ملحمة جلجامش كأسطورة
290- عاش جلجامش كشخصية أسطورية ملكًا لمدينة “أوروك” فظلم أهلها وبطش بهم، مما اضطر الآلهة لخلقة “أنكيدو” كغريم له، فتصارعا، ثم تصادقا، ومرَّ الاثنان بمغامرات عجيبة، ومات أنكيدو، وذهب جلجامش لمغامرته الكبرى يسعى نحو الخلود.. كيف حدث هذا في الأساطير؟
ج: 1- كثيرون من النُقَّاد يذكرون قصة جلجامش ويدَّعون أن سفر التكوين أخذ منها قصة الطوفان، ولذلك دعنا يا صديقي نخوض قليلًا في أعماق هذه القصة ليدرك الجميع مدى بعدها عن سفر التكوين.
2- عُثر على ملحمة جلجامش مجزأة في مكتبة ملك أشور “أشور بانيبال” (669 – 629 ق. م) مسجلة على اثني عشر لوحًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. تحتوي على 3600 بيت شعري، وفي سنة 1872 م أعلن الموظف البسيط بالمتحف البريطاني بلندن “جورج سميث” عن توصله لحل رموز أحد الألواح، وتتابعت البعثات الاستكشافية على المنطقة إلى أن تم الكشف عن الألواح الاثني عشر، وبعد دراستها أعلن بعض البحاث أن هناك تشابهًا بينها وبين قصة الطوفان التوراتية، فيقول زينون كوسيدوفسكي “وقد أثبتت أدق التفاصيل صحة نظريته (نظرية جورج سميث الذي فك رموز ملحمة جلجامش) وذلك كإطلاق الغراب والحمامة، وكوصف الجبل الذي رسا عنده الفلك، وكطول مدة الطوفان، وكالعبرة من الأسطورة: عقاب البشرية على أخطائها وأفعالها الدنيئة وإنقاذ الإنسان المؤمن الشريف “.
جاء في سلسلة الأساطير السورية “تحكي هذه الملحمة الطويلة مغامرات أحد ملوك “أوروك ” في غابر الأزمان وهو “جلجامش” الذي أُشتهر سواء بالنسبة إلى مآثره التي حققها أو للصعوبات التي تغلب عليها، وشخصية جلجامش هي بالفعل نصف خرافية، وإن لائحة الملوك السومريين لتؤكد أن مدة حكم جلجامش امتدت قرابة 127 سنة، وعلى هذا النحو يكون خامس ملك في السلالة الأولى مباشرة بعد الطوفان.. فمن الممكن إذًا أن يكون الملك جلجامش قد لعب بالفعل دورًا هامًا في مدينة “أوروك ” حوالي القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، وبعد موته، سرعن ما نشأت أسطورة حول شخصيته “.
ويصف “ول ديورانت” جلجامش قائلًا “فهو طويل القامة، ضخم الجسم، مفتول العضلات، جرئ مقدام، جميل يفتن الناس بجماله.. لا يماثله أحد في صورة جسمه.. يرى جميع الأشياء، ولو كانت في أطراف العالم.. كان كل شيء وعرف كل شيء.. واطلع على جميع الأسرار.. واخترق ستار الحكمة الذي يحجب كل شيء.. ورأى ما كان خافيًا.. وكشف الغطاء عما كان مغطى.. وجاء بأخبار الأيام التي كانت قبل الطوفان.. وسار في طريق بعيد طويل.. كابد فيه المشاق والآلام.. ثم كتب على لوح حجري كل ما قام به من الأعمال “.
