تابع (جـ) الذبائح الدموية والتقدمات الطعامية
(3) الدم ومعناه في العهد الجديد وبعض المصطلحات التي تدل عليه
للرجوع للجزء الثانى عشر أضغط هنـا.
[3] في العهد الجديد: ترد كلمة αἷμα (دم) حوالي 97 مرة، حيث تُستخدم للدلالة على الدم الإنساني حرفياً ومجازاً:
حرفياً: [ وامرأة بنزف دم مُنذُ اثنتي عشر سنة ] (مر5: 25)؛ [ وكان حاضراً في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم ] (لو 13: 1)؛ [ ولكن واحداً من العَسكَر طعن جنبه بالحربة، وللوقت خرج دَمٍ وماء ] (يو 19: 34)
ومجازاً من جهة الحكم: [ لكي يأتي عليكم كل دمٍ ذكي سُفك على الأرض، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن بَرَخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحق أقول لكم : إن هذا كله يأتي على هذا الجيل ] (مت 23: 35 – 36)
وتأتي بمعنى قوي من جهة الجهاد ضد الشر والخطية [ لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية ] (عبرانيين 12: 4)
وكما تأتي الكلمة أيضاً لتُعبَّر عن دم الحيوانات عموماً [ بل يُرسَلْ إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام، والزنا، والخنوق، والدم … أن تمتنعوا عما ذُبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا، التي إن حَفظتم أنفسكم منها فنِعِمّا تفعلون. كونوا معافين ] (أعمال 15: 20، 29)؛ وتعبر أيضاً عن دم الذبائح بوجه خاص: [ وقد ذكرت بهذا المعنى في عبرانيين حوالي 12 مرة ]
وطبعاً تأتي بشكل أكثر أهمية كتعبير لاهوتي عن دم المسيح، حيث أنها رُبطت مباشرة 25 مرة بأهمية الخلاص بموت ربنا يسوع؛ وأيضاً كإشارة رؤيوية ( 9 مرات ) .
[أ] كلمة αἷμα (دم) ترد كدم إنساني حامل للحياة ومتصل بالجسد :
[ الذين ولدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل ] (يو1: 13)
والتعبير إراقة الدم يُشير إلى موت عنيف لشخص على يد آخرين [ أرجلهم سريعة إلى سفك الدم ] (رو3: 15)
وبالطريقة نفسها دم يسوع يمكن أن يُشير إلى موته العنيف وسفك دمٍ بريء، وهذا ظاهر في اعترافات يهوذا وبيلاطس والشعب وكهنة إسرائيل ورؤسائهم: [ حينئذٍ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دينَ، فندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلاً: قد أخطأت إذ سلَّمتُ دماً بريئاً ] (متى 27: 3 و4)؛ [ فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً، بل بالحري يحدث شغب، أخذ ماءً وغسل يديه قُدام الجمع قائلاً : إني بريء من دم هذا البار! أبصروا أنتم! فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا ] (متى 27: 24 و25)؛ [ فلما أحضروهم (الرسل) أوقفوهم في المجمع فسألهم رئيس الكهنة قائلاً : “أما أوصيناكم وصية أن لا تُعلِّموا بهذا الاسم ؟ وها أنتم ملأتم أورشليم بتعليمكم، وتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان ] (أعمال 5: 28)
وبما إن الله هو وحده رب لكل حياة، لأنه هو الواهب الحياة لكل أحد، فهو الخالق العظيم ولا سلطان لآخر على حياة أحد مهما كان وضعه أو سلطانه الديني أو السياسي أو القضائي [ وليس معنى هذا أن القضاء لا يسري كقانون على أي إنسان، بل الكلام هنا يخص السلطان على حياة الإنسان ]، فالله وحده من يهب الحياة ويأخذها، لأنها منه وإليه ، حتى لو القضاء حكم بعدل بموت إنسان لأنه قاتل، فهو بذلك لا يضع سلطان على النفس بل يحكم حكم العدل حسب الأمر الإلهي ، من قتل يُقتل ، ولكن عن طريق القضاء فقط …
فالله كرب الحياة ومانحها وحده، لذلك فهو من يُسيطر على الدم والحياة الإنسانية، وهو من يقتص للدم الإنساني البريء [ تكوين 9: 5] ، وعلى الأخص دم الشهداء من الأنبياء والرجال الصالحين ومُحبين اسمه المؤمنين به المقتولين ظلماً وعدواناً لأن اسمه عليهم [ وتقولون لو كنا في أيام آباءنا لما شاركناهم في دم الأنبياء . فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء. فاملأوا أنتم مكيال آبائكم … ها أنا أُرسل إليكم أنبياء وحُكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون في مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة. لكي يأتي عليكم كل دمٍ زكي سُفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا ابن براخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحق أقول لكم أن هذا كله يأتي على هذا الجيل ] [ متى 23: 30 – 36 ]
