هل أخذ موسى فكر التوحيد من إخناتون؟
270- هل أخذ موسى فكر التوحيد من إخناتون؟
يقول النقاد إن “إخناتون ” وزوجته “نفرتيتي” قد هجرا عبادة الإله “آمون” وكان مركزها مدينة طيبة، ونادوا بعبادة الإله الواحد “أتون ” إله هليوبوليس ، وجعلوا مركز عبادته في “تل العمارنة ” التي أنشأوها، ومعنى اسمها “أخت آمون أتون ” وقد منع “إخناتون ” أي نحت أو تصوير للإله الواحد “أتون ” وفي عصره حُطمت كل التماثيل ومحيت من على جدران المعابد كل صوُّر وأسماء الآلهة القديمة، وسمح إخناتون فقط بنحت أشعة الشمس كرمز للإله الواحد، لأنه اعتقد أن “أتون ” لا يمثل قرص الشمس ذاته إنما هو خالق أشعته..
وقال النقاد هكذا جاءت الوصية في التوراة “لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا صورة ما مَما في السماء من فوق وما في الأرض من أسفل وما في الماء من تحت الأرض” (تث5: 8).
كما قال النقاد إن “إخناتون ” أنكر فكرة البعث والحساب والحياة الأخرى، فقد كان الإله الشعبي “أوزوريس” هو إله الأموات ورب البعث، فأراد “إخناتون ” أن يمحو هذا الإله ولذلك أنكر عقيدة البعث والحساب، وعلى منواله نسجت اليهودية، فلا نجد فيها نصوصًا واضحة عن الحياة بعد الموت، وأيضًا قال النقاد إن “إخناتون ” حارب السحر والسحرة، وهكذا فعلت التوراة “لا تدع ساحرة تعيش” (خر22: 18).
ج: دعنا يا صديقي نلقى الضوء قليلًا على إخناتون وعبادته، قبل أن نعلق على ما طُرح في السؤال السابق، فيقول “ول ديورانت” عن إخناتون (الملك المارق) في عام 1380 ق.م مات أمنحوتب الثالث الذي خلف تحتمس الثالث على عرش مصر، بعد حياة حافلة بالعظمة والنعيم الدنيوي، وخلفه ابنه امنحوتب الرابع الذي شاءت الأقدار أن يُعرف باسم إخناتون..
وملاك القول أنه كان شاعرًا الأقدار أن تجعل منه ملكًا، ولم يكد يتولى المُلك حتى ثار على دين آمون وعلى الأساليب التي يتبعها كهنته، فقد كان في الهيكل العظيم بالكرنك طائفة كبيرة من النساء يُتخذن سراري لأمون في الظاهر، وليستمتع بهنَّ الكهنة في الحقيقة، وكان الملك الشاب في حياته الخاصة مثالًا للطهر والأمانة، فلم يرضه هذا العهر المقَّدس كما كان اتجار الكهنة في السحر والرقى.. مما تعافه نفسه، فثار على ذلك كله ثورة عنيفة.. وثارت روحه الفتية..
وكره المال الحرام والمراسم المترفة التي كانت تملأ الهياكل.. وأعلن في شجاعة أن هاتيك الآلهة وجميع ما في الدين من احتفالات وطقوس كلها وثنية منحطة، وإن ليس للعالم إلاَّ إله واحد هو أتون، ورأى إخناتون.. أن الألوهية أكبر ما تكون في الشمس مصدر الضوء.. فألف أغاني حماسية في مدح أتون، أحسنها وأطوالها جميعًا القصيدة الآتية (ونستقطع فيما يلي بعض عبارات إخناتون التعبدية للشمس):
ما أجمل مطلعك في أفق السماء.. أي أتون الحي، مبدأ الحياة.. فإذا ما أشرقت في الأفق الشرقي.. ملأت الأرض كلها بجمالك.. إنك جميل، عظيم برَّاق، عال فوق كل الرؤوس..؟؟ أشعتك تحيط بالأرض، بل بكل ما صنعت… وإنك لتربطها جميعًا برباط حبك.. ومهما بعدت فإن أشعتك تغمر الأرض.. ومهما علوت، فإن آثار قدميك هي النهار..
