Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

ما هي التيارات المختلفة التي تنطوي تحت شعار “لاهوت التحرير”؟ وكيف تفرَّع لاهوت التحرير في اتجاهات مختلفة؟

 139- ما هي التيارات المختلفة التي تنطوي تحت شعار “لاهوت التحرير”؟ وكيف تفرَّع لاهوت التحرير في اتجاهات مختلفة؟

ج: مزج البعض بين لاهوت التحرير والفكر الماركسي مستخدمين العنف للوصول للهدف، بينما رأى البعض الآخر أنه يمكن تحقيق لاهوت التحرير بأسلوب سلمي يختلف عن الأسلوب الشيوعي الذي يقوم على الثورات الدموية، فيقول القس مرزوق حبيب ” فنادوا بالاشتراكية للجميع، ولكن ليس بالمفهوم الماركسي الشيوعي في أسلوبه الثوري الهدام المُخرّب، لكن اشتراكية لاهوت التحرير قائمة على التضامن الاجتماعي، والمحبة المسيحية والوقوف مع الفقير. لذلك كان أسلوبهم أسلوب التغيُّر الاجتماعي للتعمير والبناء والتنمية”(1).

وما أكثر التيارات التي انطوت تحت راية ” لاهوت التحرير ” نذكر منها الآتي:

1 – التيار الروحي الرعوي الذي يلتزم بمبادئ الإنجيل.

2 – التيار المنهجي الذي يعتمد على العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم الإنسان وعلم الاقتصاد.. إلخ.

3 – التيار الاجتماعي الذي يركز على التحليل الاجتماعي.

4 – التيار التاريخي الذي يدعو لإعادة قراءة تاريخ أمريكا اللاتينية والعلاقة بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي والصراع الطبقي والأخذ بالتحليل الماركسي.

5 – التيار السياسي الذي يدعو ليس العلمانيين فقط، بل الكهنة أيضًا لممارسة السياسة.

6 – تيار الكنيسة الشعبية، والذي يعتبر أن كنيسة الشعب هي مصدر الحرية المسيحية.

7 – التيار الكريستولوجي الذي ينظر للسيد المسيح على أنه محرر الإنسان من الظلم والقهر والفقر.

8 – التيار التربوي الذي يركز على التعليم، فيسهل للإنسان المتعلم الحصول على حريته.

9- تيار النقد الذاتي وهو مكوَّن من مجموعة غير متجانسة.

وقد تفرَّع لاهوت التحرير إلى مجالات شتى، فانبثق منه:

لاهوت كوريا – لاهوت أفريقيا – لاهوت السود – لاهوت التحرير الفلسطيني – لاهوت المجاعات – لاهوت المجتمعات المسيحية – لاهوت تحرير عربي إسلامي مسيحي – لاهوت تحرير إسلامي

1- لاهوت كوريا Mingung Theology:

وهو لاهوت خاص بشعب كوريا، فقد اهتم هذا اللاهوت بمعرفة طبيعة الكوريين والمشاكل التي يمرون بها، وكلمة ” Mingung ” تتكون من ” Min ” أي الناس (باللغة الكورية) و” gung ” وتعني الجمهور، فتصبح كلمة ” Mingung ” تعبيرًا عن التطبيق العملي لكلمة الله بواسطة جمهور الشعب، ومن الملاحظ أن جميع الأنواع المنبثقة من لاهوت التحرير تركز على كهنوت كل المؤمنين، فكل مؤمن بالمسيح له حق الصلاة ودراسة كلمة الله وتفسيرها، وفهمها في ضوء المجتمع المعاصر، مع محاولة إيجاد الحلول.

2- لاهوت أفريقيا Africain Theology:

وهو محاولة فهم حقائق الإيمان المسيحي في ضوء ظروف الشعب الأفريقي وما يعيش فيه من فقر ومرض وأوبئة واضطرابات، والعمل على حل هذه المشاكل، ولذلك دُعي بلاهوت التنمية Theology of Development،  فلاهوت التحرير الإفريقي يهدف إلى خلاص الإنسان من فقره الأنثروبولوجي الذي يؤثر على كيان الإنسان فيجرده من شخصيته وتاريخه وجذوره، ويقول الأب وليم سيدهم أن ” موضوع التحرير في أفريقيا لا ينحصر في الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية فحسب، بل يزداد اللاهوتيون الأفارقة حديثًا عما يسمونه بـ{الفقر الأنثروبولوجي} هذا الفقر الجذري الذي يختلف عن الفقر المادي، فالفقر الذي يتحدثون عنه هو الفقر الذي يجرد الكائن البشري لا من ممتلكاته فحسب، بل من كل ما يشكل كيانه وجوهره أيضًا، وبعبارة أخرى يجرّده من شخصيته وتاريخه وجذوره.. من لغته الأصلية وثقافته، من إيمانه وقدرته الخلاَّقة، من كرامته، وطموحاته، وحقه في الكلام”(2).

