظ الإله إنليل قائلًا: إن معبدك محاصر يا سيدي وإن الحرب قد وصلت بابك يا إنليل.
فقال إنليل: أذهب يا نسكو وأغلق الأبواب وتقدم بسلاحك أمامي.
وقال نسكو ” إن هؤلاء أبناؤك فلا تخف.
وأمر إنليل باجتماع آلهة الأنوناكى، وحاول إنليل أن يعرف من الذي أثار هؤلاء الآلهة، فكلف وزير نسكو ليستطلع الأمر،ولكن كل الآلهة المتمردين قالوا: كلنا نريد خوض المعركة، لقد أنهكنا العمل الشاق، أنهكنا الشغل، وتعاطف مجلس الآلهة معهم وقالوا للإله إنليل أن عملهم حقًا شاق، وصوت بكائهم كان يسمع من بعيد، فرق قلب إنليل وسالت دموعه إشفاقًا عليهم، وأراد الالتجاء لأبا الحكيم المدبر الخارق الذكاء، فذهبوا جميعًا إلى ” آيا “الحكيم، فوجدوه مضجعًا في غرفة نومه، والآلهة كانت تبكى وتنوح، فأخبروا أمه بما كان، فذعرت وأيقظت الإله ” آيا “من نومه قائلة: يا إبنى إنك نائم.. قم من فراشك وتدبر الأمر.. إنك تدرك من خلال حكمتك كل فن فاصنع بديلًا عن الآلهة يحمل السلة عوضًا عنها.
فدخل ” آيا “القاعة المقدسة وهو يضرب فخذه ويفكر، فهو الحكيم العليم البصير الذي يدرك كل شيء ثم قال لنفسه: سأصنع الإنسان ليحمل عبء العمل عن الآلهة، ونادى على أمه قائلًا: قرري يا أمي مصير الإنسان، نادى أولًا على إلهة النسل (مامي) للحضور فهي الموكلة بالخلق والولادة نادى الآلهة (مامي) في الرحم الخالق.
وقال لها الآلهة: أنت الرحم خالقة البشر، أخلقي الإنسان الأول من أجل أن يحمل النير.. سلة عمل الآلهة يجب أن يحملها.
فقالت مامى: ليس بمقدوري أن أفعل ذلك. إن المقدرة بيد ” آيا “.. ليته يعطى الطين لأعمله.
قال الإله آيا: سأقيم طقوس الغسيل، سأقيم الحمام، وليذبح الآلهة إلهًا من بينهم إذ لا بُد للطين من روح جسد الإنسان سيكون من الطين وروحه ستكون من إله.
وأخذ الآلهة يدورون وراء ” آيا “و ” مامى “كالزنابير على قطعة العسل، وأخذوا يفكرون في الإله الذي يذبح، وتساءل ” مردوخ “من الذي دفع تيامات للثورة وأعدها لقتالنا؟
فتحير الآلهة ولم يعرفوا من هو؟ فصاح بهم مردوخ: هل نسيتم ” كنجو “زوج تيامات الذي دفعها للقتال.
فصاحت الآلهة: ليذبح كينجو.. ليذبح كينجو.. لتكن دماؤه سببًا في ظهور المخلوق الذي يحمل عنا العناء.. المخلوق الذي سيحمل المعول والسلة إلى الأبد.
فذهبوا وأخرجوه من سجنه وقيدوه ووضعوه أمام ” آيا “وبعد أن اغتسلوا وتطهروا ذبحوه وأخذت ” مامى “دمائه التي سالت وخلطتها بطين الصلصال وأخذت تقرأ تعويذة الخلق، وبجوراها ” آيا “يلقنها هذه التعاويذ، فصنعت 14 قطعة من الطين، وفصلت بين سبع وسبع بأجر اللبن، ثم بصقت من المجموعة الأولى وأسمتها ” أوليكار “فكان رجل الخير، ثم بصقت في قطعة طين من المجموعة الثانية وأسمتها ” زالاكار “فكان امرأة الخير، وأسمت الاثنين ” لولو “الذي سيكون اسمه الإنسان ففتح عينيه ونطق بأول الأصوات.. أ.. أ.. أغا.. ب.. ب.. با.. با.. بابا.. ما.. ما.. ماما.
ففغر الآلهة أفواههم لكلامه وفرحوا واستبشروا وقالت ” مامى “للآلهة: لقد عهدتم لي عملًا بأكمله.. لقد رفعت عنكم عناء الأعمال الشاقة، وجعلت الإنسان يحمل سلة العمل، أ/ا أنتم فقد حللت عنكم النير وحررتكم من الواجبات، وشكر الآلهة ” مامى ” إلهة النسل(28).
