(جـ) الذبائح الدموية والتقدمات الطعامية
الدم ومعناه في العهد القديم ومعنى مصطلح ولي الدم
للرجوع للجزء الحادى عشر أضغط هنا.
[جـ] الذبائح الدموية والتقدمات الطعامية :
لابد أولاً أن نفهم معنى سفك الدم في مفهوم الشعوب وفي الكتاب المقدس، لنقدر أن نستوعب المعنى المقصود ونفرق ما بين فعل الشعوب القديمة وبين عمل الله والفكر الإلهي الصحيح:
[1]كقاعدة عامة كانت الذبائح تتمركز حول الدم بكونه يُمثل النفس، ففي الأزمنة المبكرة قد اُستخدمت الكلمةαἷμα – Haima (دم) بشكل فسيولوجي كحامل الحياة، وقوة الحياة. وهو كان يعتبر شرط لكل من الحياة البشرية والحيوانية، حتى أنه دل مجازاً – عند كثير من الشعوب القديمة على النسل، وذلك لكون الدم يُعتبر هو أساس الحياة، وقد أصبح مصطلح [ يُريق دماً ] مرادفاً لـ [ القتل ]، وسفك الدم يعني إهدار حياة، وكان يعتبر خطية عظمى، وخطية سفك الدم [ القتل ] يلزم أن يُكفر عنها بالدم…
تكتسب كلمة [αἷμα – Haima دم ] أهمية خاصة في الاستخدام الديني عند جميع الشعوب قديماً، وبعض الديانات المتخلفة من الشعوب القديمة، لأنه العنصر الأكثر أهمية في القرابين. فالدم القرباني أُعتبر بمثابة امتلاك التقوى وتطهير النفس، فطقوس الدم المتعددة عند شعوب الأمم القديمة، من شرب أو رش الدم، استخدمت خصوصاً في الطقوس السحرية لجلب المطر أو لجلب الرفاهية أو المحبة أو الأذى… الخ … وتتنوع الفكرة حسب فلسفة كل ديانة وثنية قديمة !!!
وكان شرب الدم، خاصة دم العدو المقتول، كان يُعتقد أنه يجلب القوة ويعطي هبة النبوءة، وأيضاً أحياناً يُضع في كأس ويتشارك فيه الذين يريدون أن يقيموا عهداً للتأكيد على عهدهم الذي لن ينحل أو ينقض !!!
[2] يرى العهد القديم أن الدم أساس الحياة: [ غير أن لحماً بحياته دمه لا تأكلوه ] ( تكوين 9: 4 ) & [ لأن نفس الجسد هي في الدم، فأنا أعطيتكم إياه على المذبح للتكفير عن نفوسكم، لأن الدم يُكفر عن النفس، لذلك قلت لبني إسرائيل: لا تأكل نَفس منكم دماً، ولا يأكل الغريب النازل في وسطكم دماً… لأن نفس كل جسد دَمُهُ هو بنفسه. فقلت لبني إسرائيل لا تأكلوا دم جسدٍ ما. لأن نفس كل جسد هي دمه. وكل من أكله يُقطع ] ( لاويين 17: 11 – 12 و 14 ) & [ لكن احترز أن لا تأكل الدم لأن الدم هو النفس فلا تأكل النفس مع اللحم ] ( تثنية 12: 23 )
وهذا كله ينبه عليه الله، لكي لا يُشابه شعب إسرائيل الأمم، والذين يعتقدون أن لهم السيادة على كل نفس حيوان أو إنسان، فالله هو الإله الواحد الوحيد وسيد الحياة وواهبها ومُعطيها، وهو ذو السيادة المطلقة على الدم وحياة البشر [ حي أنا يقول السيد الرب …. ها كل النفوس هي لي.. ] ( حزقيال 18: 4 وما قبلها وما بعدها ) ، لذلك فهو يُجازي لأجل إراقة الدم البريء: [ وأطلب أنا دَمَكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان أطلبه. ومن يد الإنسان أطلب نَفس الإنسان. من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يُسفك دمه. لأن الله على صورته عمل الإنسان ] ( تكوين 9: 5 – 6 )
[ ظُلمي ولحمي على بابل تقول ساكنة صهيون ودمي على سكان أرض الكلدانيين تقول أورشليم. لذلك هكذا قال الرب: هَأ نَذَا أُخاصم خصومتك وأنتقم نقمتك وأُنشف بحرها وأجفف ينبوعها ] ( إرميا 51: 35 – 36 )
ويعود أيضاً الدم الحيواني إلى الله، بصفته الخالق العظيم، الذي له كل الخليقة، لذلك كان يأمر في سفر اللاويين عند ذبح أي حيوان يُسفك دمه: يُغطى بالتراب، كعلامة أن النفس هي لله، لأنه هو واهب الحياة، وذلك كاحترام للحياة التي أعطاها الله لكل الخليقة: [ وكل إنسان من بني إسرائيل و من الغرباء النازلين في وسطكم يصطاد صيدا وحشا أو طائرا يؤكل يسفك دمه ويغطيه بالتراب ] ( لاويين 17 : 13)
واستهلاك الدم مُحرم مع الشحم أيضاً [ فريضة دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم: لا تأكلوا شيئاً من الشحم ولا من الدم ] ( لاويين 3: 17 ) & [ وكل دم لا تأكلوا في جميع مساكنكم من الطير ومن البهائم. كل نفس تأكل شيئاً من الدم تُقطع تلك النفس من شعبها ] ( لاويين 7: 26 – 27 ) & [ وكل إنسان من بيت إسرائيل ومن الغرباء النازلين في وسطكم يأكل دماً، أجعل وجهي ضد النفس الآكلة الدم وأقطعها من شعبها ] ( لاويين 17: 10 ) & [ لكن احترز أن لا تأكل الدم لأن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم ] ( تثنية 12: 23 )