لقد سعت الثقافة الاستعمارية إلى تجريد الإنسان الأفريقي من إنسانيته، وزرعت فيه النزعة لاحتقار ذاته بسبب لونه الأسود، ولذلك سعى لاهوت التحرير الأفريقي لخلاص الإنسان المقهور، ورفعه للمستوى الذي أراده له الإنجيل، ويقول الأب وليم سيدهم ” تتضمن مشكلة الفقر قبل كل شيء نفي إنسانية الإنسان الأسود بواسطة قوى القهر، فما من فقر أعظم من أن يُجرَّد الإنسان من كيانه.. فإن عملية النفي هذه تشمل الثقافة والاقتصاد والمجتمع في جميع مؤسساته، فالإنسان الأفريقي يجد نفسه غريبًا في أرضه، فاقدًا شخصيته، وثقافته، وبالرغم من أنه يعيش في قارة من أغنى قارات الأرض إلاَّ أنه يُعتبر أفقر إنسان على وجه الأرض. وأخطر من ذلك، فإن الثقافة الاستعمارية لم تُفرِغه من جوهره فحسب، بل علمته كيف يحتقر ذاته، وكيف يهدم ذاته بذاته. وتعاني أحيانًا شعوب أفريقيا المستقلة مواقف أشدَّ مأساوية مما عانته تحت نير الاستعمار. إن الفقر الأنثروبولوجي هُوّة لا قرار لها.. إن إعادة الكرامة والاعتراف بكيان هذا الإنسان المقهور هي فقط السبيل الوحيد لإحداث التغيير المنشود. نستنتج مما سبق أن الفقر الإنثروبولوجي هو نفي الإنسان الذي وصفه الكتاب المقدَّس بأنه مخلوق على صورة الله كمثاله، وأخ ليسوع المسيح ابن الله المتجسد وهيكل الروح القدس”(3).

كما سعت النزعة الاستعمارية إلى طمس معالم الديانات التقليدية في أفريقيا، ولذلك سعى لاهوت التحرير الأفريقي لرد اعتبار هذه الديانات، ويقول الأب ” ديزموند توتو”.. ” ظهر اللاهوت الأفريقي في القارة بعد الاستقلال السياسي كرد اعتبار للديانات التقليدية التي طمسها المستعمر الغربي المسيحي بحجة دونيتها وعدم ملاءمتها للعقائد المسيحية، وقد رفع اللاهوت الأفريقي بعد الاستقلال شعار الأصالة الأفريقية والتحرُّر من التقاليد الغربية التي لا علاقة لها بجوهر الديانة المسيحية. إن اللاهوت الأفريقي هو نقد مباشر للهيمنة اللاهوتية الغربية التي لم تكن تعترف باستقلال الأفارقة وحقهم في تبني لاهوت جديد يتماشى مع حاجات القارة الفعلية. فهذا اللاهوت هو أساسًا تعبير عن الأصالة ورد فعلٍ لنوع من الاستعمار الثقافي”(4).

ويرى الأب ” ديزموند توتو ” أن لاهوت التحرير الأفريقي قد سبق لاهوت التحرير الأمريكي – اللاتيني، وظهرت الكنائس المستقلة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كثمرة من ثمار لاهوت التحرير الأفريقي، وفي سنة 1956م ظهر أول كتاب وقَّعه كهنة أفارقة، ويدور حول موضوع التحرير باسم ” كهنة سود يتساءلون”، وأيضًا من ضمن الفروق إن الذين نادوا بلاهوت التحرير الأفريقي هم الشعوب المقهورة 0أما الذين نادوا بلاهوت التحرير الأمريكي اللاتيني فهم فئة من المثقفين، وليسوا الشعوب المقهورة من الهنود أصحاب البلاد الأصليين أو العبيد القدماء.

وفي سنة 1994م سقط النظام العنصري في جنوب أفريقيا بعد أربعمائة سنة من سياسة الفصل العنصري، وتولى رئاسة البلاد الرئيس الأفريقي المجاهد ” نيلسون مانديلا”.

3- لاهوت السود Black Theology:

نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية، وجنوبي أفريقيا، بهدف التصدي لقضية التفرقة العنصرية بين الأبيض والأسود، وبهدف رفع مستوى السود والمطالبة بحقوقهم في المجتمع أسوة بالبيض، ومن رواد هذه الحركة ” مارتن لوثر كينج ” الذي حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1964م، والأب المطران ” ديزموند توتو ” Desmond Mpilo Tutu الذي حصل على جائزة نوبل للسلام أيضًا عام 1984م، وفيما يلي نذكر باختصار قصة ديزموند توتو:

فقد وُلِد ديزموند في 7 أكتوبر 1931م بجنوب أفريقيا غرب جوهانسبرج بـ180 كم، وكان والده معلمًا في مدرسة ابتدائية، وتعمد وهو طفل في كنيسة الميثودست، وفي طفولته كان يستقل دراجته لشراء الجرائد والسجائر لوالده، فكان يتعرض لمعاكسات الصبية من البيض فيدفعونه عن الدراجة ويركلونه بأرجلهم ويدعونه ” الأسود كالفحم ” وفي سنة 1949 صدر قانونًا يُحرّم الزواج المختلط بين البيض والسود، وكان لهذه الأمور وغيرها التأثير النفسي السيء على شخصية ديزموند توتو.

وفي سنة 1962م ذهب ديزموند إلى إنجلترا لاستكمال دراساته اللاهوتية، فحصل على الليسانس والماجستير في العلوم اللاهوتية، وبعد عودته إلى البلاد شارك في الصحوة الكنسية التي تشجب التفرقة العنصرية، ففي سنة 1971م نشر مقالًا بعوان ” هل الله أبيض أم أسود؟ ” وفي سنة 1972م عُيَّن مسئولًا عن ميزانية برنامج التعليم اللاهوتي التابع لمجلس الكنائس العالمي، وفي سنة 1975م عُيَّن كأول عميد أفريقي أسود لكاتدرائية العذراء القديسة مريم في جوهانسبرج، ورفض الإقامة في أماكن البيض، وخصص صلاة أسبوعية كل يوم جمعة من أجل العدالة والمصالحة في جنوب أفريقيا بين البيض والسود، ووجه خطابًا مفتوحًا لفورستر Vorster رئيس الوزراء في مايو 1976م يعلن فيه عن خشيته من تدهور الأمور وانفجار أعمال العنف وسفك الدماء بسبب القهر المتزايد في البلاد. أما فورستر فقد اتهمه بالتخريب السياسي.

