كيف ربط دعاة لاهوت التحرير بين “لاهوت التحرير” والكتاب المقدَّس؟
140- كيف ربط دعاة لاهوت التحرير بين “لاهوت التحرير” والكتاب المقدَّس؟
ج: حاول دعاة لاهوت التحرير البحث عن جذور لأفكارهم من داخل الكتاب المقدَّس، ولم يتنبهوا إنه مادام هذا الفكر نابع من الكتاب، فكان يكفي العودة إلى المنابع الكتابيَّة، دون حاجة إلى اختراع تسميات يتخذها البعض شعارًا لهم، ويمزجونها مع الماركسية التي يرفضها الكتاب.
وعلى كلٍ فإن دعاة هذا الفكر قالوا إن لاهوت التحرير مأخوذ من العهدين القديم والجديد، ففي العهد القديم نرى الله يخلق الإنسان على صورته حرًا مريدًا، وإن قيمة الإنسان تنبع من أنه صاحب قراره، فهو حر في اختياراته، وعندما وقع بني إٍسرائيل تحت نير عبودية فرعون، قام موسى النبي وحررهم تحريرًا روحيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وتجاهل هؤلاء المفكرون أن المُحرّر الحقيقي هو الله، وما موسى وهرون إلاَّ أداة في يد الله.
وقالوا إننا نرى لاهوت التحرير في العهد الجديد، فقد وُلِد السيد المسيح في مزود، وعاش نجارًا بسيطًا فقيرًا، وشارك بذلك الفقراء، وفي مجمع الناصرة أعلن هدف لاهوت التحرير عندما قال ” روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب. لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأُرسل المنسحقين إلى الحرية. وأكرز بسنة الرب المقبولة” (لو 4: 18، 19).
وحثَّ السيد المسيح على مشاركة الفقراء، فقدم لنا مثل الغني ولعازر، وكشف عن صورة الغني الذي لم يهتم بالفقير لعازر البلايا وكيف كانت نهايته في الهاوية. أما لعازر فصار في حضن إبراهيم (لو 16: 19 – 31) وأوصى السيد المسيح الشاب الغني بأن يبيع أملاكه ويوزعها على الفقراء (لو 18: 18 – 25) وإن كان أصحاب لاهوت التحرير يستخدمون هذه الأمثلة فإنهم في الحقيقة يرفضون أسلوب العطاء لأنه في نظرهم يُنقص من كرامة الفقير، ويطالبون بإصلاح مجتمعي ليصير المجتمع اشتراكيًا فلا يكون هناك فقراء، وهذا ضد الواقع، بل إننا قد رأينا ما نجم عن الشيوعية من مآسي وآلام وعذابات وموت ودمار، أمور تفوق الوصف.
وقال أيضًا دعاة التحرير أن السيد المسيح حرَّر المرأة، لأن الشريعة اليهودية كانت تحاسب الزانية ولا تحاسب الزاني. أما السيد المسيح فقال ” من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه” (مت 5: 28) وتغافلوا أن الشريعة كانت تحكم على الزاني والزانية معًا ” وإذا زنى رجل مع امرأة فإذا زنى مع امرأة قريبة فإنه يقتل الزاني والزانية.. وإذا إتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة. بالنار يحرقونه وإياهما” (لا 20: 10 – 14) وقالوا أيضًا أن السيد المسيح حرَّر المرأة من قيود وظلم الطلاق.
كما قال دعاة لاهوت التحرير أن السيد المسيح شارك الإنسانية المتألمة عندما شفى المرضى، وفتح أعين العميان، وأقام الموتى، ورُفِع على خشبة الظلم والعار حسدًا، ويقول القس الدكتور صموئيل حبيب ” ورغم أن السيد المسيح لم يكن رجل سياسة بالمعنى المعروف، ورغم إنه لم يتدخل في السياسة بصورة مباشرة، إلاَّ أن كلماته كان لها مضمون سياسي، فدفاعه عن الفقير مقابل الغني، وثورته على الأغنياء، الذين كانوا يستغلون الهيكل في التجارة، عندما طهَّر الهيكل (مت 21: 12، 13) ودفاعه عن المرأة ومكانتها في المجتمع، ومساندته للمظلومين، كانت كلها تتضمن جوانب سياسية، وأخيرًا ارتفع السيد المسيح على خشبة الصليب، بقرار سياسي، حيث دفع ثمن ثورته على الظلم، فكان الصليب فداء للروح والجسد، وكانت القيامة انتصارًا على الظلم الإنساني.
من هنا نرى أن لاهوت التحرير، يبني أساسًا على تاريخ تعامل الله مع البشرية، وهو تاريخ يبنى على تحرير المجتمع كتحرير الفرد، ليكون سيد ذاته، وليكون إنسانًا بمعنى الكلمة، كما خلقه الله، فالخلاص لا يتم فقط في التحرير، بل إن التحرير هو المركز الهام للخلاص.
ويسوع المسيح هو المُحرّر(1) وقد كان فداء المسيح بهدف تحرير الإنسان، والحرية المقصودة ليست روحية فقط وليست فردية فقط(2) ففي نظر لاهوت التحرير، إن التحرير عمل سيادي(3) فملكوت الله في العالم ملكوت البشر(4) فالملكوت في العالم، وللعالم، إنه حقيقة تاريخية..”(5).
