ثالثاً: من الطقوس إلى الذبيحة الروحية
للرجوع الى الجزء السادس أضغط هنـــــا.
ثالثاً: من الطقوس إلى الذبيحة الروحية
- (1) الطقوس كعلامة للذبيحة الروحية:
الله في الكتاب المقدس لا يستفيد شيئاً على الإطلاق من ذبائح الإنسان المقدمة إليه، ولا يأخذ منها شيئاً ليحتفظ به لنفسه، فالله غير مدين للإنسان بشيء، بل الإنسان هو المدين لله بكل شيء، والإنسان هو الذي يحتاج لله بشدة، لأنه هو حياته ومصدر وجوده الحقيقي.
والطقس – في العهد القديم بكل اتساعه وشموله – يظهر بعض المشاعر الباطنية ويجعلها مرئية بالممارسة اليومية: كالسجود والطاعة ( محرقة ) والاهتمام بالوحدة الحميمة مع الله ( شيلميم = سلامة )، والاعتراف بالخطايا والتماس الغفران ( طقوس تكفيرية ).
وتدخل الذبيحة في الاحتفالات بالعهد مع المعبود الإلهي العظيم والمتعجب منه بالمجد: ” وبنى نوح مذبحاً للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح فتنسم الرب رائحة الرضا وقال الرب ( عهد ) في قلبه لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضاً أُميت كل حي كما فعلت مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف، وشتاء ونهار وليل لا تَزَال ” ( تكوين 8: 20 – 22 )
ولاسيما في سيناء: ” وأرسل فتيان بني إسرائيل فاصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب من الثيران فأخذ موسى نصف الدم ووضعه في الطسوس ونصف الدم رشه على المذبح وأخذ كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب، فقالوا كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع لهُ، وأخذ موسى الدم ورش على الشعب وقال هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال ” ( خروج 24: 5 – 8 )
عموما مفهوم الذبيحة عن الإسرائيليين الأتقياء، هو أنها تُقدس الحياة القومية والأُسرية والفردية، وتُعمَل خصوصاً بمناسبة مزارات الحج والأعياد: ” وكان هذا الرجل ( أَلفانه ) يصعد من مدينته من سنة إلى سنة ليسجد ويذبح لرب الجنود في شيلوه … ” ( 1صموئيل 1: 3 )
” وإذا افتقدني أبوك فقل قد طلب داود مني طلبة أن يركض إلى بيت لحم مدينته لأن هناك ذبيحة سنوية لكل العشيرة ” ( 1 صموئيل 20: 6 )
” وأمر الملك آحاذ أوريا الكاهن قائلاً: على المذبح العظيم أوقد محرقة الصباح وتقدمة المساء ومحرقة الملك وتقدمته مع محرقة كل شعب الأرض وتقدمتهم وسكائبهم ورش عليه كل دم محرقة وكل دم ذبيحة ومذبح النُحاس يكون لي للسؤال ” ( 2 ملوك 16: 15 )
وعموما فأن الحوار والخبر بعمل الله، والاعتراف بالإيمان، والاعتراف بالخطايا، وتلاوة المزامير، تبرز أحياناً وبشكل متسع المعنى الروحي ضمن الحركة المادية في تقديم الذبائح..
