كيف ولدت الأسطورة؟ وكيف كانت نظرة المفكرين لها؟
267- كيف وُلِدت الأسطورة؟ وكيف كانت نظرة المفكرين لها؟
ج: يجب ملاحظة أن الأسطورة تولد بسيطة، ثم تنمو تدريجيًا وتتطوَّر، وتتميز الأساطير بالإعادة والتكرار في الأسلوب فيمكن اختصار الكثير منها في معان بسيطة، لأن الأسطورة – كما؟؟ قال شتراوس – لها تاريخ خاص، كما أنها لا تُولد ولا تُخلق متكاملة بل تتطوَّر تدريجيًا من حكاية بسيطة(1).
وهناك آراء عديدة مختلفة عن كيفية ولادة ونشأة الأسطورة فهناك من ربطها بالطقوس، وهناك من ربطها بالعادات القَبَلية، وهناك من ربطها بالأحلام ومنطقة اللاشعور الفردي أو الجماعي، وهناك من ربطها بمحاولات الإنسان البدائي لاستكشاف أسرار الكون المحيط به.
وفيما يلي نعرض لبعض آراء بعض المفكرين في ولادة الأسطورة:
جيمس فريزر – ماليثوفسكى – ليفي برول – شلنج – فرويد – يونغ – إريك فروم – ميرسيا إلياد
1- جيمس فريزر:
ربط فريزر في كتابة “الغصن الذهبي” بين الأسطورة والطقوس، قالًا بأنه بعد ممارسة أي طقس لزمن طويل، لا يعرف الناس لماذا كان هذا الطقس، فتأتى الأسطورة لتجيب على تساؤلاتهم، فمثلًا عندما أراد إتباع “ديونيسيوس ” تبرير شربهم لدم الثور الحي وأكلهم للحنة نيئًا، اخترعوا أسطورة هجوم التيتان أعداء “زيوس ” على “ديونيسيوس ” الذي غيَّر شكله إلى شكل ثور، ولكنهم تمكنوا منه، ومزقوا جسده وشربوا دمه وأكلوا لحمه نيئًا.
2- ماليثوفسكي:
عالِم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) الشهير الذي هاجم “جيمس فريزر ” وقال أن الأسطورة تنتمي للعالم الواقعي وتهدف لهدف معين، فهي قد نشأت من أجل ترسيخ عادات قَبَلية معينة، أو لتدعيم سيطرة عشيرة ما، أو مساندة لنظام اجتماعي قائم(2).
3- ليفي برول:
يرى أن الأسطورة تدخل في منطقة اللامعقول واللامنطق، فيقول د. كارم محمود “يذكر ليفى برول أن الفكر الأسطوري هو فكر ما قبل المنطقي.. فاللامعقول في الأسطورة جزء لا يتجزأ من بنية الأسطورة. ويوضح ” كلود ليفي شتراوس “هذا بقوله: يواجه دارس الفكر الأسطوري بموقف يبدو متناقضًا لأول وهلة.. إذ أنه ليس هناك منطق أو استمرارية، فأي خاصية يمكن أن تُنسب إلى أي موضوع، أي علاقة ممكنة يمكن أن تُوجد، فمع الأسطورة يصبح كل شيء ممكنًا”(3).
كما يقول د.كارم محمود أيضًا “ويقول مؤرخ الديانات ” رافاييلى بيتاتسونى “بأن الفكر الأسطوري هو فكر منطقي ولا منطقي، عقلي ولا عقلي في آن واحد.. ويشير البعض إلى وجود علاقة ثنائية بين الأسطورة والتاريخ، فسمَح ببغض الخيال في الوصف التاريخي، كما تسمح (الأسطورة) ببعض الواقعية في الوصف الأسطوري. ويذكر “الحجاجي ” أن الأسطورة ليست مرادفًا للخيال، كما أنها ليست مقابلًا للواقع”(4).
4- شلنج Shelling:
يرى أن الأسطورة تخفى ورائها تخفى ورائها حقائق ميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) وتمثل فلسفة إنسانية، فيقول د. كارم محمود “وقد اعتقد شلمنج أن الأسطورة لها حقيقة قائمة بذاتها، وأنها تخفى بين طياتها نوعًا معينًا من المنطق الذي لا يمكن إرجاعه إلى المنطق آخر، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الأساطير تُفهم في مجتمعها على أنها قصة حقيقية”(5) كما يقول أيضًا “وعند شلنج Shelling ظهرت للمرة الأولى فلسفة في الأسطورة..
أو بتعبير أدق تمثل (الأسطورة) الفلسفة في أكمَل صوَّرها، وترى الفلسفة أن كل ما تحمله الأسطورة من صوَّر ورموز إنما لا بُد أن تحتوى معنى فلسفيًا عميقًا”(6).
5- فرويد Fryed:
فسر العالِم النفسي اليهودي فرويد الأسطورة في كتابه “تفسير الأحلام ” الذي نُشر سنة 1905م تفسيرًا نفسيًا، فقال أن الأسطورة وليدة المشاعر المكبوتة التي يحتفظ بها الإنسان في منطقة اللاشعور، ولذلك تجد أحداث الأسطورة لا ترتبط بمكان معين ولا بزمان معين، فهي تدخل في نطاق اللامكان واللازمان (كان ياما كان في غابر الأزمان والأيام) ..
