كيف احتدم النقاش حول آراء داروين؟ وكيف كانت أيامه الأخيرة؟
كيف احتدم النقاش حول آراء داروين؟ وكيف كانت أيامه الأخيرة؟
كيف احتدم النقاش حول آراء داروين؟ وكيف كانت أيامه الأخيرة؟
226- كيف احتدم النقاش حول آراء داروين؟ وكيف كانت أيامه الأخيرة؟
ج: أصدر داروين سنة 1859م كتابه ” أصل الأنواع بواسطة الانتقاء الطبيعي ” وفي هذا الكتاب أنكر داروين خلقة كل نوع منفصلًا، فقال في مقدمة كتابه ” فليس لدي أي شك، بعد قيامي بكل ما في استطاعتي من دراسة متأنية واجتهاد هادئ ونزيه، في أن وجهة النظر التي دأب معظم علماء التاريخ الطبيعي على إتباعها إلى وقت قريب، والتي سبق لي إتباعها في الماضي، ألا وهي، أن كل نوع حي قد تم خلقه بشكل مستقل، ما هي إلاَّ وجهة نظر خاطئة”(1)
ولم يتعرض داروين في هذا الكتاب للعلاقة بين القرد والإنسان، ولكنه تعرَّض لهذه العلاقة في كتابه الثاني ” نشأة الإنسان ” The Descent of man الذي نشره سنة 1871م، وقد أثار كتاب داروين عن أصل الأنواع جدلًا كبيرًا بين مؤيد ومعارض، وكان ” ف. هـ. هاكسلي” (وهو جد العالِم جوليان هاكسلي) من الذين كتبوا في جريدة التايمز يؤيدون آراء داروين، وفي مؤتمر تقدم العلوم البريطاني بمدينة أكسفورد حدثت مناقشة حادة بين هاكسلي وصموئيل ولبرفورس أسقف أكسفورد الذي سأل هاكسلي ساخرًا:
“هل يسمح السيد هاكسلي أن يخبرنا: هل كان القرد أحد أجداده لأمه أو أبيه؟ فاحتد هاكسلي عليه، وختم كلامه بقوله: وعلى أية حال فإني أفضل أيها السيد أن يكون القرد جدًا من أجدادي عن أن يكون جدي أسقفًا مثلك”(2) ولوح ” متزوري ” ربان السفينة ” بيجل ” بالإنجيل وسط القاعة، لاعنًا اليوم الأسود الذي وافق فيه أن يحمل داروين على ظهر سفينته.
وكان داروين يعتمد على الحذق وبراعة الأسلوب أكثر من تماسك الحجج، فيقول د. موريس بوكاي ” لقد قدم داروين حججه بطريقة بارعة، وغالبًا ما يكون الحذق والبراعة أكثر تأثيرًا من تماسك الحجج وصحتها.
كما ينبغي ألا نغفل ارتياح (رضاء) علماء معينين ممن أسرعوا باستخدام نظرية داروين في التشكيك في تعاليم التوراة في شأن أصل الإنسان وثبات الأنواع. والواقع أنه في مجال تطور الأنواع، استخدمت نظرية داروين في إثبات انحدار الإنسان من سلالة القردة الكبيرة، وحقيقة الأمر أن الأصل الحيواني للإنسان واحدة من بنات أفكار هيجل Haeckel التي قدمها في سنة 1868م”(3).
أما الدكتور كمال شرقاوي غزالي فقد كتب تحت عنوان أول القصيدة كُفر ” كان عنوان الكتاب.. {أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي أو بقاء السلالات الصالحة في الصراع من أجل البقاء} لقد تضمن العنوان فضلًا عن طوله، غلطة كبيرة، وبه نقص مُبين.
فالعنوان يشير إلى أصل الأنواع، ولكن داروين لم يقصد الأصل أي النشوء، وإنما قصد تأصل الأنواع وتوطد وجودها بعد نشوئها فعلًا، هذا هو الخطأ. أما النقص فهو أسوأ من ذلك، وهو إنه لم يعرف النوع الذي يتحدث عنه (جراهام كانون 1958م).. أما من ناحية مضمون الكتاب فلا يُخفى عن أي مُطلع أسلوبه الثقيل غير الشيق وامتلاء فصوله بالتخبط البالغ في التفكير والحشو الغزير الذي لا يمت بصلة إلى موضوع الكتاب، وبرغم ما في العنوان والمضمون من أخطاء وعيوب إلاَّ أن الكتاب قد صار فور صدوره من أروج المؤلفات”(4).
وفي أواخر أيامه اعتزل داروين البحث الشاق، وتفرغ لكتابة مذكراته، وفي نوفمبر 1877م تسلم داروين درجة الدكتوراة الفخرية من جامعة كمبردج، وسار في ردائه القرمزي مع عميد كلية كريست إلى أن وصلا إلى قاعة الاجتماع بين عاصفة من الترحيب، وفي نفس اليوم أقامت الجمعية الفلسفية بكمبردج حفل عشاء بهذه المناسبة..