+ [ وثار الشعب على الغنيمة فأخذوا غنماً وبقراً وعجولاً وذبحوا على الأرض وأكل الشعب على الدم. فأخبروا شاول قائلين هوذا الشعب يُخطئ إلى الرب بأكله على الدم. فقال قد غدرتم. دحرجوا إليَّ الآن حجراً كبيراً. وقال شاول تفرقوا بين الشعب وقولوا لهم أن يقدموا إلىَّ كل واحد ثوره وكل واحد شاته واذبحوا ههنا وكلوا ولا تخطئوا إلى الرب بأكلكم مع الدم … ] ( 1 صموئيل 14 : 32 – 34 ) .
الدم قوة تطهير وتقديس: يعتبر الدم في العهد القديم قوة مطهرة ويقدم للتكفير عن النفس، لذلك يتم رشه على المذبح وتقديس به كل شيء تقريباً: [ فتذبح الكبش وتأخذ دمه وترشه على المذبح من كل ناحية؛ يضع يده على رأس قربانه ويذبحه لدى باب خيمة الاجتماع ويرش بنو هارون الكهنة الدم على المذبح مُستديراً ] (خروج 29: 16 ؛ لاويين 3: 2)
ويستخدم لتقديس الكهنة وملابسهم: [ فتذبح الكبش وتأخذ من دمه وتجعل على شحمه أُذن هرون وعلى شحم آذان بنيه اليُمنى وعلى أَبَاهِم [ إبهام اليد ] أيديهم اليُمنى وعلى أَبَاهِم أرجلهم اليُمنى. وترش الدم على المذبح من كل ناحية. وتأخذ من الدم الذي على المذبح ومن دهن المسحة وتنضح على هارون وثيابه وعلى بنيه وثياب بنيه معهُ. فيتقدس هو وثيابه وبنوه وثياب بنيه معهُ ] (خروج29: 20 – 21)
ويُستخدم للتكفير وهي أهم نقطة يركز عليها العهد القديم: ( ولا ننسى عند خروج شعب إسرائيل من مصر كيف عبر الملاك المهلك ولم يمس بكر كل من وضع الدم على العتبة العليا والقائمتين، إذ رأى الدم فعبر، لأن الدم كفر عن كل بكر وصار علامة خلاص [أنظر خروج 12: 21 – 28]
[ ويقرب هارون ثور الخطية الذي لهُ ويُكفرّ عن نفسه وعن بيته… ثم يأخذ من دم الثور وينضح بإصبعه على وجه الغطاء (غطاء تابوت العهد) إلى الشرق وقُدام الغطاء ينضح سبع مرات من الدم بإصبعه .
ثم يذبح تيس الخطية الذي للشعب ويدخل بدمه إلى داخل الحجاب ويفعل بدمه كما فعل بدم الثور: ينضحه على الغطاء وقدم الغطاء فيُكفِرّ عن القدس من نجاسات بني إسرائيل ومن سيآتهم مع كل خطاياهم. وهكذا يفعل لخيمة الاجتماع القائمة بينهم في وسط نجاساتهم، ولا يكن إنسان في خيمة الاجتماع من دخوله للتكفير في القدس إلى خروجه، فيُكَفَّرُ عن نفسه وعن بيته وعن كل جماعة إسرائيل، ثم يخرج إلى المذبح الذي أمام الرب ويكفر عنه، يأخذ من دم الثور ومن دم التيس ويجعل على قرون المذبح مستديراً . وينضح عليه من الدم بإصبعه سبع مرات ويطهره ويقدسه من نجاسات بني إسرائيل ] (لاويين 16: 6 ، 14 – 19)
[ ثم تقدموا بتيوس ذبيحة الخطية أمام الملك والجماعة ووضعوا أيديهم عليها ، وذبحها الكهنة وكفروا بدمها على المذبح تكفيراً عن جميع إسرائيل لأن الملك قال أن المحرقة وذبيحة الخطية هما عن كل إسرائيل ] (2أخبار أيام 29: 23 – 24) ، وللتطهير وتقديس الشعب [ أنظر لاويين 14 ، خروج 29: 20 – 21 ]
ومن أهم استخدام للدم هو الدخول في العهد، ويُسمى: ( دم العهد ) [ فأخذ موسى نصف الدم ووضعه في الطسوس، ونصف الدم رشه على المذبح، وأخذ كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب. فقالوا كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع لهُ، وأخذ موسى الدم ورش على الشعب وقال: هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال ] (خروج 24: 6 – 8)
عموماً نجد أن هذا المفهوم عن الدم [ أي التقديس والتكفير والتطهير ] قد استمر في الفكر اليهودي بلا توقف حتى بعد ظهور ربنا يسوع في ملئ الزمان حسب التدبير، وكان تعبير لحمٍ ودم هو وصف مثالي للبشر في هذه الفترة، واعتقد أن هذا التعبير موجود إلى اليوم في ذهن الكثيرين …
+ مصطلح ولي الدم ومعناه: وهو تعبير ظهر في العصور القديمة وهو يعني: أنه إذا قتل إنسان، إنسان آخر، يُصبح الأقرب للقتيل الحق في أن يقتل القاتل، وكان يُطلق على هذا القريب [ ولي الدم ].