ويورد د. سيد القمنى الجزء الخص بخلق الإنسان، فيقول أن الآلهة إتجهت للإلهة ” مامى “الحكيمة قائلة ” أنت الرحم خالقة البشر.. إخلقى الإنسان الأول.. من أجل أن يحمل النير.. سلة عمل الآلهة يجب عليه حملها.. فتحت الإلهة (ننتو) فاها.. وخاطبت الآلهة العظيمة.. ليس بمقدورى أن أفعل ذلك.. إن القدرة بيد الإله إنكى.. فتح الإله إنكى فاه.. وخاطب الآلهة العظام.. سأقيم طقوس الاغتسال.. وسأقيم الحمام.. وليذبح الآلهة إلهًا من بينهم.. وبعد ذلك يطهروا أنفسهم في الحمام.. وعلى الإلهة (ننتو) أن تمزج الطين مع لحمه ودمه.. وبسبب لحم الإله.. نود أنى يسكن شبه الموت جسم الإنسان.. وليذكر هذا الشبح الأحياء بالموت.. ماداموا على قيد الحياة.. ثم فتحت الإلهة ” مامى “فاها.. وقالت تخاطب الآلهة العظام.. لقد عهدتم إلى عملًا فأكملته.. وما دمتم قد ذبحتم ألهًا رغم قدسيته.. فها أنا قد رفعت عنكم عناء أعمالكم الشاقة.. وجعلت الإنسان يحمل سلة عملكم.. وهذا أنتم قد وهبتم صراخكم للبشرية.. وها أ،ا حللت عنكم النير.. حررتكم من الواجبات.. ولما سمع الآلهة كلامها.. تراكضوا إليها وقبلوا قدميها وقالوا.. في السابق الإلهة ” مامى “كنا نناديك، والآن ليكن ” سيدة الآلهة “أسمك(29)(30).
وبعد خلقة الإنسان اعترفت الآلهة بالفضل لمردوخ، وبنوا له المعبد ببرجه المدرج، وداخله سكن ” مردوخ “من ” إنليل “و ” آيا “.. ” وقالوا لسيدهم مردوخ.. والآن أيها الرب يا من خلصتنا من العمل المفروض.. ما الذي يليق بك عربون امتنان..؟ سنبنى لك هيكلًا مقدسًا.. مكانًا به تركن مساء لتستريح.. هناك سنشيد لك منصة وعرشًا.. وكلما آتينا المكان، نلجأ إليه لنستريح.. فلما سمع مردوخ ذلك.. انفرجت أسارير وجهه كما النهار.. وكذا فلتكن بابل كما اشتهيتموها.. لنشرع بتجهيز الحجارة، ولتدع بالهيكل.. أعملال أنوناكى معاولهم.. فأنهوا الطوب اللازم في مدى سنة.. ومع حلول السنة الثانية.. رفعوا الأيزاجيلا، الذي وصلت أساساته الأبسو.. وبعد أن أنهوا برجه المدرج.. بنوا في الداخل سكنًا لمردوخ وإنليل وآيا.. ثم جلس مردوخ أمامهم في جلال.. ومن الأسفل شخصوا بأبصارهم لقرون البرج الرائعة.. وبعد الانتهاء من الأيزاجيلا.. قام الأنوناكى ببناء مقامات لهم.. ثم التأم جميع الآلهة.. والتقوا في حرم مردوخ السامي الذي بنوا.. فأجلس آباءه الآلهة إلى مأدبة.. هذه بابل مكان سكناكم المفضل.. فاصدحوا وامرحوا في أرجائها(31).
واعترفت الآلهة بالفضل لمردوخ وقالت ” وكما فعل في السماء، لتكن كذلك مشيئته على الأرض.. فيعلم البشر كيف يخشونه.. ويكون حاضرًا في قلوبهم أبدًا.. ويحفظون أبدًا حدود إلههم وآلهتهم.. ويرعون أمره في الانصياع لها.. ويبقون على تقدماتهم لإلههم وآلهتهم.. ويذكرون إلههم دومًا ولا ينسونه.. حقًا إنه رب الآلهة أجمعين، في السماء والأرضيين.. ملك يخشاه من في السموات ومن في الأرض”(32).
اللوح السابع:
يحوى 163 سطرًا، ويشمل الأسماء التي أطلقها الآلهة على كبيرهم ” مردوخ “مع التمعن في معانيها، فقد حاز مردوخ خمسين اسمًا، فهو مثلًا ” أسارو “واهب الأرض الخصب، ومالئ عنابر القمح، وهو ” أسار اليمنونا “الجليل نور آبائه، وهو ” توتو “بطل خلاصهم ونجاتهم، وهو ” زيوكينا “الذي به يحيا كل الآلهة.. وهو ” زيكو “رب القداسة، وهو “جاكو” الذي بعث الموتى، وهو ” توكو “الذي تردد الشفاه تميمته، وهو ” شازو “المطلع على أفئدة الآلهة، وعالم الأسرار، وهو ” سوحريم “الذي أفنى بسلاحه كل الخصوم، وهو ” صاحكوريم “الذي خلق آباءه من جديد، وجعل لهم مكانه، وهو ” زاحريم “رب كل شيء، وهو ” زاحجوريم “قاهر جميع الأعداء في ساحة الوغى، وهو ” أنيبيلولو “واهب الخيرات، وهو ” جوكال “حاكم مزارع الآلهة.. إلخ.(33).