+ الحوار والخبر بعمل الله :
” ويكون حين يقول لكم أولادكم: ما هذه الخدمة لكم ” ( خروج 12: 26 )
” وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً: من أجل ما صنع إليَّ الرب حين أخرجني من مصر ” ( خروج 13: 8 ) [ وللأهمية أنظر خروج 24: 3 – 8 ]
+ الاعتراف بالإيمان :
” ثم تصرح وتقول أمام الرب إلهك. آرامياً كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرب هناك في نفر قليل فصار هناك أمه كبيرة وعظيمة وكثيرة، فأساء إلينا المصريون وثقلوا علينا وجعلوا علينا عبودية قاسية، فلما صرخنا إلى الرب إله آباءنا سمع الرب صوتنا ورأى مشقتنا وتعبنا وضيقتنا فأخرجنا الرب من مصر بيدٍ شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة وآيات وعجائب وأدخلنا هذا المكان وأعطانا هذه الأرض أرضاً تفيض لبناً وعسلاً. فلآن هأنذا قد أتيت بأول ثمر الأرض التي أعطيتني يا رب ثم تضعه أمام الرب إلهك وتسجد أمام الرب إلهك وتفرح بجميع الخير الذي أعطاه الرب إلهك لك ولبيتك أنت واللاوي والغريب الذي في وسطك ” ( تثنية 26: 5 – 11 )
+ والاعتراف بالخطايا:
” فاجتمعوا إلى المصفاة واستقوا ماء وسكبوه أمام الرب وصاموا في ذلك اليوم، وقالوا هُناك: قد أخطأنا إلى الرب… ” ( 1 صموئيل 7: 6 )
” فإن كان يُذنب في شيء من هذه يُقرّ بما قد أخطأ به ويأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيته التي أخطأ بها… ” ( لاويين 5: 5 – 6 )
+ وتلاوة المزامير :
” يا خائفي الرب سبحوه. مجدوه يا معشر ذُرية يعقوب. واخشوه يا زرع إسرائيل جميعاً، لأنهُ لم يحتقر ولم يُرذل مسكنه المسكين ولم يحجب وجهه عنه بل عند صراخه إليه استمع من قِبَلك، تسبيحي في الجماعة العظيمة أوفي نذوري قُدام خائفيه، يأكل الودعاء ويشبعون، يُسبح الرب طالبوه، تحيا قلوبكم إلى الأبد، تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض، وتسجد قدامك كل قبائل الأمم، لأن للرب الملك وهو متسلط على الأمم ” ( مزمور 22: 23 – 27 )
” والآن يرتفع رأسي على أعدائي حولي، فأذبح في خيمته ذبائح الهُتاف. أُغني وأُرنم للرب ” ( مزمور 27: 6 )
” أذبح لك منتدباً ( الذي دُعيَّ للقيام بعمل ما ولبى طوعاً واختياراً ). أحمد أسمك يا رب لأنه صالح ” ( مز 54: 6 )
وطبقاً لتكوين 22، ولعله بمثابة الميثاق بالنسبة لذبائح الهيكل، يرفض الله الضحايا البشرية ويتقبل الذبائح الحيوانية. إلا أنه لا يُسرّ بهذه العطايا، إلا إذا قدمها الإنسان بقلب أهل للتضحية والبذل، بتوبة وفي إيمان حقيقي، وبمحبة بعطاء أغلى ما عنده، على مثال أب الآباء إبراهيم.
- (2) أولوية الديانة الباطنية:
حينما أندمج الشعب في حرفية الطقوس، وعلى الأخص الكهنة، إذ تعلَّقوا بالرتبة الطقسية مع إهمال العلامة المتعلَّقة بها. ومن هنا أتت تحذيرات الأنبياء الذي أعلنوا صوت الله وتوبيخه بسبب ذلك الانحراف !!!
