138- كيف ارتبط “لاهوت التحرير” بالمجمع الفاتيكاني الثاني؟ وما هو رد فعل الفاتيكان ضد لاهوت التحرير؟
ج:
وُلِد لاهوت التحرير في أحضان الكنيسة الكاثوليكية، أو قل ردًا على تحيز الكنيسة لطبقة السلطة والأغنياء على حساب الفقراء والمظلومين والمقهورين والمهمشين. حقًا إن لاهوت التحرير يعتبر وليد انفتاح المجمع الفاتيكاني الثاني على العالم، فيقول الأب وليم سيدهم ” إن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني فتح بابًا لا يمكن إغلاقه مرة أخرى، وهذا الباب هو ضرورة انفتاح الكنيسة على العالم.
وفي الوثائق المجمعية ظهر العالم بجوانبه المضيئة فقط، وحينما أخذت الكنيسة في الدخول إلى العمق في خدمة العالم، بدأت تعي المتطلبات التي عليها أن تعيشها هي، إن كانت جادة في عملية انفتاحها على هذا العالم. وبرز إلى السطح تساؤل من الواجب الرد عليه: ما هو موقف الكنيسة من الصراع الطبقي والعنف؟”(1) ومن المسلم به أن الصراع الطبقي هو الذي أفرز لنا لاهوت التحرير، ولذلك رغم وجود تيارات مختلفة تحت مسمى لاهوت التحرير فإن جميعها تتفق على ” قبول الوثائق التي أقرَّها المجمع الفاتيكاني الثاني، ولاسيما الوثائق التي تبحث في التزام الكنيسة بقضايا المجتمع والتي تتضمن رؤية جديدة لشرح الكتاب المقدَّس”(2).
كما يعتبر “لاهوت التحرير” ثمرة من ثمار المجمع الفاتيكاني الثاني، فيقول الأب وليم سيدهم ” تعدَّدت التيارات اللاهوتية في أوربا، والذي ساعد على ذلك هو زيوع الاتصالات بين مختلف العلوم الإنسانية، ووجود اللاهوت نفسه أمام تساؤلات إيمانية من نوع جديد، أثارتها الاكتشافات العامة الجديدة وقيام المجتمعات الصناعية، ففي هذا الإطار تعدَّد منشأ التيارات اللاهوتية، وأصبح التعبير عن الإيمان بالله، والتعبير عن هوية الإنسان يتداخلان إلى حد بعيد.. هنا نشأت تلك العلاقة الخاصة القائمة بين الجانب اللاهوتي من جهة، والحديث عن الإنسان من جهة أخرى، أي بين ما يُسمى علم اللاهوت وعلم الإنسان بعد انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني خاصة. وانطلاقًا من الآفاق والمناهج المختلفة التي كانت تحرك المفكرين في ذلك الوقت، ظهرت التيارات الآتية: اللاهوت المدرسي الجديد، واللاهوت الأنثربوجي الترانسندنتالي، واللاهوت الخاص بالحقائق الأرضية، واللاهوت السياسي.. إلخ..
المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965م) وتكوين لاهوت التحرير في الجنين: وُلِد لاهوت التحرير واستمد شرعيته على مستوى المؤسسة الكنسية الكاثوليكية من حضن المجمع الفاتيكاني الثاني بطريقة بطيئة ومتدرجة، إذ لا يُخفى على أحد أنه في أثناء هذا المجمع الكبير، حدثت مواجهة بين أنصار اللاهوت المدرسي الجديد (وهو إعادة قراءة القديس توما في ضوء معطيات العصر الجديد) الذي كان منتشرًا في مجمل الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الوقت، وأنصار التيارات اللاهوتية الأخرى التي ذكرناها، وقد اتخذت هذه المواجهة أحيانًا اتجاهًا مأسويًا.