كما نرى في سفر الرؤيا صراخ الأبرار للانتقام لدمهم المراق بسبب بذل حياتهم في سبيل كلمة الله ، وطبعاً الانتقام هنا بمعنى الدينونة الأخيرة وانتهاء الأزمنة ، وليس معنى الانتقام كتشفي أو دفع ثمن ، فالدينونة تأتي على من سفك دم بريء لأن الدم يصرخ إلى الله ، كما قال في العهد القديم لقايين: [ ماذا فعلت صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك ] [ تكوين 4: 10 – 11 ]
[ ولما فتح الختم الخامس رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتُلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم . وصرخوا بصوتٍ عظيم قائلين حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض. فأُعطوا كل واحد ثياباً بيضاً وقيل لهم أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً حتى يَكْمَلَ العبيد رُفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم ] ( رؤيا 6: 10 – 12 )
[ وسمعت ملاك المياه يقول: عادلٌ أنت أيها الكائن والذي كان والذي يكون، لأنك حكمت هكذا، لأنهم سفكوا دم القديسين وأنبياء، فأعطيتهم دماً ليشربوا لأنهم مستحقون
وسمعت آخر من المذبح قائلاً : نعم أيها الرب الإله القادر على كل شيء، حق وعادلة هي أحكامك ] [ رؤيا 16: 5 – 7 ]
[ ثم جاء واحد من السبعة الملائكة … وتكلم معي قائلاً لي : ” هلمَّ فأُريك دينونة الزانية العظيمة الجالسة على المياه الكثيرة التي زنا معها ملوك الأرض وسكر سكان الأرض من خمر زناها ” فمضى بي بالروح إلى البرية ، فرأيت امرأة جالسة على وحش قرمزي مملوء أسماء تجديف … والمرأة كانت متسربلة بأرجوان وقرمز، ومتحلية بذهب وحجارة كريمة ولؤلؤ، ومعها كأس من ذهب في يدها مملوء رَجاسات ونجاسات زناها، وعلى جبهتها اسم مكتوب : ” سرّ بابل العظيمة أم الزواني ورجسات الأرض ”
ورأيت المرأة سَكرَى من دم القديسين ومن دم شهداء يسوع ] [ رؤيا 17 1 – 6 ]
والله سيدين المسكونة بالعدل في الدينونة الأخيرة وينتقم من سافكوا دماء عبيده الذين لم يتوبوا ولم يرجعوا عن فسادهم وتجديفهم العنيد ضد الله وتحدي سلطانة على حياة النفوس:
[ ونظرت لما فتح الختم السادس وإذا زلزلة عظيمة حدثت والشمس صارت سوداء كَمسح من شعر والقمر صار كالدم. ونجوم السماء سقطت إلى الأرض كما تَطرح شجرة التين سُقاطها ( أي الثمر المـتأخر ) إذا هزتها ريح عظيمة. والسماء انفلقت كدرج مُلتف وكل جبلٍ وجزيرة تزحزحا من موضعهما. وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء وكل عبد وكل حُرّ أخفوا أنفسهم في المغاير وفي صخور الجبال وهم يقولون للجبال أسقطي علينا وأخفينا من وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف. لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف ] [ رؤيا 6: 12 – 17 ]
[ وبعد هذا سمعت صوتاً عظيماً من جَمعٍ كثير في السماء قائلاً : ” هللويا الخلاص والمجد والكرامة والقدرة للرب إلهنا، لأن أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها، وانتقم لدم عبيده من يدها ”
وقالوا ثانية : ” ودخانها يصعد إلى أبد الآبدين ” ] [ رؤيا 19: 1 – 3 ]
[ب] والدم يُمكن أن يدل على كامل الشخص في نظر الله:
لأن أي فرد ينبغي أن يُعطي حساباً عن نفسه أمام الله ، لأن كل واحد مسئول عن نفسه وعن خلاصه ، أي تقبله الخلاص بإيمان شخصي واعي وتقديم توبة صادقة وحقيقية وأن يتبع يسوع في نفس الدرب الذي رسمه لنسير فيه ، فلا يوجد مسئول آخر عن حياة الإنسان غير الإنسان نفسه ، لأن للأسف التملص من المسئولية بدأ منذ أول يوم سقط فيه الإنسان عموماً منذ بداية الخلق ، فنسمع صوت آدم وحواء في إلقاء مسئولية السقوط لا على أنفسهم بل على الآخر :
[ وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة:. فنادى الرب الإله آدم أين أنت، فقال : سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. فقال : من أعلمك أنك عُريان. هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها.