وقد نُخطئ أحياناً في تبين نية الأنبياء ونظن أنهم يلغون الطقس بتبكيتهم للكهنة المتمسكين بحرفية الطقس دون الله الحي، ولكن في الحقيقة، إنهم لا يشجبون الذبيحة في ذاتها ولا العمل الطقسي، ولكن ينددون بالانحرافات الطارئه عليها، وعلى وجه الخصوص الممارسات الكنعانية الدخيلة:
” شعب يسأل خشبة، وعصاه تخبره لأن روح الزنى قد أضلَّهم، فزنوا من تحت إلههم، يذبحون على رؤوس الجبال ويبخرون على التلال تحت البلوط واللُبْنى والبطم ( شجرة برية صغيره الورق صمغها قوي الرائحة ) لأن ظلها حسن، لذلك تزني بناتكم وتفسق كناتكم ” ( هوشع 4: 12 – 13 )
فكثرة الطقوس وتشعبها ليست في حد ذاتها تمجيداً لله، بل إن هذا التعدد لم يوجد في السابق: ” هل قدمتم لي ذبائح وتقدمات في البرية أربعين سنة يا بيت إسرائيل ” ( عاموس 5: 25 )؛ ” لم تحضر لي شاة محرقتك، وبذبائحك لم تُكرمني ( تُمجدني ). لم أستخدمك ( ألزمتك ) بتقدمه، ولا أتعبتك بلبان ( لبان البخور ). لم تشترِ لي بفضة قصباً وبشحم ذبائحك لم تروني ( أرويتني )، لكن استخدمتني ( ألزمتني ) بخطاياك وأتعبتني بآثامك ” ( إشعياء 43: 23 – 24 )
” لأني لم أكلم آبائكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة، بل إنما أوصيتهم ( أمرتهم ) بهذا الأمر قائلاً: اسمعوا صوتي فأكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً وسيروا في كل الطريق الذي أوصيكم به ليحسُن إليكم ( يطيب إليكم )، فلم يسمعوا ولم يميلوا أُذنهم، بل ساروا في مشورات وعناد قلبهم الشرير وأعطوا القفا لا الوجه ( أداروا لي ظهورهم لا الوجه ) ” ( إرميا7: 22 – 24 )
فالطقس وعلى الأخص الذبيحة، إذا تجردت من استعدادات القلب، تنقلب عملاً باطلاً ورياء، إذ تتحول للشكل والصورة، فضلاً على أنها تُغضب الله إذا صاحبها مشاعر كلها شرّ، وأفكار ملوثة بالخطية وسلوك منافي لوصية الله !!!
” هلم إلى بيت إيل ( اذهبوا إلى بيت إيل ) وأذنبوا إلى الجلجال وأكثروا الذنوب [ تعالوا إلى بيت إيل وارتكبوا المعاصي، وفي الجلجال أكثروا من ارتكابها ] واحضروا كل صباح ذبائحكم وكل ثلاثة أيام عشوركم وأوقدوا من الخمير تقدمة شكر ونادوا بنوافل ( تبرعات ) وسَمِعوُا [ نادوا بتقدمات وأذيعوها ]… ” ( عاموس4: 4و5 )
” لماذا لي ( ما فائدتي – ماذا استفيد من ) كثرة ذبائحكم يقول الرب. أتخمت ( شبعت ) من محرقات كباش وشحم مسمنات، وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسرّ ( لا يرضيني ) حينما تأتون لتظهروا أمامي ( تعبدوني )، من طلب هذا من ايديكم أن تدوسوا دُوري ( دياري – بيتي ). لا تعودوا تأتون ( إليَّ ) بتقدمة باطلة، البخور ( الرجس ) هو مكرهة لي، رأس الشهر والسبت ونداء المحفل، لست أطيق الإثم والاعتكاف، رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي وصارت عليَّ ثقلاً مللت حملها، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع، أيديكم ملآنة دماً، اغتسلوا تنقوا ( تزكوا )، اعزلوا ( أزيلوا ) شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشرّ ” ( إشعياء 1: 11 – 16 )
ويُركز الأنبياء بشدة، بحسب بلاغتهم في اللغة، على أولوية النفس في علاقة طاعة تنعكس على سلوكها اليومي، فتستقيم الحياة وتنشأ علاقة حية سوية مع الله: ” وليجر الحق كالمياه والبرّ كنهرٍ دائم ” ( عاموس5: 24)
” إني أُريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات ” ( هوشع6: 6 )
” قد أُخبرك أيها الإنسان ما هو الصالح، وماذا يطلبه منك الرب؛ إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك ” ( ميخا6: 8 )