وإذا ما غربت في أفق السماء الغربي.. خُيم على الأرض ظلام كالموت.. ونام الناس في حجراتهم… وخرج كل أسد من عرينه.. ولدغت الأفاعي كلها.. وسكن العالم بأجمعه.. لأن الذي صنعها يستريح في أفق سمائه.. ما أبهى الأرض حين تشرق في الأفق.. حين تضئ يأتون بالنهار.. تدفع أمامك الظلام… وازدهر الشجر والنبات.. ورفرفت الطيور في مناقعها.. وأجنحتها مرفوعة تسبح بحمدك.. ورقصت كل الأغنام وهي واقفة على أرجلها.. وطار كل ذي جناحين.. وإن السمك في النهر ليقفز أمامك..
أيها الإله الأوحد الذي ليس لغيره سلطان كسلطانه.. يا مَنْ خلقت الأرض كمن يهوى قلبك.. حين كنت وحيدًا… أنت مُوجِد النيل في العالم السفلى.. وأنت تأتى به كما تحب.. لتحفظ حياة الناس.. ألا ما أعظم تدبيرك.. يا رب الأبدية!…
إنك في قلبي.. وما من أحد يعرفك.. إلاَّ ابنك إخناتون.. لقد جعلته حكيمًا بتدبيرك وقوتك.. بالصورة التي خلقته عليها.. فإذا أشرقت دبت فيه الحياة… أنت أوجدت العالم.. وأقمت كل ما فيه لابنك.. أخناتون، ذي العمر المديد.. ولزوجته الملكية الكبرى محبوبته(1)(2).
والآن هاك تعليقنا على السؤال السابق: هل أخذ موسى فكر التوحيد من إخناتون؟
1- رأى المصريون الإله الواحد في إله الشمس، ومع هذا فإنهم لم يسقطوا الاعتقاد بآلهة أخرى خُلقت بواسطة إله الشمس، ففي أنشودة شمسية جاء عن إله الشمس “إنك صانع مصوَر لأعضائك بنفسك.. ومصوَر دون أن تصوَّر.. منقطع القرين (أي ليس له قرين) في صفاته، مخترق الأبدية.. مرشد الملايين إلى السبل..
لوعندما تقلع في عرض السماء يشاهدك كل البشر.. وحينما يأتي وقت غروبك.. فإن ساعات الليل تصغى إليك أيضًا.. وعندما تجتازها فإن ذلك لا يكون نهاية كدك.. أنت خالق الكل ومانحهم قوتهم.. أنت أم نافعة للآلهة والبشر..”(3).
2- مثَّل عصر “إخناتون ” ثورة على الوضع القائم، ولكن سريعًا ما انتهى هذا العصر، وعاد الوضع إلى ما كان عليه في عصر زوج ابنته “توت عنخ آمون ” فيقول برستيد James Henry Breasted “أما سقوط ذلك الثوري العظيم (إخناتون) فيحوطه الغموض التام، وكانت النتيجة المباشرة لسقوطه هو إعادة عبادة “آمون “.. التي فرضها كهنة “آمون ” على “توت عنخ آمون ” ذلك الشاب الضعيف زوج ابنة “إخناتون “.. وهكذا لُعِنت ذكرى ذلك الرجل العظيم صاحب المثل الأعلى..
وعندما كانت الإشارة إلى اسمه ضرورية في الوثائق الحكومية في عهد الفراعنة الذين أتوا فيما بعد كان يُسمى “مجرم إخيتاتون “.. (وفي أنشودة فرح بعودة آمون) حيث جاء فيها: إنك تصل إلى من ينبغي عليك.. والويل لمن يهاجمك.. مدينتك تبقى.. ولكن من يهاجمك يهوى.. وشمس من لا يعرفك تغيب..
يا آمون!.. وأما من يعرفك فإنه يضيء.. ومعبد من هاجمك في ظلمة.. بينما جميع الأرض في نور”(4) ويقول برستيد ” إنه بعد سقوط إخناتون لم يترك أعداؤه حجرًا واحدًا لم يقبلوه لإزالة كل أثر باق يدل على حكمه الممقوت عندهم، وقد دمروا بطبيعته الحال مخطوطات الملك هذه المدوَّنة على البردي”(5).