ثم عُيَّن ” ديزموند توتو ” رئيسًا لمجلس كنائس جنوب أفريقيا، وأصبح يمثل أكثر من عشرة مليون مسيحي منهم 90 % من السود، وفي سنة 1978م كان لهذا المجلس وقفته الجريئة ضد العنصرية، ويقول الأب وليم سيدهم ” وقد تسببت المواقف الجريئة التي اتخذها مجلس الكنائس في هياج صفوف المناصرين لسياسة الفصل العنصري، في عام 1968م، أدان المجلس بشكل رسمي سياسة الفصل العنصري بصفتها سياسة معادية للديانة المسيحية، ووصفها بالهرطقة وبأنها {إنجيل آخر} فما كان من أعداء المجلس العنصريين إلاَّ واعتبروه {قاعدة انطلاق السلطة السوداء} بما يضمه من ثوار مرتبطين بمجلس الكنائس العالمي، ورأوا أن المجلس في ذلك يمهد الطريق إلى انقضاض الشيوعية على البلاد”(5).

وفي سنة 1979م أعلن ” ديزموند توتر ” قائلًا ” نحن أعضاء مجلس كنائس جنوب أفريقيا، نؤمن أن جنوب أفريقيا كيان واحد غير عنصري، إذ أن لكل إنسان فيها قيمة، لأنه مخلوق على صورة الله، وأن مجلس الكنائس العالمي ليس منظمة سوداء أو منظمة خاصة بالبيض، بل هو منظمة مسيحية تعتني بالمضطهدين والمستغَلين في مجتمعنا، وعليه فإننا -نحن الذين نمثل مكتب المنظمة- نعتبر أنفسنا رمزًا لما يجب أن تكون عليه جنوب أفريقيا الجديدة، فجميع الأجناس في جنوب أفريقيا ممثلة في هذا المكتب، ونحن نقوم بعمل جماعي بإدارة أمين عام وهو بالصدفة أسود”(6).

كما قال أيضًا ” على مثال المسيح سيدنا، نحن مدعوّون إلى العمل من أجل السجناء والفقراء والمقهورين والمعزولين والمحتقرين”(7).

غير إن سياسة ” ديزموند توتو ” التي ترفض العنف لم ترق لكل السود، فيقول الأب وليم سيدهم ” أصبح ديزموند توتو في نهاية السبعينيات من أبرز الوجوه المسيحية المعارضة لسياسة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لم يفُز بإجماع الشباب السود، لأنهم رفضوا سياسة اللاعنف، ولجأوا إلى حمل السلاح بسبب يأسهم من سياسية الحكومة المتشددة في البلاد”(8) وطالب ” ديزموند توتو ” مسيحيو العالم بالصلاة من أجل التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، والضغط على الحكومات حتى لا تتعاطف مع النظام العنصري في أفريقيا، وفي 16 أكتوبر 1984م حصل ديزموند توتو على جائزة نوبل للسلام، وعاين ثمرة جهاده سنة 1994م عندما سقط نظام التفرقة العنصرية في البلاد.

ويرد أصحاب لاهوت السود على الذين يتساءلون: هل للاهوت لون؟! وهل يمكن أن نقول أن هناك كيمياء أو فيزياء بيضاء أو سوداء ؟!!، فيقولون إن هناك موسيقى فرعونية وفلسفة ألمانية، هكذا يمكن أن يكون هناك لاهوتًا أسودًا يخص السود بهدف رفع المعاناة والاحتقار الذي يتعرضون له من قبل البيض الذين يعتبرون أن كل ما هو ليس أوربيًا لا قيمة له ولا وجود له، ويقول الأب ” ديزموند توتو”.. ” إن صفة {أسود} أو {الجنس الأسود} قد اُختيرت بعناية وعن قصد، للتعريف بفئة من الناس كثيرًا ما عُرفوا بكلمات النفي مثل ” ليسوا هذا، ولا ذاك ” أو بمصطلحات ذات معانٍ وضيعة وحقيرة وغير مقبولة.. أصبح كل من هو {ليس أوربيًا} يعامل على إنه {لا قيمة ولا وجود له}.. وفي رأينا، فإن صفة {أسود} هي تأكيد الإنسان الأسود نفسه وتأكيد وعيه لوجوده ولإنسانيته ولكرامته ولقيمته كإنسان. إذًا أول ما يتناوله لاهوت السود هو هذا الجزء من الإنسانية، من الرجال والنساء الذين استيقظوا من سُباتهم العميق، وأخذوا يَعون إن لهم قيمة خاصة بصفتهم أشخاصًا، وإنهم غير مُجبرين على البحث عما يُبرّر وجودهم يعرضونه على الآخرين”(9).

كما يقول ” ديزموند توتو”.. ” إن لاهوت التحرير جزء لا يتجزأ من كفاح السود لينالوا حريتهم، ويجتهد في مساعدتهم على أن يفخروا بإنسانيتهم، فلا يخجلون من النظر إلى الآخرين في أعينهم بل يتعاملون معهم ندّ لند، ولا يعتبرون أنفسهم مضطرين إلى الاعتذار بسبب إن لون بشرتهم أسود”(10).