كما يرى الأستاذ سليمان شفيق إن لاهوت التحرير مبني على مفهوم الحب المسيحي الشامل للمظلوم وللظالم أيضًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فيقول ” فالحب الشامل في مفهوم لاهوت التحرير هو الذي يتضامن مع الكادحين يعمل على تحرير الطغاة من طغيانهم ومن تطلعاتهم المريضة ومن أنانيتهم، ومما قيل في هذا الصدد أن حبنا للعائشين في الخطية بشكل موضوعي يتطلب منا أن نناضل لتحريرهم منها، بذلك يتم تحرير الفقراء وتحرير الأغنياء في الوقت نفسه، يجب على المسيحي أن يحب جميع الناس، ولكن بطريقة مختلفة: فنحن نحب المقهور بدفاعنا عنه بتجريده من أغلال القهر، أما الطاغي فنحن نحبه بتوجيه النقد إليه ومحاربة طغيانه، فكلا الموقفان نابعان من محبة مسيحية تشمل الطرفان”(6).
ويجب أن نلاحظ أن لاهوت التحرير يدور حول الإنسان، وليس حول الله والدين، فيقول يوسف رامز “الإنسان قبل الأديان: وفي لاهوت التحرير عُرفت الأديان من أجل الإنسان، وليس الإنسان من أجل تحقيق النموذج الديني، الإنسان بوصفه تجربة روحية وليس نموذجًا، فرسالة الله للإنسان ليست من أجل تغيير الإنسان بل هي بعثًا لتحريره، وليست لوضع الإنسان تحت إمرة القوة المتمثلة في رجال الدين بل هي سعي نحو الله القوة المُحرّرة للإنسان من القهر المركب.. فلم يعد ممكنًا أن نقبل تفسيرات وتأويلات وضعت أمام المكاتب المكيفة أو من بطون الصحراء.. فمن قلب الصحراء لا يمكن أن يقود المتصوفة (يقصد الآباء الأساقفة) العالم الذي سبق وأن رفضوه وتركوه، يكفي أن يرفعوا صلوات كثيرة من أجله!! ومن فوق المكاتب المكيفة لا يمكن أن نسمع زفرات المقهورين والمهمشين، وأصحاب الأجساد المشدودة نحو السماء لا يمكن أن تقود الكادحين في حقول الحياة من أجل الحق والحياة”(7).
كما يعتقد دعاة لاهوت التحرير أن الأولوية للفرد قبل المؤسسة، فقالوا إن المؤسسات في أمريكا اللاتينية لها الأولوية عن الفرد مع إن هذه المؤسسات لا يمكن أن تكون ناجحة وفاعلة إلاَّ إذا تمتع الأفراد بالكرامة والاحترام، فالفرد خليقة الله وصورته أما المؤسسة فهي من إبداع الإنسان، ونادى أصحاب هذا الفكر بالتغيير الذي يبدأ من القاعدة الشعبية، فقالوا إن التجربة أثبتت فشل الثورات المسلحة التي يقوم بها حفنة من الضباط، فالثورة الحقيقية هي التي تبدأ من القاعدة الشعبية، بناء على مفهوم صحيح للإنسان وعلاقته بالكون وبالله كما أوضح ذلك ” باولو فريري ” أعظم لاهوتي التحرير بالبرازيل.
ولا يفوت علينا أن نظرة أصحاب لاهوت التحرير للسيد المسيح نظرة غير صحيحة، لأنهم يركزون على إنسانيته أكثر من إلوهيته، فيقول الأب وليم سيدهم ” أما النقاط التي تعتبر مشتركة في جميع تيارات لاهوت التحرير فإنها مقبولة وإيجابية، حتى وإن كانت هناك بعض نقاط تحتاج إلى مناقشة، كالانطلاق من إنسانية المسيح دون إلوهيته، وهي نظرة تُنعت بالمسيحانية القاعدية”(8). إنهم يتغافلون أن السيد المسيح هو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين إلهية وإنسانية.
كما تغافل أصحاب هذا الفكر أن السيد المسيح قد افتقر لكي يغنينا ” فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح إنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره” (2كو 8: 9) وتغافلوا أيضًا أن سر الغنى الحقيقي هو في اقتناء الكنز الحقيقي اللؤلؤة كثيرة الثمن ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، وكم من أغنياء اختاروا حياة الفقر الاختياري من أجل محبتهم في الملك المسيح وسكنوا الجبال والمغائر وشقوق الأرض وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم، ولذلك يقول معلما بولس الرسول ” كفقراء ونحن نغني كثيرين” (2كو 6: 10).
وتغافل أصحاب لاهوت التحرير أن السيد المسيح هو المُحرّر الحقيقي الذي يُحرّرنا من سلطان الخطية والشيطان والموت، ومن يُحرّره الابن لا يضايقه أن يكون فقيرًا أو محرومًا من الأمور الأرضية، لأنه يعلم جيدًا أن ما هي الأرض إلاَّ دار غربة وعبورًا للعالم الآتي، وإن معلمنا الصالح صرَّح قائلًا ” مملكتي ليست من هذا العالم” (يو 18: 36).
_____
(1) جبليني ص 120.
(2) جبليني ص 56.
(3) بوف ص 13.
(4) بوف ص 79.
(5) لاهوت التحرُّر ص 29، 30.
(6) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 187.
(7) جريدة التجمع في 23/9/2003.
(8) لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ص 115، 116.