وكان من نتيجة هذه المواجهة أن التيارين الرئيسيين في المجمع أن توصَّل المجتمعون إلى صيغة توفيقية ترضي جميع الأطراف، انعكست بوجه واضح في المُركَّب العقائدي الذي ظهر في الدساتير المجمعية الآتية:
1- نور Lumen Gentium وهو عبارة عن رؤية جديد للكنيسة.
2- كلمة الله De Verbum الذي يبحث في علم التفسير الكتابي.
3- فرح ورجاء Gaudium et spes المتميز بانفتاح الكنيسة على العالم.
4- الكرامة الإنسانية Dignitatis Rumanae الذي تطرَّق إلى الحرية الدينية.
ولا شك أن جميع تلك الوثائق المجمعية وغيرها قد حملت في طياتها بذور التوتر الذي انفجر على الملأ في الفترة التي تلت المجمع، ولاسيما في القارة الأمريكية اللاتينية”(3).
وخلال فترة انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني أُنتخب ” مانويل لارين ” Manuel Larrain أسقف تشيلي رئيسًا لمجلس أساقفة أمريكا اللاتينية، وهو صاحب فكرة إقامة مؤتمرات تجمع أساقفة أمريكا اللاتينية.
مؤتمر المكسيك: عُقد في ” أزتيك ” خلال الفترة من 11 – 15 أغسطس 1975م، وحضره 700 شخص منهم إحدى عشر أسقفًا، وخمسين لاهوتيًا، وعدد من الكهنة والعلمانيين وعلى رأسهم ” جاسباري ” Pio Gaspari السفير البابوي في المكسيك، كما حضره الأب ” ليوناردو بوف ” الفرنسيسكاني صاحب كتاب ” يسوع المسيح المُحرّر ” وكان موضوع المؤتمر ” التحرير والعبودية ” وكان هدف المؤتمر تقييم مسيرة لاهوت التحرير مع العزم على مواصلتها، ولاسيما إن هذا المؤتمر عُقد في غياب أي تمثيل رسمي لمجلس كنائس أمريكا اللاتينية.
وتميز هذا المؤتمر بثلاث ملاحظات رئيسية:
أ – زيادة الوعي الجماعي، ولاسيما بعد زيادة الانشقاق بين لاهوتي التحرير، ومجلس أساقفة أمريكا اللاتينية.
ب- حضور عدد كبير من الوجوه الجديدة التي تمثل الجيل الثاني للاهوت التحرير.
ج- تبادل التوضيحات المنهجية مع احترام التعددية بين المجتمعين، فتم قبول الرأي والرأي الآخر.
ومن المواضيع التي أُلقيت ” إعادة قراءة الكتاب المقدَّس ” التي قدمها ” خوزيه لوزا ” Jose Loza المكسيكي، وقدم الأسقف ” صموئيل رويز ” Samuel Ruiz ملاحظاته حول بعض القصور في لاهوت التحرير مثل نظرته إلى الكنيسة، ومفهومه للروح القدس، وعلاقته بالمؤسسة الكنسية.
وفي سنة 1976م كلف البابا بولس السادس “اللجنة اللاهوتية الدولية” القيام بدراسة خاصة حول ” لاهوت التحرير ” ولاسيما أنه أُنتقد من سنيودس روما سنة 1974م، كما إنه لم ينل رضى مجلس أساقفة أمريكا اللاتينية الذي انعقد في ليما سنة 1975م، فعقدت اللجنة اللاهوتية الدولية اجتماعها السنوي خلال الفترة من 4 – 9 أكتوبر سنة 1976م، وشارك فيها ممثلون من أسبانيا والأرجنتين والبرازيل، وصدر عنها وثيقة وأربعة تقارير ملحقة، وجاء في مقدمة الوثيقة الإشارة إلى علاقة لاهوت التحرير بالمجمع الفاتيكاني الثاني، وظهور تيارات مختلفة تنتمي للاهوت التحرير، والخوف من تسييس البشارة والتأثير على وحدة الكنيسة. ثم أشارت الوثيقة للنقاط الآتية:
نقطة انطلاق لاهوت التحرير – ظهور نمط جديد من اللاهوت وما يثيره من صعوبات – التركيز على بعض وجوه اللاهوت الكتابي – الاعتبارات التنظيمية واللاهوتية
أولًا: نقطة انطلاق لاهوت التحرير:
سبب انتشار الفقر وغياب العدالة.