فقال آدم : المرأة التي جعلتها معي هي أعطيتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة ما هذا الذي فعلت. فقالت المرأة الحية غرتني فأكلت … ] [ تكوين3: 8 – 13 ]
والقديس بولس ببصيرة روحية نافذة لأعماق النفس ومرضها الدفين ، كشف وشخص المرض ونطق بالحكم حينما كان يكرز ويبشر اليهود ولم يسمعوا بعناد قلب فقال : [ دمكم على رؤوسكم! أنا بريء] [ أعمال 18: 6 ] و [ لذلك أُشهدكم اليوم هذا أني بريء من دم الجميع، لأني لم أؤخر أن أخبركم بكل مشورة الله. احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية … ] [ أعمال 20: 26 ]
وعلى ما يبدو أن القديس بولس كرسول من الله وخادم أمين مُعَيَّن من قِبَل الله كان في ذهنه ما تم كتابته في حزقيال : [ يا بن آدم قد جعلتك رقيباً لبيت إسرائيل فاسمع الكلمة من فمي وأنذرهم [ احترزوا لأنفسكم (الشاهد السابق) ] من قِبَلي. إذا قلت للشرير موتاً تموت وما أنذرته أنت ولا تكلمت (كرقيب مُعَيَّن) إنذاراً للشرير من طريقه الرديئة لإحيائه فذلك الشرير يموت بإثمه أما دمه فمن يدك أطلبه. وإن أنذرت أنت الشرير (كرقيب أمين) ولم يرجع عن شره ولا عن طريقه الرديئة فإنه يموت بإثمه. أما أنت فقد نجيت نفسك. والبار إن رجع عن بِرِه وعمل إثماً وجعلت معثرة أمامه فإنه يموت. لأنك لم تُنذره يموت في خطيته ولا يُذكر بِرِه الذي عمله. أما دمه فمن يدك أطلبه. وإن أنذرت أنت البار من أن يُخطئ البار وهو لم يُخطأ فنه حياة يحيا لأنه أُنذر وأنت تكون قد نجيت نفسك ] [ حزقيال 3: 17 – 21 ]
عموماً نجد أن القديس بولس الرسول الوكيل الأمين على رعية الله أنجز مهمته بإخلاص بإعلان الإنجيل، وكل من خدمهم وارسل لهم رسائل إنذار وتعليم كانوا مسئولين عن حياتهم بالتمام منذ وقت إنذارهم إلى يوم انتقالهم ، وهكذا كل نفس اليوم وصل لها بشارة الإنجيل والإنذار من الهلاك الأبدي ودعوتهم للتوبة هم مسئولين عن أنفسهم ودمهم عليهم !!!
[جـ] التعبير [ دمٍ ولحم ] :
يُصوَرُ ضعف الطبيعة الإنسانية وسرعة زوالها، أي يُعبَّر عن ضعف بشريتنا ، وأيضاً يُعبَّر كتعبير رئيسي في العهد الجديد على الوقوع تحت سلطان عبودية الخطية والموت ، لذلك مكتوب أن دمٍ ولحم لا يرثان ملكوت الله ، وذلك بسبب طبيعة الإنسان الساقطة تحت سلطان الموت الناشئ من تيار الفساد الذي سطا على إنسانيتنا التي سقطت بحريتها وإرادتها ، فتغيرت الطبيعة البشرية من حالة مجد وشركة مع الله في النور ، لحالة من الهوان والظلمة التي لا تقدر أن تتعامل مع الله النور الحقيقي ، لأن عندما يُشرق الله تتبدد الظلمة وتتلاشى ، لذلك قال الله لموسى لا يراني إنسان ويعيش ، لا لأنه يريد أن يُميت الإنسان بل لأن طبيعة ظلمة الإنسان لن تحتمل نور الله وبهاء مجده ، لذلك حينما رأى الشعب لمحة من نور الله على وجه موسى صرخوا ولم يحتملوا فوضع برقع ليستطيعوا النظر إليه !!!
[ فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سُلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين – خوفاً من الموت – كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ] [ عبرانيين 2: 14 – 15 ]
فهذا اللفظ [ دمٍ ولحم ] يُشير لحالتنا الساقطة كمخلوقات (كدمٍ ولحم) ، أي في حالتنا الطبيعية كبشر واقعين تحت سلطان عبودية الخطية لا نستطيع المشاركة في مجد الله : [ إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله ] [1كورنثوس 15: 50]، والذي يرث ملكوت الله الإنسان الجديد النوراني المخلوق حسب الله ، أي المولود من فوق وله طبع سماوي ، أي المولود من الله …
+ مصطلح دمٍ ولحم ورؤية الله ومعرفته الحقيقية وحرب القوات الشريرة:
أيضاً تعبير دمٍ ولحم يوجه قلب الإنسان لمعرفة الله الحقيقية واستعلانه الخاص ، فتعبير دمٍ ولحم يدل على عجز المعرفة الإنسانية لأنها مرتبطة بالخطية ، لذلك يفشل الإنسان في إقامة علاقة مع الله القدوس ولا يقدر بالتالي على معرفته ، لأن الله لا يتعامل مع خطية ، وأيضاً الإنسان في حالة السقوط وسيطرة الخطية على قلبه لا يقدر أن يرى الله أو يتعرف عليه حتى لو اقترب إليه ، لذلك معرفة الله الحقيقية لا تأتي على مستوى اللحم والدم ، بل تأتي برؤية خاصة معلنه من السماء في داخل القلب سراً وكما قال الرب لبطرس حينما قال أنت هو المسيح ابن الله الحي : [ إن لحماً ودماً (حسب الترجمة الحرفية) لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السماوات ] ( مت16: 17 ) .
وهذا يعني بالطبع أن يترك الإنسان نهائياً كل جهد للاستناد على الرؤية الإلهية بالسلطان الإنساني : [ لما سُرَّ الله الذي أفرزني ( اختارني وخصصني ) من بطن أمي . ودعاني بنعمته . أن يُعلن ابنه فيَّ لأُبشر به بين الأمم، للوقت لم استشر لحماً ودماً ] ( غلاطية 1: 15 – 16 ) …
+ تعبير دمٍ ولحم ومعركة الإيمان [ الحرب الروحية ]:
ويأتي نفس التعبير ( دمٍ ولحم ) ليدل على معركة الإيمان مع قوات الشر إذ يظهر أن حربنا الروحية [ ليست مع دمٍ ولحم ] (أفسس6: 12) ، وان لهذه الحرب سلاحها الخاص ، ولا نستطيع إيجاد الأسلحة في قدراتنا النفسية ولا طاقتنا الشخصية أو حتى الفكرية ، ولا في أخلاقنا الشخصية ، ولكن اتكالنا على الله واستنادنا عليه هو سر نصرتنا بسلاحه الكامل:
[ البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس ] (أفسس 6 : 11)
[ من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير و بعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا ] (أفسس 6 : 13)
عموماً الإنسان المسيحي يخوض معركتين، معركة داخلية وأخرى خارجية. ويقول القديس مقاريوس الكبير: [ الإنسان الذي يُريد حقيقة أن يُرضي الله ويكون معادياً حقاً للعدو الشرير، ينبغي أن يُقاتل في معركتين. معركة منهما تكون في الأمور المنظورة لهذه الحياة، وذلك بأن يتحوَّل تماماً ويبتعد من الارتباكات الأرضية ومحبة الارتباطات العالمية ومن الشهوات الخاطئة.
