استخدام الأساطير لا يلغى عمل الوحي الإلهي
271- هل استخدام الكاتب ما في الأساطير من معانٍ لا يلغى عمل الوحي الإلهي؟ وهل امتد الوحي الإلهي إلى جميع الأمم أم إنه اقتصر على الأسفار المقدَّسة فقط؟
للأسف الشديد إن هذه الأفكار تغلغلت ليس لدى أصحاب لاهوت التحرر فقط، بل تغلغلت في بعض جوانب الكنيسة الكاثوليكية والكنائس البروستانتية، ونحن نخشى أن يقع فيها البسطاء من كنيستنا الأرثوذكسية، ولذلك يجب علينا عرضها ومناقشتها، فمثلًا يقرُّ الأب سهيل قاشا أن العهد القديم اقتبس من أساطير الشعوب الوثنية، فيقول “إن التراث الكتابي قد أخذ الكثير من تراث محيطه الثقافي الشرقي، إلاَّ أنه لم يقلده تقليدًا حرفيًا، بل غربل ما اقتبس”(1)
كما يقول “وبالإجمال حاولنا أن نبين أن الكتاب المقدَّس (العهد القديم) قد اقتبس الكثير من الفكر والأدب الذي سبقه وبالذات من الفكر والأدب الرافدينى وبذلك لم يعد ذلك الكتاب الفريد والفوق طبيعي. كما لم يعد أقدم الكتب جميعًا الذي كُتب من قبل الله شخصيًا، أو بإملاء أو “إلهام” منه كما كنا نراه يومًا”(2).
ويرى الأب سهيل قاشا إنه بالرغم من أن الكاتب التوراتي قد استخدم أساطير الأمم إلاَّ إنه كتب بوحي إلهي، فيقول “خلاصة القول، ومهما يكن من تشابه واقتباسات وتأثيرات ومؤثرات، يبقى الكتاب المقدَّس، كتابًا مُلهمًا وعمل الروح القدس فيه واضح وبيَن حيث أن الكاتب المُلهم استطاع وبجدارة أن يستخدم ويوظف الملحمة أو أسطورة جلجاميش للبلوغ إلى الهدف والغاية المقدَّسة وهي أن الله هو المبدع والخالق والضابط الكل، وهو الإله الواحد ليس من غيره إله، وإليه ترجع كل الأمور وهو بداية كل الغايات وإليه تنتهي”(3).
ويقول الأب جورج سابا “تناول واضعوا الكتاب المقدَّس أحيانًا بعض عناصر عُرفت في حضارات جيرانهم ودياناتهم، وطهروها من كل شائبة.. ومن جملة ذلك: الخيال الذي يحيط بأسطورة الخلق البابلية، وتقليد ما بين النهرين المتعلق بالطوفان، ورمز العاصفة المنبثق من الميثولوجيا الكنعانية، والأقوال الفارسية في عالم الملائكة أو شرائع الشرع الحمورابي وغيره، وحكم ومزامير ظهرت في مصر وغيرها”(4).
كما يقول الأب جورج سابا أيضًا عن الإحدى عشر إصحاحًا الأول من سفر التكوين “تلك أجوبة توصَّل إليها مفكروا العهد القديم بعد عناء طويل.. من أين الكون؟ ومن أين الإنسان؟ لماذا الحياة ” لماذا الخطيئة والشر والعنف والألم والموت؟ لماذا هذا الميل إلى الشر والعنف والألم والموت؟ لماذا هذا الميل إلى الشر ولماذا صعوبة الخير؟ لكنها ليست أجوبة مجردة، بل أجوبة تُعرض بطريقة شعبية خيالية قصصية، قريبة إلى أذهان المستمعين والقراء، لها خلفيات من تراث الشعوب السامية عامة”(5).
أما الشق الثاني من السؤال الخاص بامتداد الوحي الإلهي للشعوب الوثنية، فيقول الأب سهيل قاشا “إن الوحي الإلهي كان لكل الشعوب والأمم، وكل منها عبَّر عنه بحسب البيئة والعقلية والزمان، فهناك تنويهات وإشارات كثيرة لدى الشعوب المجاورة، عمل حكماؤها ودوَّنوا بحسب الوحي الإلهي الذي عبَّروا عنه، وإن كان بصورة مشوَّهة.. إن شريعة حمورابي وتطابقها مع الشريعة التي تلتها بقرنين من الزمان (شريعة موسى) ألا يمكننا أن نقول أنها دوّنت بإلهام ووحي لما فيها من العدالة والحق والإنصاف؟”(6).
