ما هي الأسس التي بني عليها داروين نظريته في الانتخاب الطبيعي؟
224- ما هي الأسس التي بني عليها داروين نظريته في الانتخاب الطبيعي؟
نظرية الانتخاب الطبيعي:
ج: بنى داروين نظريته في الانتخاب الطبيعي على:
1- الإنتاج المتزايد: يقصد التوالد المتزايد، فالكائنات الحيَّة تضع بيضًا أو تلد أعدادًا كبيرة، ولكن لا يعيش إلاَّ القليل، ولو قُدّر لكل إنسان أن يحيا لضاقت الأرض بكل هذه الكائنات ولحدث انفجار عظيم، ولكن عوامل المناخ والغذاء والأعداد تُحجّم هذا الانفجار.
2- التباين والاختلاف:
هناك تباين واختلاف وفروق فردية بين أفراد النوع الواحد، حتى بين التوائم، وأوراق الشجرة الواحدة، فهذه الفروق الفردية قد تكون مفيدة وقد تكون ضارة، فالفروق المفيدة والنافعة تساعد الكائن في الحصول على الغذاء، ومقاومة الأمراض، والتغلب على الأعداء أو الهروب منهم فيسود وينتشر، بينما الصفات الضارة تؤدي بصاحبها إلى الانقراض، ففي نظر داروين أن الزرافات التي وُلِدت بأعناق طويلة هي التي عاشت وسادت ولا سيما في فترات الجفاف، بينما انقرضت أخواتها ذوات الرقبة القصيرة، واختفت من على مسرح الحياة فقال داروين ” الزرافة بقامتها السامقة، والاستطالة الكبيرة لعنقها وأرجلها الأمامية ولسانها قد جعل كل هيكل جسدها مهيئًا بشكل جميل للرعي على الأغصان العليا للأشجار.. وهذا لا بُد أن يكون ذا ميزة كبيرة أثناء فترات القحط.. فإن الأفراد التي كانت ترعى على مستوى عالٍ، وكانت قادرة أثناء فترات القحط على أن تصل إلى مستوى أعلى ولو ببوصة واحدة أو بوصتين فوق الآخرين، فهي التي كانت غالبًا سوف تبقى.. فتلك الأفراد التي كان لها جزء واحد أو أجزاء متعددة في أجسادها أكثر استطالة فإنها في العادة كانت هي التي سوف تبقى على قيد الحياة، وهي التي كانت سوف تتزاوج وتترك ذرية، إما وارثة لنفس المميزات الجسدية، أو لديها القابلية لتعديل الخصائص مرة أخرى، على نفس المنوال، بينما الأفراد الأقل حظوة في نفس هذا المجال، فإنها سوف تكون الأكثر قابلية للاندثار”(1).
3- الوراثة:
فالكائنات الأقوى القادرة على التكيُّف مع ظروف البيئة المتغيرة هي التي تعيش وتتكاثر، وتُورّث نسلها الصفات السائدة لكيما تبقى وتسود ولا تتعرض للانقراض.
وقال داروين بالرغم من أن الكائنات الحيَّة تتكاثر بمتوالية هندسيَّة (2-4-8-16-320. إلخ) إلاَّ أن أفراد النوع الواحد تبقى غالبًا ثابتة، وأرجع داروين السبب في هذا إلى الصراع الدائر حول الغذاء والأعداء والأمراض، ويقول داروين ” فكل كائن ينتج أثناء مدة حياته الطبيعية العديد من البيض أو البذور، لا بُد أن يعاني من الهلاك أثناء فترة ما في حياته.. فطبقًا لمبدأ الزيادة الهندسيَّة، فإن أعدادهم سريعًا ما سوف تصبح كبيرة بشكل مغالى فيه إلى درجة أنه قد لا يوجد أي بلد يستطيع أن يعول هذا الإنتاج.. ولا يوجد أي استثناء من قاعدة أن كل كائن عضوي في حالة تزايد طبيعي بمعدل عالٍ، إلى درجة أنه إذا لم يتعرض للهلاك، فإن الكرة الأرضية سوف تصبح قريبًا مُغطاة بالذرية الناتجة عن زوج واحد منه.. وطبقًا لحسابات “ليناس” Linnaeus فإنه إذا أنتج نبات سنوي بذرتين فقط -ولا يوجد نبات قليل الإنتاج بهذا الشكل- وأنتجت كل من نبتاتهما الصغيرة في العالم التالي اثنتين، وهلم جرا، فسوف يكون من المحتم أن يوجد مليون من النباتات في خلال عشرين عامًا.. من الممكن لنا أن نؤكد أن جميع النباتات والحيوانات تميل إلى أن تزيد بنسبة هندسية.. وأن هذه القابلية الهندسيَّة للزيادة من الضروري أن يتم كبحها بواسطة الهلاك عند فترة ما من الحياة”(2).