وربما هذا الأمر يعود في الأصل إلى ما أمر به الله نوحاً بعد الطوفان: [ من يد الإنسان أطلب نفس الإنسان. من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يُسفك دمه. لأن الله على صورته عمل الإنسان ] (تكوين 9: 5و6 ) .
وكانت هذه قاعدة سائدة بين كثير من الشعوب والقبائل من جهة القضاء والحكم. وبمرور الزمن شملت هذه القاعدة القاتل المتعمد والقاتل سهواً أي الذي قتل عن دون قصد أو دراية، وللأسف تحول الموضوع من قاعدة قانونية لشكل فوضوي ثأري ، فكان الأخذ بالثأر سبباً في استمرار النزاع بين الأفراد والقبائل بشكل دموي مستمر عبر الأجيال ولا يتوقف !!!
وقد نظمت الشريعة في العهد القديم هذا الحق وحدت منه، إذ فرقت ما بين القتل المتعمد والقتل السهو، ووضعت أمام القاتل غير المتعمد ( أي القاتل سهواً ) منفذاً للنجاة. فأمر الله بتعيين مدن ملجأ [ ليهرب إليها القاتل الذي قتل نفساً سهواً ليهرب إليها حتى يقف أمام الجماعة للقضاء… فتقضي الجماعة بين القاتل وبينولي الدم حسب هذه الأحكام. وتنقذ الجماعة القاتل (سهواً) من يد ولي الدم وترده الجماعة إلى مدينة ملجأه التي هرب إليها، فيُقيم هُناك إلى موت الكاهن العظيم… وأما بعد موت الكاهن العظيم، فيرجع القاتل (سهواً) إلى أرض ملكه ] (عدد 35: 11 – 34 )، فبموت الكاهن العظيم تعتبر القضية منتهية تماماً ويصبح القاتل سهواً حُراً
[ وهذا هو حكم القاتل الذي يهرب إلى هناك (مدن الملجأ) فيحيا، من ضرب صاحبه بغير علم وهو غير مُبغض له منذ أمس وما قبله. ومن ذهب مع صاحبه في الوعر ليحتطب حطباً فاندفعت يده بالفأس ليقطع الحطب وأفلت الحديد من الخشب وأصاب صاحبه فمات فهو يهرب إلى إحدى تلك المدن فيحيا لئلا يَسعى ولي الدم وراء القاتل حين يحمى قلبه ويدركه إذا طال الطريق ويقتله وليس عليه حكم الموت لأنه غير مبغض له منذ أمس وما قبله . لأجل ذلك أنا آمرك قائلاً ثلاث مُدن تفرز لنفسك … فزد لنفسك أيضاً ثلاث مُدن على هذه الثلاث. حتى لا يُسفك دم بريء في وسط أرضك التي يُعطيك الرب إلهك نصيباً فيكون عليك دم ]، ويتكلم الله في يشوع على أهمية هذه المدن والتقنين القضائي للقاتل السهو: [ فيهرب إلى واحدة من هذه المدن ويقف في مدخل باب المدينة ويتكلم بدعواه في آذان شيوخ تلك المدن فيضمونه إليهم إلى المدينة ويعطونه مكاناً فيسكن معهم . وإذا تبعه ولي الدم فلا يسلموا القاتل (سهواً) بيده لأنه بغير علم ضرب قريبه وهو غير مبغض له من قبل، ويسكن في تلك المدينة حتى يقف أمام الجماعة للقضاء إلى أن يموت الكاهن العظيم الذي يكون في تلك الأيام . حينئذ يرجع القاتل (سهواً) ويأتي إلى مدينته وبيته إلى المدينة التي هرب منها ] [ أنظر تثنيه 19: 4 – 13 ؛ يشوع 20: 1 – 9 ]
وفي الجزء القادم سنتكلم عن
الدم في العهد الجديد وبعض المصطلحات التي تدل عليه