وأعاب الأب سهيل قاشا على اليهود لأنهم يقصرون عمل الوحي الإلهي على العهد القديم، فقال “إلاَّ أن اليهود كأنهم احتكروا هذا الوحي والمقدَّسات.. رغم ما في أسفار العهد القديم دون استثناء من اقتباسات وتطابقات للفكر الإنساني السابق لهم، وهذا ما تؤكده يومًا بعد يوم الدراسات العلمية الرصينة والآثار والألواح والكتابات، وكأني بهم يريدون حجب نور الشمس بالغربال، وهل يُخفى القمر..؟ لأن الإله الواحد الأحد خلق كل البشر وهم أبناءه بدون تمييز وأعطى لهم حق التفكير والتعبير”(7).
تعليق:
1- عندما يقول الأب سهيل قاشا ما معناه: أن الكتاب المقدَّس يبقى ملهمًا بعد اقتباسه من أساطير الشعوب الوثنية.. نسأله: هل مصدر الإلهام في الكتاب المقدَّس هو روح الله، أم أساطير الأمم، أم أن هناك أجزاءًا يرجع مصدر الإلهام فيها للروح القدس وأجزاءًا أخرى يرجع مصدر الإلهام فيها للأساطير؟ وكيف يتفق النور مع الظلمة؟!
وعندما يقول ما معناه: أن الكتاب المقدَّس لم يعد الكتاب الفريد والفوق طبيعي، لأنه لم يكتب بإلهام إلهي كما كنا نظن ذلك من قبل.. ألا ترى يا صديقي أن هذا طعن مباشر في كتابنا المقدَّس الوحيد الفريد الذي له طبيعة مزدوجة إلهية وبشرية، إذ كتب بأيدي البشر ولكن بإلهام من روح الله القدوس..؟!
لماذا ينفى الأب سهيل قاشا الصفة الإلهية عن الكتاب المقدَّس؟!، وعلام يستند في قوله هذا..؟ أليس هذا تحدى واضح وصريح لروح الكتاب، وإنكار فاضح لنصه “كل الكتاب هو مُوحى به من الله” (2تى 3: 16) ..؟ بأي روح يتكلم هذا الأب؟! هل بروح الإنجيل..؟!! ألا ترى يا صديقي أن هذا يعد تشكيك في أقوال الله، كما شككت الحيَّة القديمة أمنا حواء في أقوال الله؟!
وعندما يقول الأب جورج سابا أن الكتاب المقدَّس حوى الخيال الذي ارتبط بأسطورة الخلق البابلية، وإن مفكرو العهد القديم أجابوا بعد عناء عن تساؤلات الإنسان عن الكون والإنسان والحياة والموت والألم بطريقة شعبية قصصية مستمدة من تراث الشعوب الوثنية.. ألا يدرى أن كل ما جاء في كتابنا المقدَّس هو حقائق أقرَّها الله، ولا مجال فيها للخيال ولا للأساطير ولا للحكايات الشعبية..؟! ألا يدرى أن سفر التكوين لم يكن قط نتاج مفكروا العهد القديم بعد عناء طويل..؟
ألا يدرى أن موسى النبي كتب في سلاسة وبساطة بدون أي عناء، بل انسابت أقوال الله عليه على شفتيه في سهولة ويسر، ومثله بقية الأنبياء الأطهار..؟!! لماذا يضع الأب جورج سابا الكتاب المقدَّس وكأنه ثمرة تفكير بشرى لا غير، منكرًا طبيعته الإلهية، وإن أقواله هي أقوال الله..؟!! كما أننا لا نستطيع أن نوافق الأب جورج سابا في تعبيره الغير مسيحي (الإله الأحد) لأن القول بالإله الأحد يعنى أنه أحد الآلهة، وهذا طعن في وحدانية الله، فالله واحد وليس أحد، له الوحدانية المطلقة وليس له الأحدية.