ولكن داروين اعتذر عن الحضور لشيخوخته، وفي 19 أبريل سنة 1882م مات شارلز روبرت داروين عن ثلاثة وسبعين عامًا، وحضر جنازته الذين شايعوه وأيدوه والذين عارضوه، مع القادة ورجال الفكر والسياسة، وحمل جثمانه عشرة من كبار العلماء منهم اثنان من الأسرة المالكة، ودُفن داروين يوم 24 من نفس شهر أبريل في مقبرة الخالدين بكنيسة وستمنستر، بجوار إسحق نيوتن..
وقال عنه هاكسلي “منذ تلخيص أرسطو للعلوم البيولوجية إلى وقتنا هذا، لم يأت بشر بعمل أعظم من كتاب أصل الأنواع لداروين في شرح ظواهر الحياة وربطها حول فكرة السياسة (5) وقالت عنه مجلة التايمز ” كان فريدًا بين رجال العصر، ولم يكن له ند من العلماء جميعًا سوى نفر يسير من المكتشفين” (6) بينما قال عنه د. موريس بوكاي ” وقد كان داروين دائمًا وثنًا من أوثان الترسانة الإلحادية، كان دائم الاستعداد لدعم أية أفكار تدعم ما يذهبون إليه”(7).
ومما يُذكر أن إلن هوايت نبية الأدفنتست السبتيين رغم ضلالها في أمور كثيرة (راجع كتابنا: الأدفنتست.. ظلمة الموت) إلاَّ أنها تصدَّت لنظرية داروين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
ورفعت راية نظرية الخلق الإلهي، ومن أتباعها ” جورج ماك كريدي ” الرجل العصامي الذي علَم نفسه بنفسه، وفي سنة 1902م نشر كتابه ” الخطوط العريضة للمسيحية المعاصرة ” دافع فيه بالأدلة العلمية عن نظرية الخلق الإلهي، وجاء في مجلة العلم ” وبحلول منتصف العشرينيات لقى ماك كريدي – وكان وقتها أستاذًا للجيولوجيا في يونيون كوليدج في نبراسكا – إشادة كبيرة في الولايات المتحدة باعتباره الناقد الأول لنظرية داروين”(8)..
” واجهت نظرية داروين تحديات عديدة منذ أن كُشِف عنها النقاب قبل حوالي 150 سنة في كتاب ” أصل الأنواع ” وكان أقسى الهجوم يأتي من اليمين المسيحي المتشدد في الولايات المتحدة منذ حوالي قرن.
سنَّ أعضاء كنيسة اليوم السابع الأدفنتستية ما أصبح يُعرف فيما بعد باسم ” حركة الخلق ” التي تصر على أن كل شيء على سطح الأرض خلقه الله في فترة لا تزيد عن 4004 سنوات قبل الميلاد، وسعى أصحاب نظرية الخلق إلى إثبات خطأ نظرية التطوُّر بالقول بأنها لا يمكن أن تشرح عددًا كبيرًا من الظواهر الغريبة والغامضة في حياتنا. وأدى ذلك بالتالي إلى ظهور نظرية التصميم الذكي”(9).
والحق أنه رغم ما نتج عن نظرية داروين من إلحاد ومآسي كما رأينا في الفصل الأول، فإن داروين كان متمسكًا بعقيدته المسيحية، فيقول دكتور كمال شرقاوي غزالي ” ولم يفقد داروين نفسه في سبيل نظرية التطوُّر، ويتنحى عن عقيدته الأصلية المسيحية، كما فعل كثيرون ممن أُعجبوا وفتنوا بنظريته، وعلى الرغم من موقف رجال الدين منه ومن نظريته التي تتعارض مع فكرة الخلق فقد دُفن داروين في كنيسة وستمنستر.
كان البعض من المفتونين بسحر النظرية يساهمون في تفسير بعض الأمور المتعلقة بها، فعملوا على إدماج الفروض العلمية في هيئة دين، ومن هنا نمت شجرة الكفر والإلحاد، واستهوى ذلك الكثيرين ليستظلوا بظلها أمثال أبسن، وويلز، وبرجسون، وبرنارد شو”(10) كما كان داروين في أواخر حياته شغوفًا بقراءة الكتاب المقدَّس فيقول المتنيح العلامة الأنبا ايسوذورس ” أما داروين الذي هو عمدة القائلين بتحويل الأنواع فلم ينكر وجود الخالق بل أقرَّ به لأنه قال: إني متيقن أن للكون ربًا وإن إثباته والمناداة به من أعظم الفروض، وأنا مؤمن أن ذلك الرب خلق العالم..