عاش جلجامش كما جاء في الملحمة في مدينة “أوروك ” فصار ملكها وبطلها، وكان ثلثه إله، وثلثاه إنسان، وقد مهرته أمه الإلهة “نينسون ” بالجمال، عاش حياة اللهو والصيد والبطش بالناس، حتى لم يترك ابنًا لأبيه، ولا ابنه لحبيبها، فشكاه الناس للآلهة، فطلب الإله “آنو ” من الإلهة “أرورو ” التي خلقت جلجامش أن تخلق غريمًا له ليتصارعا معًا، وتستريح مدينة أوروك من شر جلجامش، فخلقت “أرورو ” “أنكيدو”، وبعد أن تصارع “أنكيدو ” مع “جلجامش ” صارت بينهما صداقة حميمية، وقام الصديقان بعدة مغامرات، وفي إحدى هذه المغامرات تعرض أنكيدو للموت، فاستيقظ جلجامش على المأساة الحقيقية وهي موت الإنسان، فهام على وجهه في الصحاري والبراري باحثًا عن وسيلة يحصل بها على الخلود، إلى أن وصل إلى أوتنابشتيم بطل الطوفان الذي حاز الخلود من قبل، فأرشده إلى نبات ينمو في المياه العميقة، واستطاع جلجامش الحصول على النبات، ,رجع به فرحًا، وفي طريق عودته وجد ماءًا عذبًا فنزل ليستحم فيه، وإذ بالحيَّة اللعينة تسرق هذا النبات، وتسلب الخلود من جلجامش، وهاك ملخص لما جاء في الألواح الاثني عشر والتي تضمنت الأحداث الآتية:
قام جلجامش ببناء سور مدينة أوروك، ومعبد عشتار إلاَّ إنه ظلم الشعب، فشكوه إلى “أنو” رب الأرباب فأمر الربة “أرورو” فخلقت “أنكيدو” المخلوق العجيب المخيف نظيرًا لجلجامش، فجاء في الملحمة ” أورورو أنتِ خلقتِ جلجامش.. فاخلقي الآن شبيهًا له.. لينافس قلبه الثائر.. وليتباريا فترتاح أوروك.. (أورورو) وهي تستمع إلى هذه الأقوال.. خلقته في قلبها مثل (آنو).. غسلت (أورورو) يديها.. فأخذت طينة ورمتها على الأرض.. فخلقت البطل.. المولود في منتصف الليل، جندي (ننورتا).. يكسو الشعر كله جسمه(1).
أرسل جلجامش عاهرة إلى أنكيدو، فقادته إلى مدينة أوروك حتى التقى به جلجامس وتصارعا معًا.
صارت صداقة حميمة بين جلجامش وأنكيدور، وقاما بثورة ضد خمبابا الذي يقيم في غابة الأرز.
وصول جلجامش وأنكيدو إلى بوابة الأرز التي يحرسها حارس يتلقى أوامره من خمبابا، وخوف جلجامش وتشجيع أنكيدو له.
جلجامش وأنكيدو يتأملان أشجار الأرز المرتفعة، ويقبضان على خمبابا ويقطعان رأسه.
لقاء عشتار بجلجامش، وعرضها الزواج منه، إلاَّ أنه يرفض ويذكّرها بأحبابها السابقين الذين غدرت بهم، فترسل إليه الثور السماوي، ولكن جلجامش وأنكيدو يقتلانه.
موت أنكيدو بناء على قرار الأرباب.
حزن جلجامش ونوحه على أنكيدو، وارتدائه جلد أسد وتجواله في البراري.
ذهاب جلجامش إلى ماشو حيث الرجل العقرب.
وصول جلجامش إلى حانة، وصاحبة الحانة تنصحه بعدم مواصلة السفر بحثًا عن الخلود، ثم يلتقي جلجامش بالملاح أورشنابى الذي يطلب منه أن يقطع 120 عمودًا كل منها 60 ذراعًا، ففعل جلجامش هكذا، وعبر مع الملاك مياه الموت.
لقاء جلجامش مع أوتنبشتايم، الذي يحكى له قصة الطوفان والخلود.
عودة جلجامش إلى أوروك عاصمته فاشلًا بعد أن سلبت الحيَّة منه شجرة الحياة(2).
وفيما يلي نلقى الضوء على بعض عناصر الملحمة:
صداقة جلجامش مع أنكيدو بعد صراعهما معًا – صراع جلجامش وأنكيدو مع همبابا (هواواوا) – صراع جلجامش وأنكيدو مع الثور السماوي – موت أنكيدو وطلب جلجامش الخلود – رحلة جلجامش للحصول على الخلود
1- صداقة جلجامش مع أنكيدو بعد صراعهما معًا:
عندما شكى سكان مدينة ” أوروك ” ملكهم الظالم جلجامش للإله ” آنو ” طلب الإله ” آنو ” من الإلهة ” أرورو ” أن تخلق غريمًا لجلجامش، فغسلت ” أرورو ” يديها وأخذت قطعة من الآجر وبصقت عليها، فخلقت أنكيدو البطل، الذي اكتسى جسمه كله بالشعر، وكانت جدائل شعره كجدائل شعر المرأة، وعاش في الصحراء، يأكل العشب مع الغزلان، وفي يوم رآه صياد شرير فإرتاع من منظره وهرب، بينما نزع أنكيدو الشباك التي نصبها الصياد لصيد الحيوانات وتكرر اللقاء نحو ثلاث مرات، فأخبر الصياد أبيه بهذا الرجل المفتول العضلات، الذي لا يرتدى ملابس، ومنظره مرعب، فنصحه أباه بأن يذهب إلى الملك جلجامش ويخبره بهذا.