3- أنكر إخناتون الذي رفع راية التوحيد عقيدة الحساب في الآخرة، فيقول برستيد “وإذا كنا لم نسمع عن حساب الآخرة في مقابر ” تل العمارنة “فمن الواضح أن ذلك أنما يرجع إلى نبذ سحابة الآلهة وأنصاف الآلهة، وعلى رأسهم أوزيريس ، فمن كانوا يؤلفون هيئة المحاكمة في حساب الآخرة بشكلها الموضح في كتاب الموتى، فأولئك الآلهة قد بادوا الآن، واختفى – على ما يظهر – منظر المحاكمة التمثيلي باختفائهم”(6).
4- من قال أن التوراة أنكرت فكرة البعث أو خلت من الحديث عن الحياة الأخرى..؟ يكفى أن نلقى نظرة على الآيات الآتية:
أ- عندما اعتقد يعقوب أن ابنه يوسف قد افترسه وحش رديء “أبىَ أن يتعزى وقال إني أنزل إلى ابني نائحًا إلى الهاوية..” (تك 37: 35).
ب- عندما طلب أبناء يعقوب أن ينزل معهم بنيامين إلى مصر رفض يعقوب قائلًا “فإن أصابته أذيَّة في الطريق التي تذهبون فيها تُنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية” (تك42: 38).
ج- قال موسى عن داثان وابيرام “إن ابتدع الرب بدعة وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل ما لهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية..” (عد16: 30).
د- قال بلعام “لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم” (عد 33: 10).
ه- قال الرب ردًا على من أغضبوه “قد اشتعلت نار بغضبى فتتقد إلى الهاوية السفلى” (تث32: 22).
ويجب ملاحظة أن أسفار موسى الخمسة لا تمثل قسمًا منفصلًا مستقلًا بذاته عن بقية الأسفار المقدَّسة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
فالكتاب المقدَّس كله وحدة واحدة، فحتى لو أن التوراة لم تتوسع في الحديث عن الحياة الأخرى فإننا سنجد الأسفار الأخرى قد غطت هذا الأمر، فمثلًا سفر أستير لم يرد فيه اسم الله باللفظ على الإطلاق، ومع ذلك فهو سفر قانوني مُوحى به من الله، لأنه وإن كان اسم الله لم يرد باللفظ إلاَّ أن الشعب اليهودي كان يصلى لله، ويصوم ويطلب مراحم الله، وقد عظم الرب الصنيع مع شعبه. إذًا لنترفع عن هذا المنطق لأن الكتاب يقول “لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحيي” (2كو3: 6).
لقد عرف رجال العهد القديم أن هناك حياة أخرى، وتنبأوا عن مجيء المخلص الذي سيخلصهم من وصمة الخطية ويطلقهم من الهاوية، وقد اعترف بهذه الحقيقة ” جيمس هنري برستيد ” ولكن جانبه الصواب عندما ظن أن العبرانيين اقتبسوا فكر المخلص من الحضارة الفرعونية(7) لأن المصريين كانوا يحلمون بمجيء حاكم عادل يقيم العدالة فقط.
أما نبوءات العهد القديم فقد أوضحت جوانب عديدة جدًا لهذا المخلص وولادته المعجزية، وشخصه، وحياته، ومعجزاته، وموته مصلوبًا وقيامته والفداء العظيم الذي سيصنعه.. إلخ وذلك من خلال ثلثمائة نبؤة، ولنا عودة لموضوع الحضارة الفرعونية في سفر الخروج إن شاءت نعمة الرب وعشنا.
_____
(1) ترجمة د. زكى نجيب محمود ومحمد بدران.
(2) قصة الحضارة – المجلد الأول (2) ص169 – 174.
(3) المرجع السابق ص295.
(4) جيمس برستيد – ترجمة د. سليم حسن – فجر الضمير ص330، 331.
(5) المرجع السابق ص321.
(6) المرجع السابق ص324، 325.
(7) راجع فجر الضمير ص40.