والمعركة الأخرى تحدث في الداخل، في الخفاء ضد أرواح الشرّ نفسها كما يقول الرسول ” فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحم بل مع الرؤساء، مع أجناد الشرّ الروحية في السماويات ” (أفسس6: 12)
فالإنسان حينما تعدى الوصية وطُرد من الفردوس، صار مُقيداً من ناحيتين، وبقيدين مختلفين. أحد هذين القيدين كان عن طريق هذه الحياة، أي في اهتمامات المعيشة ومحبة العالم، أعني محبة الملذات الجسدية والشهوات، ومحبة الغنى والعظمة والمقتنيات … وكل الأشياء الأخرى المتصلة بالحواس، والتي تحثه كلمة الله على أن ينفك باختياره (حيث إن ما يربط أي إنسان بكل أمور الحواس إنما يكون باختياره ورضاه). حتى إذا تحرر من كل هذه الاهتمامات يستطيع أن يحفظ الوصية حفظاً كاملاً .
وإلى جانب هذا الرباط، ففي كيان الإنسان الداخلي، تكون النفس محاصرة بسياج ومربوطة بقيود الظلمة من أرواح الشرّ، فيكون الإنسان غير قادر أن يحب الرب كما يُريد، أو أن يؤمن كما ينبغي، أو أن يُصلي كما يرغب. فمن ناحية توجد مقاومة سواء في الأمور المنظورة والظاهرة أو في الأمور الخفية غير المنظورة، وهذه المقاومة قد نتجت وصارت فينا من سقوط الإنسان الأول .
لذلك فحينما ينصت أي إنسان لكلمة الله ويقبلها، ويدخل في المعركة ويلقي عنه اهتمامات هذه الحياة ورباطات العالم وينكر كل الملذات الجسدية ويتحرر منها، فبعد ذلك إذ يلازم الرب وينتظره في الصلاة وبمداومة، فإنه يصير في وضع يمكنه من أن يكتشف وجود حرب أخرى في داخل قلبه، إنه يكتشف مقاومة خفية وحرب أخرى مع إيحاءات أرواح الشرّ وتنفتح أمامه معركة أخرى.
وهكذا بوقوفه ثابتاً راسخاً إلى الرب بإيمان لا يتزعزع وصبر كثير، منتظراً الحماية والمعونة التي تأتي منه، فإنه يستطيع أن يحصل من الرب على حرية داخلية من القيود والسياجات والهجمات وظلام أرواح الشرّ التي تعمل في مجال الشهوات والأهواء الخفية ] (عظة21 فقرة 1 – 2 )
[د] مفهوم الدم القرباني:
في الأساس موضوع إراقة الدم أو سفك الدم قد استخدمت مرة واحدة في العهد الجديد [ وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم ، وبدون سفك دم لا تحدث مغفرة ] (عبرانيين 9: 22) وهي ترجع في الأثاث إلى ميثاق العهد في سيناء – كما رأينا سابقاً في بداية دراستنا في [خروج 24 : 5 – 8] ومن المؤكد أيضاً أن كلمة إراقة الدم أو سكبه تتضمن أيضاً سكب الدم على قاعدة المذبح [خروج 29: 12 ؛ لاويين 4: 7 ،18 ، 25، 30، 34؛ لاويين 8: 15، 9: 12] ، ويرشه على شعب إسرائيل [خروج 24: 8؛ عبرانيين 9: 19] ، ونجد أن في عبرانيين 11: 28 أن سكب الدم يُشير إلى ذبيحة عيد الفصح [ خروج12: 7، 13، 22 – 23].