فذهب الصياد يخبر جلجامش ” هناك رجل عجيب انحدر من المرتفعات.. إنه أقوى من في البلاد، وذو بأس شديد.. وهو في شدة بأسه مثل عزم ” آنو ” إنه يجوب السُهوب ويأكل العشب.. ويرعى الكلأ مع حيوان البر، ويسقى معها عند مورد الماء.. لقد ذعرت منه فلم أقوى على الاقتراب منه.. لقد طمى الآبار التي حفرتها.. ومزَّق شباكي التي نصبت “(3).
فنصح جلجامش الصياد أن يصطحب معه امرأة عاهرة، تحاول أن تجتذبه بمفاتنها، حتى تسقطه، وعندئذ سيبتعد حيوان البر عنه، فأخذ الصياد المرأة وذهب إلى مورد المياه، وانتظرا ” أنكيدو ” حتى حضر، فظهرت له المرأة وأغرته قائلة ” إنك جميل يا إنكيدو كالإله، فلماذا تجوب البرية مع الحيوانات، تعالَ آخذك إلى أوروك ” واقتنع أنكيدو فذهب معها إلى المدينة وعلمته كيف يكتسى ويعيش كإنسان وسط الناس، وكيف يأكل الخبز ويشرب المسكر، وأخذ ” أنكيدو ” سلاحه وانطلق يطارد الأسود ويصطاد الذئاب ليريح الرعاة، وعندما كلمته عن جلجامش الذي يعتقد بأنه أقوى الرجال، قال لها أنكيدو: إنني أرغب في مصارعته، وفعلًا ذهب ” انكيدو ” إلى المدينة، وتصارع مع جلجامش حتى هدما العتبة وحطما عود الباب وارتج الحائط، وقد التوَت رجل جلجامش بينما بقيت رجل أنكيدو ثابتة على الأرض، فاعترف جلجامش بقوة أنكيدو، وتعانق الاثنان وصارا صديقان(4).
2- صراع جلجامش وأنكيدو مع همبابا (هواواوا):
همبابا هو حارس شجر الأرز على جبل لبنان ذو هيئة مرعبة، زمجرته كالطوفان، وفمه كالنار، ونفسه الموت الزؤوم، الكل يرتعبون من مجرد اسمه، فأراد جلجامش أن يقتله ليصنع له اسمًا، ويصير ملكًا على كل البلاد، ولم يستجب جلجامش لتحذير أنكيدو ولا لشيوخ أوروك، فقال له شيوخ أوروك ” ليكن معك إلهك الحارس ” وصلى جلجامش إلى الإله ” شمس ” طالبًا معونته، فلم يطمئنه الإله، فأسرع جلجامش إلى أمه الإلهة ” نينسون ” التي اغتسلت، وفركت جسمها بالطيب، وتزينت بالعقد وتمنطقت بالزنار ولبست التاج، وصعدت إلى الإله ” شمس ” وأحرقت أمامه البخور وقدمت القربان فاستجاب لها وقال ” شمس ” لجلجامش أسرع إلى همبابا قبل أن يختفى في الغابة، وقبل أن يلبس دروعه السبعة، فقد لبس واحدة منها فقط، فأمسك جلجامش بيد أنكيدو وتوغلا معًا في غابة الأرز كالثور الوحشي، واحتدمت المعركة، وانتهت بقتل همبابا(5).
3- صراع جلجامش وأنكيدو مع الثور السماوي:
بعد أن قتل جلجامش وأنكيدو ” همبابا ” عادا إلى أوروك ولبس جلجامش التاج، فأعجبت به الإلهة عشتار، وطلبت الزواج منه، ووعدته أنها ستهيئ له مركبة ذهبية تقودها الزوابع، وستجعل الكهان يقبلون قدميه، وينحني أمامه الملوك والأمراء، ولكن جلجامش رفض طلبها لأنها غدرت بكل من أحبتهم قائلًا ” إني لن أقترن بك، أنتِ لستِ أكثر من موقد ينطفئ عند ملامسته الجليد، أنتِ كالباب الناقص لا يصد عاصفة ولا ريحًا، أنتِ قصر يتحطم عليه الأبطال.. وقير (زفت) يلوث من يحمله، وقربة تُبلل من يحملها.. أنتِ منجنيق حصاد يدمر البلاد.. أنتِ حذاء يقرص قدم منتعلة، من هو العشيق الذي أحببتيه أبدًا؟ أي طير.. نجا من فخاخك، تعالِ أذكر لك عشاقك البؤساء ” وأخذ يعدد لها عشاقها الذي انتقمت منهم تموز، والأسد، والحصان، والراعي، والبستان ” أيشولانون “.