ثانيًا: ظهور نمط جديد من اللاهوت وما يثيره من صعوبات:
أ – فهم جديد لمعنى الملكوت، فالملكوت يشمل الأرض.
ب- خطر إخضاع كل شيء للمناقشة والتسيّيس.
ج- التركيز على التنديد النبوي كما كان يفعل أنبياء العهد القديم في مواجهة الظلم.
ثالثًا: التركيز على بعض وجوه اللاهوت الكتابي:
أ – قراءة العهد القديم من زاوية علاقته بموضوع التحرير.
ب- درس العهد الجديد أيضًا واستخلاص معنى التحرير المسيحي.
رابعًا: الاعتبارات التنظيمية واللاهوتية:
أ – مكانة الله والإنسان في عملية التحرير، ومعنى التحرير الشامل.
ب- ما هي العلاقة القائمة بين “ترقية الإنسان” و”خلاص الإنسان” في داخل الكنيسة؟ وما معنى الحياد و”عدم الانحياز”؟ ولماذا ترفض الكنيسة التزام الكهنة بالسياسة؟ وما هي رسالة العلماني؟
كما أشارت الوثيقة في الختام إلى الأخطار الكامنة في قبول التعددية، ووضعت تحفظاتها على لاهوت التحرير(4).
وفي عام 1982م أصدر “مجمع العقيدة الإيمانية” وثيقة هامة إثر اجتماع عقده رئيس هذا المجمع الكاردينال “رايتسنغر” مع أساقفة دولة بيرو، وشملت الوثيقة عشر ملاحظات نقدية للاهوت التحرير، حتى إنها اعتبرت لاهوت التحرير نسخة معدّلة من الأيديولوجية الماركسية، وإن هذا اللاهوت ” حوَّل المسيحية إلى مجرد عنصر من عناصر التعبئة على الثورة”(5).
وفي سنة 1984م صدرت الوثيقة الثانية ” شبه الرسمية ” وسلمها الكاردينال؟ رايتسنغر ” إلى المجلة التي تدعى ” ثلاثون يومًا ” فنشرتها في 4 مارس 1984م وظهر فيها النبرة الحادة ضد لاهوت التحرير الذي أُعتبر أنه نابع من رؤية مختلفة تمامًا عن الرؤية المسيحية، ووُصف بأنه لاهوت هدام، فأثارت هذه الوثيقة لغظًا مما دعى الكاردينال ” رايتسنغر ” لعقد مؤتمرًا صحفيًا يوضح وجهة نظره بصورة أكثر اعتدالًا، ثم قام ” ليوناردو بوف ” وشقيقه ” كلودفيس بوف ” بالرد على ما جاء في الوثيقة بصورة متزنة تحت اسم ” صيحة الفقراء”.
وفي 6 أغسطس 1984م صدرت أول وثيقة رسمية عن مجمع العقيدة الإيمانية بالفاتيكان بعنوان ” تعليم حول بعض وجوه لاهوت التحرير ” فجاءت أخف نبرة من الوثيقة السابقة، وغلبت عليها لهجة التعليم.
وفي 22 مارس 1986م صدرت وثيقة أخرى رسمية عن مجمع العقيدة الإيمانية بالفاتيكان تُكمّل الوثيقة السابقة، وظهر فيها تأثير المجمع الفاتيكاني الثاني فناقشت مواضيع البحث عن الحرية، ورسالة الكنيسة المحرّرة، وعقيدة الكنيسة الاجتماعية من أجل ممارسة مسيحية للتحرير، وناقشت مشاكل البطالة واللاجئين.
_____
(1) المرجع السابق ص 98.
(2) المرجع السابق ص 111.
(3) لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ص41، 42.
(4) راجع الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ص 67، 68.
(5) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ص 73.