وأيضًا يقول الأب ” ديزموند توتو”.. ” أما لاهوت السود فيتناول قضايا أخرى لا تقل أهميتها عن قضية الأصالة. إنه لاهوت وُلِد في رحم الألم والمعاناة التي عاناها سكان جنوب أفريقيا السود على يد طغاة الفصل العنصري، فقضايا الألم والمغفرة، ورفض التفرقة العنصرية تُعتبر أعمدة لاهوت السود الرئيسية”(11).

كم قال ” ديزموند توتو”.. ” هكذا ظهر إلى الوجود {اللاهوت الأسود} والذي نعتبره في أفريقيا لاهوتًا للتحرير بتمام معنى الكلمة، وينمو هذا اللاهوت خصوصًا في جنوب أفريقيا حيث نزعت العنصرية إنسانية السود، حتى أنها حولتهم إلى مخلوقات لا تمت إلى البشر بصلة.. إن اللاهوت الأسود – بصفته لاهوت تحرير – يعتبر من الآن جزءًا لا يتجزأ من معركتنا في سبيل خلاص الشعب، ولهذا السبب، حرَّمت الدول تداول هذا اللاهوت الذي يستلهم الإنجيل والذي يريد أن يوقظ عند الإنسان الأسود معنى كرامته وإنسانيته الفردية كابن الله”(12).

وأول من ذكر مصطلح “اللاهوت الأسود” هو “جيمس كون ” James H. Cone في كتابه ” اللاهوت الأسود والسُلطة السوداء ” الذي أصدره سنة 1969م. ثم دخل هذا المصطلح جنوب أفريقيا سنة 1971م خلال المؤتمر الذي عقدته الطوائف المسيحية في المعهد الكاثوليكي بهاما نسكرال بواسطة ” الحركة المسيحية الجامعية ” وصدر عن هذا المؤتمر بيان باسم ” فكر لاهوتي أسود ” يُعرّف هذا التيار اللاهوتي الجديد.

ويعتبر أصحاب لاهوت السود إن هذا النوع من اللاهوت يسعى لتحرير القاهر الذي يتجرد من إنسانيته، لأنه يجرد الآخرين من إنسانيتهم، وهو أيضًا يسعى لخلاص المقهور ورفع الظلم عنه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأيضًا يقول أصحاب لاهوت السود بأنهم لا يشكُّون في وجود الله، ولا في صلاحه، ولا يتساءلون لماذا يوجد الألم في عالم يوجد فيه إله صالح كلي القدرة؟ ولكنهم يتساءلون: لماذا نتألم نحن السود ألمًا مبرحًا..؟ لماذا نتألم أكثر من غيرنا..؟! إنهم يرفضون دعوى البيض بأن أجدادهم هم الذين أرادوا بناء برج بابل فلعنهم الله، أما أجداد البيض فإنهم قاموا ببناء الحضارة المسيحية، ويقول الأب ” ديزموند توتو”.. ” سيرفض السود تمامًا وباشمئزاز الحل الذي يقول لهم إن ما يعانونه الآن من آلام هو جراء ما اقترفوه من كفر.. وربما يتلقى الأفارقة بارتياح أكثر وجهة نظر القديس أغسطينوس في شرح قضية الألم، فهو يرى أن الألم سببه خطأ وقع في طفولة الجنس البشري المبكرة.. ولكن إن كانت وجهة النظر الأوغسطينية أكثر اقترابًا من الحقيقة، فإنها لا تحل معضلة معرفة الأسباب الحقيقية للآلام التي يتكبدها الإنسان الأسود، أكثر من غيره من البشر، بسبب هذا السقوط الأول.. أعتقد إن رجاءنا يتوافق مع نظرة إيريناؤس إلى الله.. إن هذه النظرية الإيريناوية تُعبّر عن المعنى نفسه الذي نجده في نشيد عيد القيامة في الطقس الغربي O Felix culpe أي {أيتها الخطية المباركة} ويؤكد النشيد إنه من خلال الشر والألم أتانا وسأتينا خير عظيم. كما يؤكد إنه من خلال حياة وموت المسيح وقيامته اتخذ الألم صفة جديدة ودورًا جديدًا ووضعًا جديدًا، فالألم جزء لا يتجزأ من قصة الفداء الإلهي {إذا أراد أحد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني} (مر 8: 34) فعلى من يريد أن يكون صديقًا للمسيح أن يتشبه بسمعان القيرواني، هذا الأفريقي الذي ساعد يسوع على حمل صليبه.. الألم بسبب بركة.. وهنا قد تتفق وجهة نظرنا مع ما رآه أحد الشعراء، حين قال {إن العالم هو المكان الذي تُطرق فيه النفس كما يُطرق الحديد ليطوَّع شكله، إذ تكون أنظارنا موجهة -في أثناء التطويع- نحو السماوات الجديدة والأرض الجديدة}”(13).