ولما سمعت عشتار جلجامش غضبت وصعدت إلى أبيها الإله ” آنو ” وأمها الإلهة “آنتو” وطلبت الثور السماوي لينتقم لها من جلجامش وإلاَّ فإنها ستحطم باب العالم الأسفل وتقيم الأموات حتى يأكلوا الأحياء، فقال لها أبيها ” آنو ” إن أعطيتك الثور السماوي فستمر بلاد أوروك بسبع سنين عجاف، لا يبقى فيها غير التبن، فيجب أن تجمعي الحبوب بوفرة استعدادا لهذه المجاعة، فأخبرته أنها فعلت هكذا، فأعطاها ” الثور السماوي ” الذي شرب من النهر سبع جرعات فجف ماءه، وعلى خواره انفتحت ثغرة وقع فيها مئات المحاربين، وهكذا خار ثانية، وفي الخوار الثالث انفتحت ثغرة بجوار أنكيدو فوقع فيها، ثم قفز منها وأمسك بقرني الثور، فرش الثور الزبد في وجهه، وضربه بذنبه الغليظ، فاستنجد بجلجامش، وتمكن الاثنان من قتل الثور، فأخذت عشتار تنتحب وتنوح ففقدنها جلجامش بفخذ الثور قائلا: لو أمسكت بك لقتلتك مثله، وخرج جلجامش بنصرته على الثور السماوي قائلا لوصيفات قصره: من هو الأجمل من بين الشباب؟ من هو الرائع بين الذكور؟ إنه جلجامش الأجمل بين الشباب، إنه جلجامش الرائع بين الذكور(6).
وفي قصة مشابهة هاجم ” أكا ” ملك كيش مدينة أوروك فاستشار جلجامش شيوخ أوروك فرأوا الإذعان لأكا، ولكن مجلس محاربي أوروك رفض مشورة الشيوخ، فاحتدمت المعركة وهُزم جلجامش وعاتب الإله ” إنليل ” بعد أن قدم له النذور، فأخبره ” إنليل ” إن أمر الحرب مع ابنته ” إنانا ” واستدعاها، فأعجبت بجلجامش، وحاولت التقرب إليه، ولكن جلجامش اعتذر لأنه يعرف ماذا تفعل “إنانا” بأحبائها إذ تنتقم منهم، فاحمرت عيون ” إنانا ” وزمجرت وأرعدت، وهددت وتوعدت، وطلبت من ” آن ” رب الأرباب المقدَّس أن يهبها ثور السماء ليمح جلجامش مع مدينته، فنالت طلبها، وأخذ الثور يقتل ويدمر ويهدم، ففرَّ الناس مذعورين، وخرج جلجامش يحمل رمحه وشبكته وأسلحته قتاله، فألقى بشبكته على الثور ولكن الثور مزقها بقرنيه، فأطلق سلسلته على الثور فخر بين أقدامه وهزمه، فقال جلجامش لأنانا ” لقد هزمت ثورك. هزمت غضبك المقدَّس يا ابنه السماء، وإني لأسألك أن تكفى عن ملاحقتي. إني لأسألك باسم أخيك (أوتو) أن تكوني معي في الحرب ضد الأعداء، إن أوروك مقدَّسة يا ابنه السماء، وأنت حارستها، فارجعي إلى رشدك ” وتشفع جلجامش بأوتو فرجعت أنانا عن ثورة غضبها، ورضت عن جلجامش، وتوَّجته بطلًا على أوروك وسومر كلها، وتعهدت برعايته(7).
4- موت أنكيدو وطلب جلجامش الخلود:
بعد أن قتل جلجامش وأنكيدو الثور السماوي غضبت الآلهة، وقال ” آنو ” لإنليل: لماذا قتل جلجامش وأنكيدو الثور السماوي، وقتلا أيضًا همبابا يجب أن يموتا، فقال “إنليل” يموت أنكيدو أما جلجامش فلا يموت، فاعترض الإله ” شمس ” قائلًا لإنليل: أليس بأمرك قتلا الثور السماوي وهمبابا؟ فلماذا يموت أنكيدو البريء؟ فثار إنليل على الإله “شمس” قائلًا: إنك في يوم كنت تنزل إليهما، وكأنك رفيق لهما.