وقد وقفت ” الليدي هوب ” Lady Hope وهي إحدى شريفات الإنجليز وامرأة نقية وسط مؤتمر نورثفيلد الديني بأمريكا، وذكرت حادثة شهدتها بعينها، وقد نقلتها عنها جريدة الراكب الممتحن الأمريكية وهي: في ذات يوم عصر خريفي جميل الطقس طُلب مني أن أدخل وأجلس مع الأستاذ تشارلز داروين، وكان قد مضى عليه بضعة شهور ملازمًا الفراش قبيل وفاته..
فلما دخلت عليه وجدته جالسًا على فراشه ولابسًا قفطانًا أرجوانيًا مزركشًا ومزينًا بألوان جميلة وحوله المخدات الحريرية تسنده، وكان يشخص ببصره إلى الغابات وحقوق الحنطة، فسرَّ عندما دخلت عليه وأشار بيده الواحدة إلى النافذة التي كان ينظر منها إلى ذلك المنظر البديع، بينما كان يمسك بيده الأخرى الكتاب المقدَّس الذي كان يطالع فيه على الدوام مدة ملازمته للفراش، فلما جلست بجانب فراشه ابتدرته بالسؤال ماذا تقرأ يا أستاذ؟ فأجابني: العبرانيين وهو السفر الملوكي، ألا ترينه ملوكيًا وعظيمًا بالحق؟
ثم وضع إصبعه على بعض الأعداد وأخذ يقرأ ويشرح، فأشرت إلى بعض أفكار الناس عن الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، فظهر عليه الملَّل والضجر وحرك أصابعه بسرعة وانفعال وقال بصوت الحزين الآسف {لما كنت صغيرًا لم يكن لي فكر خاص، فنبذت عني كل المباحثات والأسئلة والظنون وكنت أتعجب كل الوقت من كل شيء، ولزيادة دهشتي انطلقت أفكاري هذه كالنار بين الناس وسرعان ما كونوا منها دينًا غير ديني}.
ثم صمت (داروين) ونطق بجمل مختصرة عن قداسة الله وعظمة الكتاب المقدَّس وهو ينظر إلى الكتاب الذي بيده ويشير إليه. ثم قال فجأة {لي بيت صيفي في تلك الحديقة يسع نحو ثلاثين رجلًا إنه هناك أمامنا} ثم أشار بإصبعه نحوه وقال {فأرغب إليكِ من كل قلبي أن تذهبي إليه، وتعقدي اجتماعًا دينيًا لأني أعرف أنكِ تعقدين اجتماعات دينية في القرى لقراءة الكتاب المقدَّس، فآمل أنك غدًا بعد الظهر تعقدين اجتماعًا للعمال الذي يشتغلون هناك والمستأجرين والقاطنين في تلك الجهة والجيران أيضًا، فهل تعديني أنكِ تفعلين هذا؟} فقلت هل أخاطبهم عن..؟
فقاطعني بسرعة وقال بصوت واضح {عن يسوع المسيح} ثم خفض صوته وقال {وعن خلاصه.. أليس هو أفضل موضوع؟ ثم أريد أن ترتلي معهم بعض التراتيل، وأن تدقي لهم على الآلة الموسيقية التي تخصك} ولا أنسى لمعان وجهه والارتياح الذي بدأ عليه عندما قال هذه الكلمات ثم أردف {إذا ابتدأت بالاجتماع الساعة الثالثة بعد الظهر فإن هذه النافذة ستكون مفتوحة، وتأكدي إني أشترك معكم في التراتيل}”(11)
ومما يذكر عن داروين دفاعه عن المبشرين المسيحيين الذين تعرضوا لانتقادات حادة في إنجلترا، مستشهدًا بمدى تأثير المبشرين على سلوك النيوزيلانديين الذين عاشوا في جهل وغش وسكر وفحشاء وحروب وقتل الأطفال والذبائح البشرية، ولكن الإيمان بالمسيح أنار حياتهم(12).
_____
(1) أصل الأنواع ص 60.
(2) د. أنور عبد العليم – قصة التطوُّر ص 57.
(3) ما أصل الإنسان؟ ص 44.
(4) التطوُّر بين الضلال وممارسة حق النقد ص 44، 45.
(5) د. أنور عبد العليم – قصة التطوُّر ص 70، 71.
(6) المرجع السابق ص 71.
(7) ما أصل الإنسان؟ ص 45.
(8) مجلة العلم عدد 345 – يونيو 2005م ص 34.
(9) مجلة العلم عدد 352 – يناير 2006م ص 40.
(10) التطوُّر بين الضلال وممارسة حق النقد ص 29، 30.
(11) الإخاء والسلم بين الدين والعلم ص 58 – 61.
(12) راجع كتابنا: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها جـ 1 ص 54، 55.