ويقارن ” ديزموند توتو ” بين لاهوت السود واللاهوت الأفريقي فيقول ” إن لاهوت السود أكثر عدوانية وأكثر جذرية (راديكالية) من اللاهوت الأفريقي.. لأن عليه واجبًا هامًا، وهو أن يُحدث تحولًا عميقًا في قلب الإنسان الأسود، تحوُّلًا يخرجه من غيبوبته ومن قبوله للعبودية وإجلاله للبيض، وعلى عاتق هذا اللاهوت يقع عبء توعية الإنسان الأسود.. وبالمثل يتحرَّق هذا اللاهوت شوقًا إلى إيقاظ مشاعر الإنسان الأبيض ليعي إلى أي درجة من الانحطاط يصل به الأمر حين ينتقص من إنسانية السود، فمهمة لاهوت السود مزدوجة إذًا، فهي تهدف إلى تحرير القاهرة كما تبغي تحرير المقهور..

وبصفتي مواطنًا من جنوب أفريقيا، أزعم أنني أستطيع أن أتحدث باسم السود عن لاهوت السود، وبما أنني مواطن أفريقي أيضًا، أزعم إنه يمكنني أن أتحدث باسم الأفارقة، وأؤكد أن لاهوت السود (الخاص بجنوب أفريقيا) يعتبر الوجه الخارجي الأكثر اتساعًا، وأن اللاهوت الأفريقي هو الدائرة الداخلية الأصغر في سلسلة الدوائر المركزية في داخل هذا اللاهوت.. فإني أعتقد أن لاهوت السود يمكنه أن يضيف الكثير إلى اللاهوت الأفريقي، فيمكن لاهوت السود أن يُذكَّر اللاهوت الأفريقي بدعوته الأساسية، وهي الاهتمام بالفقراء والمقهورين وبجميع الحاجات التي تهم أبناء أفريقيا”(14).

4- لاهوت التحرير الفلسطيني:

أصدر القس نعيم عتيق سنة 1948م كتاب ” الصراع من أجل العدالة ” حيث يقول في معرض حديثه عن لاهوت التحرير الفلسطيني إنه ” لا يخلق لاهوتًا جديدًا وفريدًا ومنفصلًا للمسيحيين الفلسطينيين وإنما هو محاولة من أجل إعادة اكتشاف التحرير الذي قام به السيد المسيح، والذي يجب أن نكون على علم به، ورؤية للسلام العادل مبنية على أساس الإيمان بالله وفي خطى المسيح في أسلوبه اللاعنفي” (لونا فرحات)(15).

كما تقول لونا فرحات ” فكيف يكون الله هو المحبة بينما يقبل بما يجري لهم من مآسي على أيدي اليهود، الذين يستعملون نصوص العهد القديم لدعم الظلم لا العدل. ومما زاد من صعوبة المسألة هو أن الكنيسة وقفت عاجزة عن تقديم إجابات لكل تساؤلات المسيحي الفلسطيني.. كيف يمكن للعهد القديم أن يكون كلمة الله في الوقت الذي استخدمته الصهيونية لتبرير معاناة الفلسطينيين؟ للخروج من هذه المآزق اللاهوتية يؤكد لاهوت التحرير الفلسطيني ضرورة وضع النصوص التوراتية في سياقها التاريخي، وهي تعكس مفهومًا بشريًا لله كان سائدًا في فترة تاريخية معينة وإن هذا المفهوم يساعد المسيحيين الآن لمعرفة كيف كان ينظر الله وكيف تغير هذا المفهوم بمجيء السيد المسيح. فأي حدث يقع في التاريخ يستطيع المسيحي أن يعرف ما إذا كان الله موافق عليه أم لا من خلال سؤال أنفسنا هل هذا الفعل يوافق طبيعة الله التي عرفناها في المسيح”(16).

ويؤكد القس نعيم عتيق إنه لا سلام مع الاضطهاد وغياب العدالة ” إن الصلة بين العدالة والسلام أساسية في العهد القديم، فقد شجب الأنبياء كل سلام كاذب يقوم على الاضطهاد، فالشرط الأساسي لتحقيق السلام هو العدل أولًا ثم يأتي السلام والأمن للجميع” (لونا فرحات)(17).

وأيضًا يؤكد القس نعيم عتيق أن الله هو مخلص المضطهدين، وعلى البشر أن يشتركوا معه في هذا الخلاص ولكن بدون عنف، فتقول ” لونا فرحات”.. ” فلاهوت الأمل الفلسطيني ينبع من إدراكهم أن الله يقف إلى جانب المضطهدين الذين يعملون من أجل يوم أفضل، ويواجهون الذين يضطهدونهم بخطيئتهم على أن يتمسك الجميع بالتقليد المسيحي المتعلق بمقاومة العنف. فالطريق التي يعلنها اللاهوت الفلسطيني لمقاومة الظلم هي طريق اللاعنف التي تمثل أسلوب يسوع وفلسفته القائمة على اللاعنف”(18).

وتقول لونا فرحات ” ولكن الكنيسة اتخذت موقفًا اعتبره القس عتيق موقفًا شجاعًا، وشكَّل تحوُّلًا كبيرًا في موقف الكنيسة تجاه ما يجري من أحداث. وذلك عندما عبَّر رؤساء الطوائف المسيحية في القداس تضامنهم مع الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال أثناء ذروة الانتفاضة في كانون الثاني من العام 1988م، وأصدروا بيانًا أعلنوا فيه عن وقوفهم مع الحق والعدل وضد كل ظلم وإجحاف”(19).