وتعرض أنكيدو لمرض شديد، وأخذ يشتم الصياد والمرأة اللذان أخرجاه من حياته في البرية، وبكى أمام الإله ” شمس ” طالبا النقمة للصياد قائلًا لشمس ” دَمِرْ رمحه وقلَّل من قدرته، فلتكن حصته أمامك ضئيلة، وبدلًا من أن تدخل الطريدة شباكه، تخرج منها مثل سحابة، وقال للمرأة التي أخرجته من حياة الصحراء: تعالِ إلى هنا أيتها البغي لأحددك لك قدرك.. سأنزل بك لعنة كبرى، وستحل عليك لعنتي فورًا، إنك لن تقيمي بيتًا يجلب لك السعادة.. ولكن الإله ” شمس ” احتج على أنكيدو قائلًا له: إن هذه المرأة هي التي أطعمتك الخبز الذي يليق بالآلهة، وقدمت لك الجعة الناعمة التي تليق بالأمراء، وألبستك رداءًا فخمًا، وجعلت لك جلجامش الجميل رفيقًا، إن أمراء الأرض يقبلون قدميك، فهدأت ثورة أنكيدو وخاطب المرأة قائلًا: وأنتِ يا بنت الهوى تعالى لأحدد لك قدرك، وليباركك فمي الذي سبق وشتمك، وليمجدك الحكام والأمراء.. ويعطيك الحجر الأسود الكريم واللازورد، بأقراط من ذهب مطروق يملأ حضنك..
ثم اشتد المرض على أنكيدو، ورأى حلمًا قصه على صديقه جلجامش الذي لم يفارقه قائلًا: حلمت بمخلوق عجيب يداه تشبهان قوائم الأسد، وأظافره تحاكى مخالب النسر، فأمسكني بخصلة شعرى، وحملني إلى الجحيم، فاكتست ذراعاي بالريش وكأني طائر، فأمسك بي وقادني إلى مسكن مظلم، حيث لم يكن لمدخله مخرج، إلى الطريق الذي لا رجوع منه، إلى الجحيم ورأيت الناس كالطيور يلبسون أردية من الريش حتى الذين حكموا الأرض، والأنبياء والقديسون والوزراء، يأكلون الطين، ورأيت ملكة الجحيم ” أريشكيجال ” وأمينة سر الجحيم ” بعلى سيرى ” تركع أمامها.
وبعد نحو اثني عشر يومًا مات أنكيدو، فبكاه جلجامش بحرقة قائلًا: يا صديقي أنكيدو إن الغزالة أمك، والحمار الوحشي أبوك اللذين أنجباك.. فلتبككَ مسالك أنكيدو في حراج لغابة الأرز.. وليبككَ الشيوخ إلى شارع أوروك العريض، ولتبككَ رؤوس الجبال والتلال، التي اعتليناها سوية نحن الاثنان، ولتنتحب البراري.. ليبكك الدب والضبع والفهد والنمر والوعل والثعلب، والأسد والثور الوحشي والأيل والكبش والماشية والحيوانات المدهشة.. وليبكك الفرات العذب، وليات رجال أوروك ويبكوكَ، هؤلاء الذين شهدوا مآثرنا، ,المدينة حيث قتلنا الثور.. لقد قتلنا همبابا.. فما هو هذا النعاس الذي استولى عليك، لقد فقدت الوعي حتى أصبحت لا تسمعني، لم تعد ترفع رأسك، وقلبك توقف عن الخفقان، وغطى جلجامش وجه صديقه بحنان بالغ، وصار يدور بلا انقطاع حول صديقه أنكيدو، وصرخ بأهل البلاد: أيها الحدادون والنحاتون والصياغ وناقشوا الأحجار الكريمة، أصنعوا تمثالًا لصديقي، وسرعان ما صنعوا له التمثال.. صورة من اللازورد وجسمه من الذهب. وبعد هذا أهمل جلجامش شعره، وارتدى جلد أسد وهام في البراري، وهو في ثورة داخلية ضد الموت لأنه لا يريد أن يموت، قال أذهبُ إلى أوتنابشتيم بطل الطوفان واسأله كيف حصل على الخلود(8).
وفي أسطورة أخرى اقتلعت الإلهة ” إنانا ” شجرة سنديان من على ضفاف الفرات وغرستها في مدينة أوروك فنمت وامتدت، وأوت تحتها حيَّة، ولكن جلجامش قتل الحيَّة وقطع الشجرة، فقامت “إنانا” بتصنيع آلة موسيقية وعصى من جزع الشجرة، ومنحتهما لجلجامش الذي فرح بهما، وراح جلجامش يعزف على الآلة الموسيقية، ولكنها سقطت مع العصا في عمق الجحيم، فجلس يبكى، فقال له أنكيدو: لماذا تبكِ؟ ولماذا قلبك في غم؟ أنا اليوم سأعيدك لك الآلة والعصا من جوف الجحيم.