ولنا أن نعرف أن الأنبياء لا يضيفون شيئاً جديداً أو يشرحوا أصول العبادة بطريقة جديدة، لأن تعليمهم ليس إلا امتداد لنفس التعليم الذي خُطْ في عهد سيناء:
” فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون ليس خاصة من بين جميع الشعوب. فأن لي كل الأرض ” ( خروج19: 5 )
” وأخذ كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب: فقالوا كل ما أتكلم به الرب نفعل ونسمع له، وأخذ موسى الدم ورش على الشعب وقال هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال ” ( خروج 24: 7 – 8 )
وهذا التعليم تقليد ثابت لا يتغير ومحفوظ لكل زمان:
” فقال صموئيل: هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب (الطاعة)، هوذا الاستماع (الطاعة) أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش ” ( 1صموئيل 15: 22 )
” وقد علمت يا إلهي أنك أنت تمتحن القلوب وتُسرّ بالاستقامة. أنا باستقامة قلبي انتدبت ( تبرعت ) بكل هذه، والآن شعبك الموجود هنا رأيته بفرح ينتدب ( يتبرع ) لك ” ( 1أيام 29: 17 )
” ذبيحة الأشرار مكرهة الرب وصلاة المستقيمين مرضاته ” ( أمثال 15: 8 )
” فعل العدل والحق أفضل عند الرب من الذبيحة.. ذبيحة الشرير مكرهة فكم بالحري حين يقدمها بغش ” ( أمثال 21: 3 و 27 )
” بذبيحة و تقدمة لم تسر – أُذني فتحت – محرقة و ذبيحة خطية لم تطلبحينئذٍ قلت هنذا جئت [ ها أنا آتٍ ] بدرج الكتاب مكتوب عني أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت [ في هذه مسرتي ]. وشريعتك في وسط أحشائي [ في صميم قلبي شريعتك ] بشرت ببر في جماعة عظيمة. هوذا شفتاي لم أمنعهما أنت يا رب عَلِمْتَ ” ( مزمور 40: 7 – 9 )
” وللشرير قال الله: ما لك تُحدث ( وتروي ) بفرائضي وتحمل عهدي على فمك وأنت قد أبغضت التأديب وألقيت كلامي خلفك ( ورائك – أهملت أن تعيش بها )، إذا رأيت سارقاً وافقته، ومع الزناة نصيبك [ إذا رأيت سارقاً صاحبته، ولا تُعاشر إلا الزناة ]، أطلقت فمك بالشرّ ولسانك يخترع غشاً ( يختلق مكراً )، تجلس وتتكلم على أخيك، لابن أمك تضع معثرة [ وتفتري على ابن أُمك ]، هذه صنعت وسكت [ فعلت هذا وأنا ساكت عنك ]، ظننت إني مثلك، أوبخك [ لكني الآن أُوبخك ]، وأصف [ أُعدد ] خطاياك أمام عينيك، أفهموا هذا يا أيها الناسين الله لئلا يفترسكم [ أمزقكم ] ولا منقذ، ذابح الحمد يُمجدني والمقوم طريقه أريه خلاص الله [ الحمد هو الذبيحة التي تُمجدني، ومن قَوَّم طريقه أريه خلاصي ] ” ( مزمور 50: 16 – 23 )
” أُسبح اسم الله بتسبيح وأُعظمه بحمد فيُستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف، يرى ذلك الودعاء فيفرحون وتحيا قلوبكم يا طالبي الله ” ( مزمور 69 : 30 – 32 )
” الذابح من كسب الظلم يُستهزأ بتقدمته، واستهزاءات الأثماء ليست بمرضية، الرب وحده للذين ينتظرونه في طريق الحق والعدل، ليست مرضاة العلي بتقادم المنافقين ولا بكثرة ذبائحكم يغفر خطاياهم، من قدم ذبيحة من مال المساكين فهو كمن يذبح الابن أمام أبيه… واحد صلى والآخر لعن فإيهما يستجيب الرب لصلاته، من اغتسل من لمس ميت ثم لمسه فماذا نفعه غسله، كذلك الإنسان الذي يصوم عن خطاياه ثم يعود يفعلها من يستجيب لصلاته وماذا نفعه اتضاعه ” ( سيراخ 34: 21 – 31 )