ويرى داروين أن البيئة تحفظ التوازن في جميع الكائنات الحيَّة، فالطائر أو الحيوان الذي يستطيع أن يحمي بيضه أو صغاره ينتج عدد قليل، والعكس صحيح، فيقول “فالنسر الأمريكي (الضخم) يضع زوجًا من البيض، والنعامة تضع عشرين بيضة، ومع ذلك ففي نفس القطر فإن النسر الأمريكي قد يكون هو الأكثر عددًا من الاثنين.. إذا استطاع أحد الحيوانات بأي طريقة حماية بيضه أو صغاره، فإنه ينتج عددًا صغيرًا منها، ومع ذلك يبقى متوسط تعداده على نفس المستوى الكامل، ولكن إذا كان الهلاك هو مصير الكثير من البيض أو الصغار، فإنه يصبح من اللازم إنتاج الكثير، وإلاَّ تعرض النوع للانقراض”(3).
ويرى داروين أن البيض والحيوانات الصغيرة جدًا، والنباتات الصغيرة يقع عليها الجزء الأكبر من المخاطرة، وقد قام داروين بزرع مساحة أرض صغيرة (3 × 2 قدم) بـ357 نبتة فمات منها 295 نبتة ولم يتبق منها إلاَّ 62 نبتة (راجع أصل الأنواع ص 143، 144) ويرى داروين أن الأسباب التي تؤدي إلى هلاك الجزء الأكبر من الذرية ما يلي(4):
1- الصراع من أجل الحصول على الغذاء الكافي للحياة.
2- الصراع من أجل الهرب من الحيوانات المفترسة.
3- الصراع من أجل التأقلم مع المناخ.
وإن الصراع ليس بين الأنواع المختلفة فقط، بل قد يحدث الصراع بين الأصناف المختلفة في النوع الواحد، فيقول داروين ” إذا نُثرت ضروبًا (أصنافًا) عديدة من القمح في وقت واحد، وأُعيد نثر البذور المختلفة الناتجة، فإن بعض الضروب الأكثر ملائمة للتربة أو المناخ، أو الأكثر خصوبة بطبيعتها، سوف تتغلب على الأخرى، وبذلك سوف تنتج بذورًا أكثر، وبالتالي سوف تحل محل الضروب الأخرى على مدار سنوات قليلة.. ونفس الشيء مرة أخرى مع ضروب الأغنام، فإنه قد تم التأكد من أن بعض الضروب الجبلية تقتل من الجوع ضروبًا جبلية أخرى، إلى درجة أنه لا يمكن الاحتفاظ بهما سويًا”(5).
وقد أطلق داروين على هذا الصراع الدائر ” الانتقاء ” أو ” الانتخاب الطبيعي “Natural selection وأطلق ” هربرت سبنسر” (1820 – 1903م) صديق داروين على هذا الصراع البقاء للأصلح Survival of the fittest وقَبِل داروين هذا الاصطلاح، ودافع داروين عن ” الانتقاء الطبيعي ” قائلًا ” العديد من الكتَّاب قد أخطأوا الفهم أو اعترضوا على مصطلح ” الانتقاء الطبيعي”.. حتى أن الجدال قد تطرق إلى أنه، بما أن النباتات ليس لديها إرادة فإن الانتقاء الطبيعي غير قابل للتطبيق عليها، ولا شك أن الانتقاء الطبيعي مصطلح زائف.. وقد سبق أن قيل أني أتحدث عن الانتقاء الطبيعي وكأنه قوة فعالة أو إله، ولكن من الذي يقوم بالاعتراض على مؤَلف يتحدث عن التقارب بالجاذبية على أساس أنه المسيطر على حركات الكواكب؟! كل إنسان يعلم ما الذي يعنيه، أو ما الذي ينطوي عليه استخدام مثل هذه التعبيرات المجازية”(6)
ويقول جوليان هاكسلي أن داروين بنى نظريته على ثلاث حقائق واستنتاجين:
الحقيقة الأولى: أن الأنواع تتكاثر وفقًا لنسبة هندسيَّة، ولاحظ داروين أن عدد سكان العالم في عصره تضاعف خلال خمس وعشرين عامًا.
الحقيقة الثانية: بالرغم من وفرة التكاثر فإن عدد أفراد النوع الواحد يبقى تقريبًا ثابتًا، ومن هاتين الحقيقتين أستنتج داروين استنتاجه الأول وهو أن هناك تنازع على البقاء ولا بُد من ضحايا.
الحقيقة الثالثة: فهي أن جميع الكائنات الحيَّة تختلف عن بعضها البعض، فلا يوجد كائنان يتشابهان تشابهًا تامًا، فالتوائم بينهما تباين، ومن الحقيقة الثالثة أستنتج داروين استنتاجه الثاني وهو أن بعض الأفراد أو السلالات تنجح أو تتفوق على غيرها في التنازع على البقاء، وهو ما دعاه داروين بنظرية “الانتخاب الطبيعي” أو “بقاء الأصلح”.
_____
(1) أصل الأنواع ص 351، 352.
(2) أصل الأنواع ص 139 – 141.
(3) أصل الأنواع ص 142.
(4) راجع أصل الأنواع ص 144، 145.
(5) أصل الأنواع ص 153، 154.
(6) المرجع السابق ص 161.