نصح جلجامش صديقه أنكيدو أن لا يلبس ثيابًا نظيفة، ولا يمسح جسده بالزيت المعطر، لا يرمى بحربة ولا يرفع هراوة، ولا يلبس حذاء، وفي الجحيم عندما يرى زوجته أو ابنه اللذين يحبهما لا يقبّلهما، وعندما يرى زوجته أو ابنه اللذان يكرهما فلا يضربهما، حتى لا تحتجزه ” أم نينازو ” في الجحيم، ولكن أنكيدو فعل عكس وصية جلجامش له، فأيقظ “أم نينازو” التي احتجزته في الجحيم، وفشل في الصعود للأرض ثانية.
أما جلجامش فظل يبكى عليه، والتجأ إلى الإله ” إنليل ” فلم يبالى، وهكذا الإله ” سين ” لم يبالى أيضًا. أما الأب ” آياد ” فقد طلب من البطل ” نرجال ” أن يفتح ثغرة في الأرض لتخرج منها روح ” أنكيدو”، وهكذا التقى جلجامش بروح أنكيدو وتعانقا الاثنان، ورقصا معًا إلى حد الإعياء، ثم سأل جلجامش صديقه أنكيدو عن حالة الذين يعيشون في الجحيم، فقال أنكيدو:
إن الجسد يا جلجامش الذي كان يلذ لك أن تلمسه أكله الدود وكأنه خرقة بالية، وإن المعاملة في الجحيم تتم بناء على عدد أولاد المحتجز في الجحيم، فالذي لديه ولد واحد يجلس منطرحًا منهوك القوى عند أسفل الحائط يبكى بمرارة، ومن له ولدان يعيش في بيت من القرميد ويأكل خبزًا، ومن له ثلاثة أولاد يشرب الماء من قدور الجحيم، ومن له أربعة أولاد فقلبه فرح، ومن له خمسة أولاد فإنه يسكن مع العظماء وله مداخلة في القصر، ومن له ست أولاد يجر المحراث وقلبه مبتهج، ومن مات ميتة مجيدة يرقد على فراشه ويشرب ماء صافية، وأبوه وأمه يرفعان رأسه وزوجته تحتضنه.. إلخ.(9).
5- رحلة جلجامش للحصول على الخلود:
بعد موت ” أنكيدو ” هام جلجامش على وجهه في الصحراء، وهو يبكي بُكاءً مرًا قائلاَ: هل سأموت أنا أيضًا..؟ إن خوفي من الموت يدفعني إلى أن أهيم في الصحراء، فلأذهب إلى أوتنابشتيم الذي حصل على الخلود وأسأله عن سر الخلود، وبدأ جلجامش رحلته إلى أوتنابشتيم، فمر بسبع عقبات شديدة وهي:
عندما بلغ جلجامش ممرات الجبال مساءًا، ورأى الأسود تملكه الرعب، فصلى للإله “سين” إله القمر، وكانت الأسود تمرح مسرورة في ضوء القمر، فرفع جلجامش فأسه، واستل سيفه وانقض على الأسود فمزقها إربًا.
عندما وصل جلجامش إلى أسفل جبل ” ماشو ” العظيم المضاء بنور الشمس، وكان يحرس الباب ” بشر عقارب ” ارتعب جلجامش واصفر وجهه فزعًا، وخاطب الرجل العقرب سليل الآلهة جلجامش: لماذا حمَّلت نفسك عناء هذا السفر البعيد وأتيت إلى هنا أمامي؟ وبعد أن اجتزت الأنهار ومعابرها العسيرة، أريد أن أعرف إلى أين تقودك طريقك..؟ فأجاب جلجامش الرجل العقرب: إنني قطعت طريقًا طويلًا للوصول إلى أوتنابشتيم، لأسأله عن سرد الخلود، ولغز الحياة والموت.
فقال الرجل العقرب: يا جلجامش لم يقم قبلك رجل، يقطع مثل هذا الطريق، ولم يرَ أحد حتى الآن أغوار الجبال، ثم شجعه الرجل العقرب قائلًا: اذهب ولا تخشى شيئًا بعد الآن، لقد أوضحت لك عن الجبال التوائم، فلتقدك سالمًا معافى إلى منتهى رجلتك، لأن باب الجبل مفتوح أمامك.
دخل جلجامش إلى طريق الشمس، وبعد سير ساعة إختفى النور، وواصل جلجامش مسيرته عبر ظلام كثيف، حتى إنه لم يعد يرى شيئًا، بعد تسع ساعات شعر بالريح تلفح وجهه، ثم سار عشر ساعات مضاعفة فأشرق عليه النور، وبعد اثنى عشرة ساعة مضاعفة صارت الأرض منيرة.