ودعى لاهوت التحرير الفلسطيني إسرائيل للتخلي عن أطماعها، كما دعى الفلسطينيين إلى محبة الأعداء، فتقول ” لونا فرحات”.. ” والجديد في لاهوت القس عتيق هو خطابه لإسرائيل بالتخلي عن حلمها بإنشاء إسرائيل الكبرى، فهو حلم غير واقعي وخطير، وإذا تحقق فلن يكون إلاَّ بواسطة قوة السلاح، ولن تستطيع العيش إلى الأبد خلف جدران تصنعها لنفسها.. وأخيرًا يوجه القس عتيق نداءًا إلى شعبه أن يحبوا أعداءهم عملًا بقول السيد المسيح أحب عدوك واصفح عنه وذكّره دائمًا بالعدل والحق”(20).

وفي الحقيقة إن مقاومة الهنود وقت الاحتلال لبريطانيا كانت مقاومة سلبية، فتصدى هؤلاء الهنود للقوة الغاشمة ورصاص الإنجليز بأجسادهم، ولم يقاوموا الشر بالشر، بينما لا نستطيع أن ننكر أن الفلسطينيين وصل بهم الحد في مقاومة العنف بالعنف إلى تفجير أنفسهم وسط مدنيين إسرائيليين، وهذا يبين لنا أن لاهوت التحرير الفلسطيني أمر نظري لا ينطبق على الواقع الفلسطيني.

5- لاهوت المجاعات Faminist Theology:

وهو يتصدى للمجاعات التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث، والتركيز على كرامة الإنسان كما يرتضيها الله، والمطالبة بتحرير المرأة.

6- لاهوت المجتمعات المسيحية Basic Christian Communities:

ونشأ هذا اللاهوت في المجتمعات المسيحية في فرنسا وإيطاليا وهولندا وأمريكا اللاتينية، وكان الهدف من هذا اللاهوت الخروج عن التقليد الأعمى الموروث حسب تصوُّرهم، والمناداة بكهنوت جميع المؤمنين، والقضاء على سلطة الإكليروس، والاستفادة من مواهب الشعب وطاقاته، والتركيز على أن شعب الله هو الذي يمثل الكنيسة، وتهيئة الفرصة لكل شخص لتكوين علاقة شخصية مع الله، وظهر هذا اللاهوت أيضًا في البرازيل بقيادة ” هيلدر كامارا” و”ليوناردو بوف”.

7 – لاهوت تحرير عربي إسلامي مسيحي:

يطالب الأب وليم سيدهم بالعبور إلى لاهوت مسيحي إسلامي يقاوم الفقر والظلم والقهر فيقول ” في ظل ظروفنا السياسية والاقتصادية والروحية الراهنة، هل نستطيع أن نقوم بقراءة مكانية لخبرتنا التاريخية الخاصة بنا لنبلور لاهوتًا مسيحيًا إسلاميًا، يساعدنا على التحرُّر من حالة التبعية على كل الأصعدة للعالم الغربي، ويفجر طاقاتنا على ضوء إيماننا المسيحي والإسلامي بدور الله المُحرّر”(21).

ويقول ” ميشيل يوسف شفيق ” في مقال له عن لاهوت التحرير تحت عنوان ” لاهوت الأرض والسماء ” مُعلِقًا على كتاب ” كلام في الدين والسياسة ” للأب وليم سيدهم وتقديم الأستاذ جمال البنا(22).. ” وبعد ذلك ينتقل الكاتب (الأب وليم سيدهم) إلى النقطة الرئيسية في الموضوع وهي البحث عن لاهوت تحرير عربي إسلامي من خلال فهم عميق للمجتمع العربي والمصري على وجه الخصوص. في هذا الجزء يعرض قضية بذل الآخر بين مختلف الأديان في مجتمعنا العربي وبالأخص بين المسيحية والإسلام والديانات الأخرى مثل الهندوسية والبوذية ويتعجب الكاتب من ذلك، ولذلك ينصح الكاتب بوجوب مواجهة التعصب بالفهم وهضم الأديان الأخرى حتى نستطيع التعامل معهم داخل إطار المجتمع بشكل صحيح وذلك يبدأ من الأسرة والمدرسة.. ومن الممكن أن يتم ذلك في مصر عن طريق التنسيق بين الدين الإسلامي والدين المسيحي.. دون الدخول في مهاترات الحوار بين الأديان.. ويأمل الكاتب في وجود لغة تواصل بين الديانتين الإسلامية والمسيحية في لاهوت تحرير مشترك نواجه به التعصب والإرهاب وازدواجية المعايير والقهر والظلم”(23).

ويتساءل د. حسن حنفي عن مدى إمكانية إبداع لاهوت تحرير إسلامي مسيحي فيقول ” فهل نستطيع أن نبدع لاهوتًا تحريريًا إسلاميًا مسيحيًا بالتعاون مع أصحاب الديانات الأخرى يتخذ من الروحانية التي تحملها أدياننا ترياقًا ضد الجمود والازدواجية والتعصب..؟ نستطيع في البداية أن نجيب بنعم.. ولاهوت التحرير هو أحد أوجه محاولة الدين أن يرتبط بالواقع وأن يعمل على تغييره وأن يجعل الناس متدينين ومناضلين، ومجددين وحديثين، ولا يتوقف الدين في هذه الحالة عند ما وراء الغيب وما بعد الحياة الدنيا، بل يضيف إلى ذلك الاهتمام بالفقر والحرية وحقوق الإنسان والعدالة والعولمة الأكثر إنسانية، لذلك نحاول الإجابة على تساؤل إمكانية الاستفادة من النماذج الرائدة في المسيحية والإسلام، وتهتم الورقة أكثر بالواقع الإسلامي وتبحث عن بذور لاهوت تحرير في الحركات الإسلامية والطرق الصوفية والاجتهادات الفردية”(24).