عموماً قد أخذ العهد الجديد مفهوم الدم القرباني من العهد القديم [ … هكذا يدخل الكهنة إلى المسكن الأول كل حين صانعين الخدمة. وأما إلى الثاني (قدس الأقداس) فرئيس الكهنة فقط مرة في السنة ليس بلا دم يُقدمه عن نفسه وعن جهالات الشعب … وأما المسيح وهو جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً. لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يُقدس إلى طهارة الجسد. فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يُطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي … موسى بعد ما كلم جميع الشعب بكل وصية بحسب الناموس أخذ دم العجول والتيوس مع ماء وصُوفاً قرمزياً وزوفا ورش الكتاب نفسه وجميع الشعب، قائلاً هذا هو دم العهد الذي أوصاكم الله به. والمسكن أيضاً وجميع آنية الخدمة رشها كذلك بالدم وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم وبدون سفك دم لا تحدث مغفرة … لأنه لا يُمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع الخطايا … وكل كاهن يقوم كل يوم يخدم ويقدم مراراً كثيرة تلك الذبائح عينها التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية … بالإيمان صنع الفصح ورش الدم لئلا يمسهم الذي أهلك الأبكار ] (أنظر عبرانيين 9 ، 10 ، 11: 28 ، 13: 11)
حيث أن دم الذبائح الحيوانية يُشير إلى موت المسيح الكفاري الذي صنع الصلح بدم صليبه الذي يعطي المغفرة والتقديس عن قوة واقتدار، مؤسساً سلام مع الله قائم على ذبيحة ذاته لا يتزعزع، ويُدعم العلاقة مع الله بشخصه، إذ اتحد بنا وجعلنا واحداً معه (بلا امتزاج أو اختلاط أو تغيير) بتجسده وصلبنا معه وداس الموت بموته وأقامنا معه وأصعدنا معه ، ودخل بدم نفسه للأقداس فوجد لنا فداءً أبدياً كما قال القديس بولس الرسول …
فدم يسوع المسيح يحتل المركز الأول والرئيسي في العهد الجديد ، فنجد عند افتتاح رسالة القديس بطرس الأولى يقول : [ بطرس رسول يسوع المسيح إلى المتغربين من شتات بُنْتُس وغلاطية وكَبودوكية وآسيا وبيثينية المُختارين بمقتضى على الله الآب السابق في تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح . لتكثر لكم النعمة والسلام ] (1بطرس 1: 1 – 2)
ونجد أيضاً الإشارات الكثيرة مصحوبة بكلمات توضح قوة فعل دم يسوع المسيح وقوته وتفوقه بل وتميزه عن العهد القديم الذي كان يُشير إليه بكل طقوسه وذبائحه فيأتي كمصطلح تأكيدي على دم المسيح هكذا : [ دم يسوع (عب10: 19 ؛ 1يو 1: 7) ؛ دم المسيح (1كو 10: 16 ؛ أف2: 13 ؛ عب9: 14) ؛ دم الرب(1كو11: 27) ؛ دم الحمل (رؤ7: 14 ؛ 12: 11) ] وكل هذا يشتق معناه في الأساس من ذبائح يوم التكفيرمن (لاويين 16). وهو دم قرباني والذي يتمثل في طاعة ربنا يسوع المسيح في الجسد للآب [ لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة، هكذا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً ] (رومية5: 19) ؛ [ وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ] (فيلبي2: 8) ؛ [ مع كونه ابناً تعلم الطاعة مما تألم به ] (عبرانيين5: 8)
وأيضاً هو الذي أعطى الذبيحة الحقيقية من أجل إزالة الخطايا وطمس ملامحها الخفية والظاهرة بكل سلطانها وآلامها ومعاناتها وأعطى المصالحة التامة والكاملة مع الله بحيث لا يعوزنا أن نقدم أي شيء آخر لله حتى ولو كانت أعمالنا ، لأنه بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس : [لا بإعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني و تجديد الروح القدس (تي 3 : 5) ] وذلك بالطبع لأن [ المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة فبالمسكن الأعظم والأكمل غير مصنوع بيد ، أي الذي ليس من هذه الخليقة. وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً ] (عبرانيين9: 11 و12)
* عموماً يسوع بدمه الطاهر حررنا نحن بصفتنا شعب الله الجديد ، أي الكنيسة ، الذي اقتناها بدمه الكريم [ احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي أقتناها بدمه ] (أعمال 20: 28) ، وصار لنا فيه الفداء [ الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته ] (أفسس 1: 7) ، [ عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى ، بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء بل بدمٍ كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح ] (1بطرس 1: 18 – 19) ، [ وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين : مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمه ] (رؤيا 5: 9) ، وصار لنا به قوة الغلبة والنصرة الدائمة على عدو الإنسان الأول أي الشيطان [ الآن صار خلاص إلهنا وقدرته ومُلكه وسلطان مسيحه لأنه طُرح المُشتكي على إخوتنا الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً ، وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت ] (رؤيا 12: 10 ، 11)