وصل جلجامش إلى غابة الأحجار والمعادن، فرأى أشجارًا تحمل عقيق أحمر، والعنقود يتدلى لمَّاع المنظر، واللازورد قد أورق، وهو يحمل ثماره ضاحكًا، فقطع هذه الغابة وواصل سيره.
صار جلجامش ساعات مضاعفة، وهو يغطى ظهره بجلد الحيوانات إلى ساحل البحر، فوصل إلى حانة (مسدورى) وعندما رأته صاحبة الحانة أوصدت الباب وأحكمت غلقه بالمزلاج، فقال لها جلجامش: يا صاحبة الحانة، ماذا رأيتِ حتى أغلقتِ مصراعك، وحتى أوصدت بابك؟ إني سأكسر مزلاجك، إذا أوصدت الباب في وجهي.. أنا جلجامش الذي قتل الثور الهابط من السماء، وفي الغابة قتلت من كان يحرسها، صرعت ” همبابا ” الذي كان يسكن غابة الأرز، وفي الجبل قتلت أسودًا.
فقالت له صاحبة الحانة: إن كنت أنت الذي أمسك بالثور الإلهي وقتلته، فلِمَ ذبلت وجنتاك ولاح الغم على وجهك..؟ وعلام تملك الحزن قلبك وتبدلت ملامحك..؟ وكيف لفح وجهك الحر..؟ وعلآم تهيم على وجهك في البراري؟
فأجاب جلجامش: إذا كان وجهي قد امتقع، وذبلت وجنتاي، وامتلأ قلبي آسى.. فذلك لخوفي من الموت.. أين صديقي أنكيدو الذي كنت أحبه..؟ لقد أصبح شبيهًا بالطين.. لم أسمح لهم بدفنه، حتى أرى إن كان صديقي سينهض على وقع صراخي، سبعة أيام وسبع ليالٍ، إلى أن سقط الدود من أنفه، وبعد موته لم أعد أذق طعمًا للحياة.. والآن يا صاحبة الحانة وقد رأيتُ وجهك، أيمكنني ألاَّ أرى الموت الذي لا أنفك أخافه؟!
أجابت صاحبة الحانة: يا جلجامش إلى أين أنت سائر؟ إن الحياة التي تريدها لن تجدها، لأنها لما خلقت الآلهة البشرية، قدَّرت لها الموت، واستأثرت هي بالحياة الأبدية.. أما أنت يا جلجامش فلتكن معدتك مملوءة، واسترسل بالفرح ليل نهار، وبالسرور كل يوم.. ارقص ليل نهار واعزف الموسيقى، واجعل ثيابك نظيفة زاهية، واغسل رأسك واستحم في الماء، وانظر إلى الطفل الذي يمسك بيدك، وافرِح زوجتك التي بين أحضانك، هذا هو كل ما تستطيع البشرية عمله..
قال جلجامش: والآن يا صاحبة الحانة، أين الطريق إلى أوتنابشتيم..؟ بالإمكان أن أجوز البحر، وإلاَّ سأعود إلى البراري.
قالت صاحبة الحانة: ليس هناك من معبر آخر، ولا أحد من زمن بعيد سبق له أن عبر البحر.. من أين يا جلجامش تستطيع أن تعبر البحر، حتى تصل إلى مياه الموت ماذا تعمل؟ يا جلجامش يوجد هنا ” أورشنابو” (سور سنابو) ملاح أوتنابشتيم.. إن لديه تمثالين من حجر، وها هو الآن في الغابة يجمع الزحافات، أذهب كي يرى وجهك، وإن أمكن فأعبر معه، وإلاَّ فعد أدراجك..
حمل جلجامش سيفه، واخترق الغابة كسهم، حتى التقى باور شنابو الذي سأله عن حزنه الشديد، فشرح له جلجامش بالتفصيل قصة موت صديقه أنكيدو، وسأله جلجامش أن يدله على أوتنابشتيم، فطلب منه أورشنابو أن يقطع 120 عصا من الغابة طول كل منها 30 ذراعًا (وفي إنجيل بابا 60 ذراعًا) وأن يطلها بالقار، ففعل جلجامش هكذا.
صنع جلجامش هذه السفينة البدائية، واصطحب معه أورشنابو، وأبحر في مياه الموت، وحذر أورشنابو جلجامش لئلا تمس يده مياه الموت، ونزع جلجامش ثيابه ونشرها بيديه كأنها شراع..