2- هل عجز روح الله القدوس أن يوحى للكاتب ويرشده بعيدًا عن أساطير الأمم التي امتزجت بالخرافات..؟
لقد عاش آدم عمرًا مديدًا وحكى لأولاده وأحفاده قصة خلقته، وخلقة الكون من أجله، وقصة حياته الملوكية في الفردوس، ثم سقوطه بغواية الحيَّة وطرده من الفردوس لأرض الشقاء والعناء والفناء، وعاش نوح وأولاده يقصون على أولادهم وأحفادهم هذه القصص، ولكن ازداد عدد السكان، وتكوَّنت الشعوب، وقلت معرفتها بالله الواحد، وتغلغل في أحشائها روح المُضِل، فأخذت هذه القصص وأمثالها مثل قصة الطوفان وبرج بابل، وأضافت عليها الخرافات، فكانت الأساطير.
لقد امتزجت الخرافات بالنبع الصافي فصار ملوَّثًا، بينما احتفظ التقليد اليهودي بهذا النبع نقيًّا، فكيف يأخذ موسى النبي اليهودي من هذا النبع الملوث الفاسد محاولًا تنقيته، ويترك ما لديه من نبع نقى..؟! ويقول الأستاذ رشدي السيسي “وصفوة القول أن النبع الإلهي الأزلي الذي استقت منه شريعة الكمال عقائدها في كامل نقائها وصفائها، جعل منه إبليس معينًا مر المذاق استمد منه قدماء المصريين والهنود والفرس وغيرهم من الشعوب القديمة، أساطيرهم الدينية، المتضمنة حقائق الأسفار المقدَّسة بعد تحريفها وتشويهها”(8).
3- إن الوحي الإلهي اقتصر على الأسفار المقدَّسة، وخارج هذه الأسفار لا يوجد وحى على الإطلاق لدى الأمم ولا لدى اليهود أيضًا، فلم يكن الوحي متسعًا منتشرًا ثم تم اختيار بعض منه كأمثلة ووُضِع في الكتاب المقدَّس. كلاَّ، فخارج الأسفار المقدَّسة لا يوجد وحى قط، بل ما وُجد من أسفار أخرى فهي “أبو كريفا ” غير قانونية وتمثل عملًا بشريًا محضًا لا يد لروح الله فيه.
وكل ما نستطيع أن نقوله عن حكماء الشعوب الأخرى وفلاسفة الأمم أنهم استطاعوا أن يروا بصيصًا من الحق الإلهي، وهذا البصيص لا يرقى بأي حال من الأحوال إلى درجة الوحي الإلهي الذي عصم كتَّاب الأسفار المقدَّسة من أي خطأ أو نسبة خطأ، ولو كان الوحي الإلهي عمل مع هؤلاء الحكماء والفلاسفة فكيف يقر الأب سهيل قاشا بأنهم دوَّنوا هذه التنويهات والإشارات بصورة مشوشة..؟! كيف يكون هناك وحيًا ويكون الناتج نصوصًا مشوهة؟!!
4- لقد أعطى الله شريعته للبشرية كلها من خلال الشعب اليهودي، ولم يمنع أي إنسان من السلوك في هذه الشريعة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وكان اختيار الله للشعب اليهودي وإيداعه النبوءة والكتاب اختيارًا مؤقتًا فهو اختيار للجزء ليقدس به الكل، ولاختيار للخميرة لتخمر العجين كله، ولهذا جاء الوعد الإلهي لإبراهيم أن بنسله تتبارك جميع الأمم (تك 12: 1 – 4، 22: 16 – 18).
لقد خلق الله كل البشر وجميعهم أبناءه بالخلقة بدون تميّيز، ولكن الإنسان هو الذي صنع هذا التميّيز، فهناك من أحب الله أكثر من حبه لنفسه، وأطاعه لدرجة تقديم ابنه ذبيحة حية له، وهناك من أحب الشيطان وأطاعه وقدم أبناءه ذبيحة نجسة له.. شتان بين النور والظلمة، فقد هرب أبناء الظلمة من النور الإلهي، فسقطوا في تعديات وخطايا لا حدود لها حتى الأرض لم تحتملهم بل لفظتهم وطوَّحت بهم من على ظهرها.
_____
(1) التوراة البابلية ص38.
(2) المرجع السابق ص427.
(3) أثر الكتابات البابلية في المدوَّنات التوراتية ص206، 207.
(4) على عتبة الكتاب المقدَّس ص49.
(5) المرجع السابق ص155.
(6) أثر الكتابات البابلية في المدوَّنات التوراتية ص207.
(7) أثر الكتابات البابلية في المدوَّنات التوراتية ص207.
(8) مجلة الكرازة في 15/ 8/ 1975م ص7.