وأريد أن أقول إن كنت قد اعتمدت في سرد بعض ما جاء في الأينوما إيليش على ما سجله فراس السواح في كتابه مغامرة العقل الأولى(34)، إلا أن هناك كتب عديدة تناولت هذه الأسطورة مثل ما جاء في سلسلة الأساطير السومرية(35)، وأيضًا ما أورده الأب سهيل قاشا في كتابه التوراة البابلية(36)، وما سجله جان بوتيرور في كتابه الديانة عند البابليين ترجمة وليد الجادر، وما دونه دكتور نجيب ميخائيل في كتابه مصر والشرق الأدنى القديم – خضارة العراق القديم، وما كتبه دكتور أنيس فريحة في كتابه ملاحم وأساطير في الأدب السامي، وما سجله الدكتور سيد القمني في كتابيه قصة الخلق أو منابع سفر التكوين، والأسطورة والتراث.. إلخ بالإضافة إلى عشرات الكتب الأخرى بالعربية واللغات الأجنبية، وقد وجب التنويه لمثل هذه المراجع لتسهيل طريق البحث لمن يرغب في دراسة هذا الموضوع.
كما أن هناك أساطير أخرى بابلية عن قصة الخلق، مثل الأسطورة التي عثر عليها في خرائب مدينة ” سبار ” Sippar والتي ترجع للقرن السادس قبل الميلاد وجاء فيها ” في البدء لم يكن هناك شيء، فخلقت الآلهة، وأنشئت بابل، ثم خلق مرودك إطارًا من القصب فوق سطح الأمواج، وخلق الناس بهو الآلهة ” أرورو ” Aruru وبعدها خلق حيوان السهل، ونهرى دجلة والفرات، والحشائش والقصب والمناقع وآجام القصب، والبقرة وصغيرها، والشاة وحملها، وغنم السياج..”(37) كما تم اكتشاف أسطورة ثالثة في أوغاريث تتعلق بقصة الخلق أيضًا ” حيث يرد فيها نص يذكر أن الله يجلس على المياه كما يجلس الطير على بيضة، وكما يفرخ هذا الأخير صغاره، فرخ لله الحياة من الخراب”(38).. إلخ.
_____
(1) د. كارم محمود عزيز – أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم ص 55.
(2) أثر الكتابات البابلية في المدوَّنات التوراتية ص 110، 111.
(3) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 46، 47.
(4) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 42.
(5) المرجع السابق ص 48.
(6) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص49.
(7) المرجع السابق ص 49، 50.
(8) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 50، 51.
(9) المرجع السابق ص 52.
(10) بوتيرو – الديانة عند البابليين ص 44.
(11) د. سيد القمنى – قصة الخلق أو منابع سفر التكوين ص 100.
(12) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 54.
(13) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 54.
(14) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 59.
(15) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 60.
(16) المرجع السابق ص 60.
(17) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 62،61.
(18) ملاحم وأساطير الأدب السامى ص 107.
(19) أورده د. سيد القمنى – قصة الخلق أو منابع سفر التكوين ص 95,94.
(20) د. أنيس فريحة – دراسات في التاريخ ص 51.
(21) المرجع السابق ص 95.
(22) فواس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 63,62.
(23) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 63.
(24) المرجع السابق ص 64.
(25) راجع مصر والشرق الأدنى القديم ص 151.
(26) د. سيد القمنى – قصة الخلق أو مبابع سفر التكوين ص 96.
(27) فواس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 66, 67.
(28) راجع انجيل بابل ص 104 – 112.
(29) فوزى رشيد – خلق الإنسان في الملاحم السومرية والبابلية ص 24, 25.
(30) أورده د. سيد القمنى – قصة الخلق أو منابع سفر التكوين ص 103-105.
(31) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 67، 68.
(32) المرجع السابق ص 68، 69.
(33) راجع فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 70-74.
(34) ص 45 – 47.
(35) ديانات الشرق القديم ص 39-18.
(36) ص 323-419.
(37) د. كارم محمود عزيز – أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم ص 58.
(38) د. كارم محمود عزيز – أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم ص 66.
(39) المرجع السابق ص 56, 57.
(40) المرجع السابق ص 48.