وأخيرًا وصلت السفينة إلى أوتناشتيم الذي سأل جلجامش عن سبب حزنه الشديد، فحكى له جلجامش كل شيء بالتفصيل، فقال له أوتنابشتيم: لماذا يتملكك الضيق إلى هذا الحد يا جلجامش؟ أنت الذي جسدك من مادة الآلهة والبشر، أنت الذي يعاملك الآلهة وكأنهم أمك وأبوك، وأخذ أوتنابشتم يسدى النصح لجلجامش لقبول الفلسفة الواقعية، وحكى أوتنابشتيم لجلجامش قصة الطوفان بالتفصيل، وامتحن أوتنابشتيم جلجامش، بأن طلب منه أن لا ينام ستة أيام وسبعة ليالي، ولكن جلجامش فشل في هذا الامتحان، وأخذته سُنة من النوم، فقال أوتنابشتيم لزوجته: أنظري هذا الفتى الذي ينشد الحياة، والنعاس كالضباب ينتشر فوقه، فقالت له: ألمس هذا الرجل لكي يستيقظ ويعود من حيث أتى سليمًا معافى.
وطلب أوتنابشتيم من أورشنابو أن يصطحب جلجامش لكي يغسل شعره المتسخ ليصبح نظيفًا كالثلج، ويطرح عنه جلود الحيوانات التي يرتديها في البحر، ويلبس حلة جميلة، ويصنع عمامة فوق رأسه، وحدث هذا، ثم ركب جلجامش السفينة ليعود إلى وطنه.
فقالت زوجة أوتنابشتيم لزوجها: لقد أتى جلجامش إلى هنا وقاسى المشقة والتعب، فماذا عساك أن تمنحه وهو عائد إلى بلاده؟
فقال أوتنابشتيم: يا جلجامش.. سأكشف لك عن سر، وأقول لك ما لا يعرفه سائر البشر، فالأمر يتعلق بنبتة تنبت في البحر جذرها الشوك، إنها كالورد شوكه يغز في يديك، فإذا ما حصلت على هذا النبات، تكون قد حصلت على الحياة الأبدية.
وما أن سمع جلجامش هذا القول، حتى ربط رجليه بأحجار ثقيلة، وألقى بنفسه في البحر، وغاص في الأعماق، واستولى على النبتة وإن كانت قد وخذت يده، وقطع الأحجار الثقيلة من قدميه، فقذفه البحر إلى الشاطئ الذي لم يلبث أن غادره.
فقال جلجامش لأورشنابو الملاح: يا أورشنابو هذه النبتة ضد الكرب، وبها يصل إلى كامل الشفاء. أنا أرغب أن أخذها إلى أسوار أوروك، وسأشرك الناس معي في أكلها وهكذا اختبرها، وسيكون اسمها: عودة الشيخ إلى الحياة..
وبدأت رحلة العودة إلى أوروك، وفي الطريق رأى جلجامش بئرًا مياهها باردة، فنزل إلى البئر ليغتسل في مائها.. شمت حيَّة عرق الثياب، فخرجت من الأرض واختطفت النبتة، وسرعان ما نزعت جلدها عنها، فجلس جلجامش يبكى.. لقد ضاعت كل أتعابه هدرًا، وأخذ ينتحب ويقول: من أجل من يا أورشنابو كلَّت يداي؟ ومن أجل من استنزفت دم قلبي.. لقد حققت المغنم لأسد التراب، وأوصل أورشنابو جلجامش لمدينة أوروك، فعاش جلجامش وأنجب ابنه أوننجال، وحكم مائة وست وعشرين عامًا وهو سعيد، ثم مات وخلَّفه ابنه أوننجال(10).
_____
(1) ول ديورانت- قصة الحضارة- ترجمة محمد بدران المجلد الأول جـ3 القاهرة سنة 1961 ص 217.
(2) اجع الأب سهيل قاشا- أثر الكتابات البابلية على المدوَّنات التوراتية ص 197، 198.
(3) الأب سهيل قاشا- التوراة البابلية ص 139، 140.
(4) راجع سلسلة الأساطير الروسية- ديانات الشرق الأوسط ص 173- 190.
(5) راجع سلسلة الأساطير السومرية- ديانات الشرق الأوسط ص 190- 211.
(6) راجع سلسلة الأساطير السومرية- ديانات الشرق الأوسط ص 211- 218.
(7) راجع خَزْعَل الماجدى- إنجيل سومر ص211- 217.
(8) راجع سلسلة الأساطير السومرية- ديانات الشرق الأوسط ص 219، 231.
(9) راجع سلسلة الأساطير السومرية- ديانات الشرق الأوسط ص259- 264.
(10) راجع سلسلة الأساطير السومرية- ديانات الشرق الأوسط ص 231- 259، وخَزْعَل الماجدي- إنجيل بابل ص228- 251، والخورى بولس الفغالي- المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ1 ص441- 445.