ويرى دكتور حسن حنفي أن هناك أسانيد قرآنية للاهوت التحرير تبيح استخدام السلاح للوصول إلى الحرية المنشودة فيقول ” وما أكثر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في {لاهوت التحرير} والتي أُحسن استعمالها في الثورة الإسلامية في إيران {ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} وارتباط الأديان بالله بالأمن ضد الخوف وبالإشباع ضد الخوف {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وأمَّنهم من خوف} وتنهار المجتمعات الإقطاعية عند بناء القصور للأغنياء وتعطيل الآبار للفقراء {وبئر معطلة وقصر مشيَّد} بل يجوز القتال بالسلاح دفاعًا عن النفس ودفعًا للعدوان {أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق} لاهوت التحرير تأويل للثنائيات الدينية التقليدية التي أرست قواعدها المانوية القديمة، الصراع بين النور والظلمة، الخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، والتي استمرت في الثنائيات الدينية المسيحية والإسلامية العالم والله، الدنيا والآخرة، الخير والشر، الجنة والنار، النعيم والعذاب، الثواب والعقاب، الذكر والأنثى، الملاك والشيطان.. إلخ إلى ثنائيات حديثة الصراع بين القاهر والمقهور، الغني والفقير، الظالم والمظلوم، الحاكم والمحكوم، المركز والأطراف.. إلخ.”(32)(25).

هذا بينما يستبعد د. ميلاد حنا الوصول إلى لاهوت عربي مصري فيقول ” وإلى الآن لم تتم صياغة مناسبة تُخرج المجتمع المصري أو العربي من الأزمة، لأن الخلفية الحضارية مختلفة ولا تنجب {لاهوت تحرير} فحتى الكنيسة المصرية الأرثوذكسية.. تدعو إلى الأفكار السلفية السائدة نفسها، ومن ثمَ فإن قيام لاهوت تحرير مصري أو عربي أمر غير وارد.. ولذلك فإن كاثوليك مصر، ممن تذوقوا {لاهوت التحرير} قادرون على تنشيط وتحريك الكتلة المجاورة لهم من {أقباط مصر} وهو بالتبعية وبحكم الجوار الحضاري قادرون على تحريك {شعب مصر} وأختم هذه المقدمة، بأن أعود إلى بدايتها وأقول كيف كنت عضوًا فاعلًا في النطاق الكنسي القبطي، ولكنني تركته لأنه كان جامدًا وسلفيًا. ولذلك طفت بعض الوقت خارج هذا المحيط، فعدت في نهاية العمر إلى نقطة الانطلاق، محاولًا أن أسهم في صياغة ميثاق أو برنامج يناظر لاهوت التحرير ويكون مصريًا عربيًا يناسب الجذور الحضارية في المنطقة”(26).

وخلال الفترة من 3 – 5 سنة 2003 عُقدت ندوة في كينج مريوط عن ” لاهوت التحرير إشكاليات ورؤى ” ضمت بعض المفكرين المسلمين والمسيحيين، وتحدث فيها كل من: د. أنور مغيث – د. حيدر إبراهيم – د. عاصم الدسوقي – الأب كريستيان فان ينسبان – د. محمد السيد سعيد – جمال البنا- ريتا يعقوب – فريدة النقاش – لونا فرحات – الأب وليم سيدهم اليسوعي – د. حسن حنفي – سليمان شفيق – سمير مرقس – د. ماجي عبد المسيح – د. يسري مصطفى.

8- لاهوت تحرير إسلامي:

يرى د. عاصم دسوقي أن النصوص الإسلامية التي تسمح بإقامة لاهوت تحرير إسلامي متوفرة ومتاحة، فيقول ” وقف الفقهاء مؤيدين لخطوات الثورة، واستخدموا من النصوص الدينية ما يؤيد اتجاهات الحرية والعدل والمساواة. بل لقد بدأ البحث في اشتراكية الإسلام وأبرز الأحاديث المناسبة مثل: أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه. الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار.. مقولة أبو ذر الغفاري {عجبت لرجل لا يجد قوت يومه! ولا يخرج على الناس شاهرًا سيفه}”(27).

ويرى الأستاذ جمال البنا أن حركة التحرير في الإسلام تشمل أولًا: تحرير القرآن من أكداس التفاسير، وثانيًا: تحرير الفقه مما لحق به على مدار ألف عام من مباركة السلطة الحاكمة، فيقول ” أخذت حركة التحرير المسيحي اسم {لاهوت التحرير} لأن اللاهوت هو جوهر العقيدة المسيحية والذي تتولاه الكنيسة وترى فيه جوهر اختصاصها، ولكن لما لم يكن في الإسلام لاهوت بهذه الصفة، فإن حركة التحرير تركزت حول إنقاذ أصل الإسلام وهو القرآن من أكداس التفاسير التي ميعت قوته وأصالته، وحفلت صفحاتها بمئات النقول من التوراة أو الاستشهاد بأحاديث ضعيفة أو موضوعة وأبيات شعر منحولة.. إلخ.. ويأتي بعد هذا تحرير الأصول التي قامت عليها قلعة الفقه الإسلامي والتي وُضعت منذ ألف عام دون تغيير، وقد صوَّرت دعوة الأحياء الإسلامي ودورها بالنسبة للقرآن في كتاب {تنوير القرآن} ودورها في تجديد الفقه في مجلد {نحو فقه جديد}”(28).