وفي الواقع أن تقديم الذبيحة الباطنية أي من دخل القلب قبل الخارج، ليست بديلاً عن تقدمة العبادة الخارجية، بل هي الجوهر والأساس: ” لأنك لا تُسر بذبيحة وألا فكنت أُقدمها. بمحرقة لا تَرضَى. ذبائح الله هي روح منكسرة، القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره. أحسن برضاك إلى صهيون، ابن أسوار أورشليم، حينئذٍ تُسرّ بذبائح البرّ محرقة وتقدمة تامة حينئذٍ يصعدون على مذابحك عجولاً ” ( مزمور51: 16 – 19 )
وهذه الذبيحة الباطنية هي جوهر الطقس الحقيقي: ” من حفظ الشريعة فقد قدم ذبائح كثيرة، من رعى الوصايا فقد ذبح ذبيحة الخلاص، ومن أقلع عن الإثم فقد ذبح ذبيحة الخطية وكفر ذنوبه، من قدم السميذ فقد وفى بالشكر، ومن تصدق فقد ذبح ذبيحة الحمد، مرضاة الرب الإقلاع عن الشرّ، وتكفير الذنوب الرجوع عن الإثم، لا تحضر أمام الرب فارغاً فأن هذه كلها تُجري طاعة للوصية، تقدمة الصديق تُدَسمُ المذبح ورائحتها طيبة أمام العلي، ذبيحة الرجل الصديق مرضية وذكرها لا يُنسى، مجد الرب عن قُرَّة عين ولا تُنقص من بواكير يديك ” ( سيراخ 35: 1 – 10 )
وهذا التيار الروحي الأصيل يشجب التقوى السطحية القائمة على المصلحة التي تقوم على كبرياء القلب وطلب مديح الناس، أو مخالفة الوصية التي هي حياة النفس، وقد أثار في النهاية هذا المنهج الروحي الأصيل، جدلاً حول الطقوس ذاتها التي أدت لمقاومة الأنبياء ورفض صوت الله على أفواههم، لأن الكثيرين فضلوا الشكل عن الجوهر لأجل كبرياء القلب ومديح الناس، وكان الأنبياء في هذا كله بمثابة الممهدين للعهد الجديد بشأن جوهر الذبيحة وفعلها الحقيقي وليس الشكلي في مجرد طقس مقدم في عبادة شكلية…
وبالطبع كل هذا موجه لنا اليوم لأنه بالرغم من أننا في العهد الجديد، لا يمنع إطلاقاً أن تتحول العبادة عندنا لشكل روتيني حرفي ونتمسك بالطقس وحرفه ونخرج خارج الروح، كما هو الحادث عند الكثيرين في التمسك الحرفي المتشدد بتعصب، ناسين الله تماماً وأصبحوا مثل شعب إسرائيل في هذه الحالة التي نتكلم عنها تماماً !!!
(3) قمة الديانة الباطنية:
إلى جانب التصور الجامع الشرعي الوارد في سفر اللاويين، يُقدم الكتاب المقدس تصوراً جامعاً آخر، يتميز بالقوة الفعالة لأنه متجسد في شخص. فأن عبد الله بحسب إشعياء 53، سيجعل من موته تقدمة لذبيحة تكفير أبدي، وأن التصريح النبوي يُسجل تقدماً ملحوظاً بالنسبة للمفاهيم الواردة في لاويين 16.
وكبش الفداء في يوم التكفير العظيم الذي يُقدم بيد مقدمه وليس باختياره لأنه غير عاقل، كان يحمل وزر خطايا الشعب. إلا أنه بالرغم من رتبة وضع الأيدي، أي وضع يد الخطاة عليه، لم يكن قادر أن يجعل المقدم والذبيحة واحد، فالتعليم بالإنابة في القصاص لم يكن على صله بهذه الليتورجيا: ” لأنه إن كان دم ثيران و تيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد ” (عب 9 : 13)، ” لأنه لا يمكن أن دم ثيران و تيوس يرفع خطايا ” (عب10: 4)،وأما العبد (( الله الكلمة الظاهر في الجسد كعبد )) بالعكس، فأنه يُسلَّم نفسه طواعية باختياره الحرّ، لأجل الخطاة. وتقدمته الخالية من أي عيب تعود بالفائدة على ” كثيرين ” بحسب تدبير الله وخطته الموضوعة للخلاص الأبدي. وهنا تلتقي أقصى الباطنية مع أقصى العطاء وأقصى الفاعلية: [ من الضغطة ومن الدينونة أُخذ وفي جيله من كان يظن أنه قُطِعَ من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي… من تعب نفسه يرى ويشبع وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه وأحصي مع آثمة وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين ]
وفي الجزء القادم سنتكلم عن
العهد الجديد، يسوع يقدم نفسه ذبيحة