ودم المسيح يظهر برّ الله من أجل الصفح عن الخطايا وتطهير القلب منها ، ويبرر كل من يؤمن ، وينال قوة خلاص ومصالحة أبدية مع الله [ متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح ، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله ، لإظهار برّه في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هم من الإيمان بيسوع ] (رومية 3: 22 – 26) ، [ فإذ تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح … لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين (حسب التدبير) لأجل الفجار … الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا . فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب . لأنه إن كُنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه فبالأولى كثيراً ونحن مُصالحون نخلص بحياته . وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المُصالحة ] (أنظر رومية 5: 1 – 11)
ودم ربنا يسوع يطهرنا من خطايانا دائماً عندما نعترف بها أمامه [ ولكن أن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية . إن قلنا أنه ليس لنا خطية نُضل أنفسنا وليس الحق فينا . أن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويُطهرنا من كل إثم ] (1يوحنا 1: 7 – 9) ، [ يسوع المسيح الشاهد الأمين البكر من الأموات ورئيس ملوك الأرض الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه ] (رؤيا 1: 5) ، [ وأجاب واحد من الشيوخ قائلاً لي : هؤلاء المتسربلون بالثياب البيض من هم ومن أين أتوا ، فقلت له يا سيد أنت تعلم . فقال لي : هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف ] (رؤيا 7: 13 – 14)
ودم المسيح أيضاً يطهر ضمائرنا ويغسلها من كل الأعمال الميتة حتى أنها لا تلومنا ونخدم الله الحي [ فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي ] (عبرانيين 9: 14) ، [ فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع . طريقاً كرسه لنا حديثاً حياً بالحجاب أي جسده ، وكاهن عظيم على بيت الله ، لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي ] (عبرانيين 10: 19 – 22) ، [ وهم مطهرون مرة لا يكون لهم أيضاً ضمير خطايا ] (عب 10 : 2)
ولنلاحظ أن في العهد القديم ، كانت المصالحة والتطهير مختلفان ، ولو أن كانت لهما ذات العلاقة والأعمال . فالمصالحة تُنتج من تقديم الدم القرباني إلى قدس الأقداس في يوم التكفير الذي يتم مرة واحدة في السنة [ فرئيس الكهنة فقط مرة في السنة ليس بلا دم يقدمه عن نفسه و عن جهالات الشعب ] (عب 9 : 7) ،؛ أما التطهير فكان من الممكن بلوغه في أي وقت من السنة ، وكان يتم خارج قدس الأقداس . أما في العهد الجديد فكلاهما يتمان في الخلاص بدم المسيح ، فالكفارة قدمت مرة واحدة وإلى الأبد بذبيحة ربنا يسوع ، الذي منها يتم تطهيرنا الدائم وإلى الأبد ، ففي دم يسوع تكمن قوة التقديس [ فأن الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية إلى الأقداس بيد رئيس الكهنة تُحرق أجسامها خارج المحلة ، لذلك يسوع أيضاً لكي يُقدس الشعب بدم نفسهتألم خارج الباب ] (عبرانيين 13: 11 – 12)
وهو صار يحقق لنا القرب من الله بشكل أعمق واشمل من العهد القديم بالرغم من أننا كأمم لم يكن لنا عهود ولا معرفة بالله حتى على مستوى الطقس القديم الذي هيأ القلب لعمل المسيح الرب وقد كنا غرباء عن رعوية إسرائيل كشعب الله المختار [ لذلك أذكروا أنكم أنتم الأمم قبلاً في الجسد المدعوين غُرله من (الإسرائيليين) المدعو ختاناً مصنوعاً باليد في الجسد . أنكم كُنتم في ذلك الوقت بدون مسيح أجنبيين عن رعوية إسرائيل وغرباء عن عهود الموعد لا رجاء لكم وبلا إله في العالم ، ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح . لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط(بين الأمم وشعب الله) أي العداوة . مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً . ويُصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به . فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين ، لأن به كلينا قدُماً في روح واحد إلى الآب . فلستم إذاً بعد غرباء ونُزلاء رعية مع القديسين وأهل بيت الله ] (أفسس2: 11 – 19) ، [ فإذ لنا أيها الإخوة ثقة (على أساس سر المصالحة في المسيح) بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع ] (عبرانيين 10: 19)
وفي الجزء القادم سنتكلم عن
الدم في العهد الجديد وبعض المصطلحات التي تدل عليه
وتعدد أنواع الذبائح وغايتها وكيفية تقديمها عملياً