كما يرى الأستاذ جمال البنا “إن الأديان أضفت على الإنسان كرامة فهو في المسيحية واليهودية على صورة الله، وهو في الإسلام خليفة الله على الأرض. إن دعوة الإحياء الإسلامي ترفض كل النظم والنظريات التي تؤدي إلى قهر الإنسان سواء عن طريق الحكم السياسي أو الاستغلال الاقتصادي مهما تكن الأسباب والمبررات، فمن زاوية الأديان فهي آلهة مزيفة وطواغيت تحل نفسها محل الإله الرحمن الرحيم. إنها ترى في القرآن الوسيلة المثلى للهداية وترفض تقييده بالتفاسير، كما ترى أسوتها الحسنة في الرسول. إنها تؤمن بأن العمل مصداق الإيمان ومعيار الثواب والعقاب”(29).

هذا بينما يرى د. حيدر إبراهيم أن الوقت لم يحن بعد للاهوت تحرير إسلامي، فيقول “ومن هنا كان سؤال إمكانية تأسيس لاهوت تحرير إسلامي ضروريًا ومثيرًا للاهتمام. ولم يشهد العالم الإسلامي التغييرات الدينية التي جربتها أمريكا اللاتينية. أما الدول والجامعات الإسلامية رغم شعارات الإسلام دين ودولة مما يعني وجود الاهتمام بتلك القضايا إلاَّ أن الخطاب الإسلامي لم يصعد إلى مستوى لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية.. ولكن في النهاية نستطيع القول أن الظروف في العالم الإسلامي مازالت غير مواتية لقيام لاهوت تحرير، فالجماهير المتدينة تزداد في الغالب إما تعصبًا أو لا مبالاة”(30).

كما يقول د. حيدر إبراهيم مدللًا على أن الظروف مازالت غير مواتية لإرساء لاهوت إسلامي ” وهنا يفترق الإسلام الرسمي أو الأرثوذكسي Orthodox Islam عن الإسلام الشعبي Popular Islam حيث يحاول الإسلام الرسمي أن يدخل الحياة في النص المقدَّس بينما الإسلام الشعبي يتميز بأنه حي ومتغير -لأنه يفعل العكس- يسعى لكي يتوافق النص مع ممارسات وطريق حياة المتدينين.

إن الإسلام السياسي والمحافظ عمومًا استطاع تجييش الجماهير وتعبئتها خلف شعارات دينية غامضة مثل الإسلام هو الحل أو لا تبديل لشرع الله، وكسبت السلفية الإسلامية الشارع الإسلامي لأنها خاطبت عواطفه واستغلت مناخ الأزمة والعجز في هذه المجتمعات. أما المعسكر الآخر فإنه رغم اجتهاداته وجدة أفكاره ظل معزولًا ومحصورًا بين صفوة قارئة وباحثة لم تستطع أن تكسب الشارع، وهي عرضة باستمرار للاتهامات من القوى المحافظة مما جعلها في حالة دفاع مستمر ومكون من أجل البقاء فقط..

يقدم البعض الدين وكأنه آلهة حرب، إذ يقومون بالإقصاء والقضاء على الآخر غير مهتمين بالحوار والتعايش مع الآخر، فالأصوليات هي السائدة الآن والنظريات القائلة بصراع الحضارات (تقرأ صراع الديانات) هي التي تهيمن على التفكير وعلى السياسيات والعلاقات الدولية على الأقل في الولايات المتحدة الأمريكية، ولأن الحقبة الراهنة تشهد انحسار حركات التحرُّر عمومًا مقابل الهيمنة، لذلك تراجع لاهوت التحرير لأن القوى السياسية والحركات الاجتماعية التقدمية ضعفت مع سقوط النموذج الاشتراكي.. العمل الثقافي والفكري الذي يبغي الحداثة والتحديث مع تحولات ملموسة على مستوى التنمية الاقتصادية الشاملة هو الطريق نحو ربط الدين مع التقدم والتحرُّر، وهذا هو لاهوت التحرير الإسلامي، الذي قد يُمكّن الناس من بناء فردوسهم على هذه الأرض”(31).

_____

(1) مجلة الهدى – عدد 919 يناير 1990م ص 24.

(2) لاهوت التحرير في أفريقيا ص 119، 120.

(3) لاهوت التحرير في أفريقيا ص 130.

(4) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير في أفريقيا ص 98.

(5) لاهوت التحرير في أفريقيا ص 24.

(6) لاهوت التحرير في أفريقيا ص 25.

(7) المرجع السابق ص 25.

(8) المرجع السابق ص 26.

(9) لاهوت التحرير في أفريقيا ص 58.

(10) المرجع السابق ص 115.

(11) المرجع السابق ص 98.

(12) لاهوت التحرير في أفريقيا ص 107.

(13) لاهوت التحرير في أفريقيا ص 78 – 90.

(14) لاهوت التحرير في أفريقيا ص 101 -103.

(15) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 153.

(16) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 154.

(17) المرجع السابق ص 155.

(18) المرجع السابق ص 156.

(19) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 157.

(20) المرجع السابق ص 159.

(21) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 20.

(22) شقيق حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين.

(23) جريدة التجمع في 2/11/2003.

(24) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 81، 82.

(25) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 67.

(26) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 14، 15.

(27) المرجع السابق ص 176.

(28) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 53.

(29) المرجع السابق ص 56، 57.

(30) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 84، 85.

(31) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 88 – 97.

(32) وليم سيدهم – لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ص 27، 81 – الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير في أفريقيا ص 198.

Exit mobile version