ويقول د. كارم محمود عزيز “وإنه إذا اقتربنا من العالم الأسطوري من هذا الجانب فإننا نجده، وفقًا لتعبير ” ملتون ” Milton محيطًا مظلمًا لا متناهيًا، ليس له بعد أو حدود، ونفتقد فيه الطول والعرض والارتفاع، وكذلك الزمان والمكان”(7).
ويرى فرويد أن البطل الأسطوري يقوم بأعمال خارقة للطبيعة هي في الحقيقة انعكاس لرغبات الإنسان اللاشعورية وأمانيه المكبوتة، ويقول د. كارم محمود “ويرى فرويد أن البطل في الأسطورة، حاله كحال صاحب الحُلم، يخضع لتجولات سحرية ويقوم بأفعال خارقة هي انعكاسات لرغبات وأمانٍ مكبوتة تنطلق من عقالها بعيدًا عن رقابة العقل الواعي الذي يمارس دور الحارس على بوابة اللاشعور”(8).
وفي كتابه “التوتم والتايو ” يحكى فرويد عن أسطورة أب له عدد من زوجات، فقام الأبناء بقتل أبيهم طمعًا في زوجاته، ولكن بعد أن قتلوا أبيهم انتابهم شعور شديد بالندم، فحرَّموا زوجات أبيهم على أنفسهم، ويقول فرويد من هنا جاء تحريم الزواج من زوجات الآباء، بل رأى فرويد أن الأسطورة التي تقف وراء عقيدة الكفارة في المسيحية هي الإحساس بتوارث الخطية، فهذا الإحساس يعتبر هو “الأساس الكامن وراء مجموعة الأساطير التي تروى عن تضحية الإله الابن وكأنما يقدم البشر كفارة رمزية عن خطيئتهم الأولى نحو الأب”(9).
6- يونغ:
وهو تلميذ فرويد، وقد اهتم بالأسطورة أكثر من معلمه الذي ربط بين الأسطورة واللاشعور، ولكن الفارق أن فرويد أرجع الأسطورة إلى “اللاشعور الفردي”، أي أن مصدر الأسطورة فرد واحد، بينما أرجع يونغ الأسطورة إلى “الشعور الجمعي ” أي اللاشعور الخاص بالمجموعة وليس بالفرد، فهي تعبر عن أحلام مجموعة وليس أحلام فرد واحد.
7- إريك فروم Erich Fromm:
ويعتبر أحد عمالقة التحليل النفسي، وكتب دراسة كبيرة للأسطورة في كتابه “اللغة المنسية” The Forgotten Language وقد وافق “فرويد ” في الربط بين الأسطورة والحُلم ولكنه خالفه إذ نظر للأسطورة أو الحُلم على أنهما نتاج العالم اللاعقلاني، فالعقل في حالة الحُلم يعمل ويفكر بطريقة أخرى غير طريقته وعمله وتفكيره وقت الاستيقاظ(10) وقال أن الأسطورة هي لغة رمزية، فإذا استطعنا فك رموزها، حينئذ ينفتح أمامنا عالم ملئ بالمعارف.
8- ميرسيا إلياد:
يرى أن الأسطورة ارتبطت بالديانات البدائية، ولذلك يصعب تفسيرها بعيدًا عن المعتقدات الدينية التي كانت سائدة حينذاك، ويقول د. كارم محمود “يذكر ميرسيا إلياد أن من خصائص الأسطورة أنها قصة مقدَّسة تتكوَّن من أفعال قامت بها كائنات عليا، وتتعلق دائمًا بخلق شيء جديد”(11).
ويرى الدكتور سيد القمني أن الأسطورة وُلدت في المعابد وصارت جزءًا من بنية الدين فيقول “ويذهب نفر من علماء الميثولوجيا إلى أن لأول الأعمال الأدبية الأسطورية ولدت في المعابد وهياكل الآلهة، ويعتقد “روبرتسون سميث ” W. R. Smith أن الأساطير القديمة كانت بمثابة الاعتقاد الديني، لأن التراث المقدَّس كان يتخذ شكلًا قصصيًا يدور حول الآلهة..
بحيث كانت الأسطورة جزءًا من بنية الدين.. لكنها لم تتخذ صفة الإلزام، فخضعت لحرية الإنسان مما جعلها عرضة دائمة للتغيُر”(12) ويقول فراس السواح أن الأسطورة حكاية مقدَّسة تقليدية تدخل فيها الآلهة أو أنصاف الآلهة، وقد حدثت في الأزمنة الأولى المقدَّسة، فالأسطورة هي عبارة عن سجل لأعمال الآلهة، وهي حكاية تقليدية لأنها تنتقل من جيل إلى جيل شفاهة، فالأسطورة هي ذاكرة الجماعة، ولها قوة وسيطرة على النفوس التي تؤمن بها، وكانت الأسطورة تتلى في الاحتفالات الدينية العامة(13).
_____
(1) راجع فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص275، وناجح المعمورى – أقنعة التوراة ص 305.
(2) راجع فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 12.
(3) أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم ص14.
(4) المرجع السابق ص16.
(5) المرجع السابق ص15.
(6) أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم ص17.
(7) المرجع السابق ص23.
(8) المرجع السابق ص22.
(9) فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص 13.
(10) راجع فراس السواح – مغامرة العقل الأولى ص14.
(11) أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى القديم ص19.
(12) الأسطورة والتراث ص29.
(13) راجع مغامرة العقل الأولى ص20.