عام
دراسة في الذبائح والتقدمات في الكتاب المقدس (الجزء 1) أصل وطبيعة الذبيحة ونظرية تقدمها.
دراسة في الذبائح والتقدمات في الكتاب المقدس
الذبيحة טֶבַח– ط ب ح ؛ θυσίας σΦάζω
Sacrifice 166 – Sacrifices 142 – Sacrificing 12
1– مقدمـــــــــــــــة عامة
أ – مقدمــــــــــة
أولاً: تعريف المصطلحات ( الذبائح والتقدمات )
أن كلمة أو لفظة [ التقدمة ] الخاصة بتقدمة الذبيحة: هي الكلمة العربية المكافئة للعبرية، فهي تُفيد منحه لا تُرد لأنها تُذبح، أي هدية أو عطية عن طيب خاطر، هديه كاعتراف بالجميل، أو تقدمة لكسب تحالف أو منع شرّ.
والذبيحة في اللغة الإنجليزية مأخوذة من مجموعة كلمات لاتينية تعني ” شيئاً مقدساً ” أو ” تقديس ” ( أي أنها تُشير إلى جعل شيء مُقدساً أو تكريسه وتخصيصه ووقفة على لأن التقديس يعني التخصيص على نحو خاص جداً )…
وبعض الباحثين يستخدمون المعنى الأول ( التقدمة ) ليعني تقديم شيء كمنحة أو هبه، والكلمة الثانية ( ذبيحة ) لوصف الهبة على أنها شيء عُرض وقُدم على وجه الخصوص لكائن إلهي. وآخرون يستخدمون كلمة ذبيحة للإشارة إلى أي تقدمة تتضمن طقس ذبح حيوان. وفي كلتا الحالتين تٌعتبر ” التقدمة ” أو ” القربان ” تعبيراً عاماً بأكثر مما هو الحال لكلمة ذبيحة، لأن التقدمة يتم فيها تقديم أي شيء ومن ضمنها الذبيحة، أما الذبيحة فهي تختص بالذبح فقط…
+ والمصطلح العبري ” يُقدم قرباناً ” هو جمع بين الفعل يُقدم وقَربَ، أو يُقدم قُرباناً: ” ودعا الرب موسى وكلمه من خيمة الاجتماع فقال: قل لبني إسرائيل: إذا قرب أحدٌ منكم قرباناً للرب، من البهائم ” ( لا1: 1و2 )؛ ” وإذا قرب أحد قرباناً تقدمة للرب، فليكن قربانه دقيقاً يُصب عليه زيتاً ويضع لُباناً ويجيء به إلى بني هارون، الكهنة، فيأخذ الكاهن ملء قبضته عينة من الدقيق والزيت وكل اللبان ويوقدها على المذبح وقيدة تُرضي رائحتها الرب. وتُذكره بمقدمها ” (لا2: 1و2 )… وهكذا
عموماً تعبير ” قرب قرباناً ” يُقدم السياق اللازم لتقديم ذبيحة المحرقة وتقدمة القُربان، وذبيحة السلامة. وكان بوسع الشخص أن يُقرَّب قُرباناً، قد يكون تقدمة مُحرقة (لا1: 3) وهي تقدمة ذبح حيوان، أو قربان تقدمة (لا2: 1) وهي تقدمة بلا ذبيحة، أو ذبيحة سلامة (لا3: 1)، ونلاحظ أن الكلمة العبرية ” ذبيحة זֶבַח ” لا ترد في ( لا 1 – 3 ) حتى ( لا 3: 1 )، فالتركيز الأول كان على التقدمة وبعدها الذبيحة.
عموماً نجد أن كلمة ” قربان ” تُستخدم كتعبير شامل لتقديم الذبائح الحيوانية أو الغير حيوانية، وحتى بالنسبة للتي تُذبح خصيصاً لأكلات جماعية، وتعبير ” نظام الذبائح ” يُمكن استخدامه للإشارة إلى جميع ذبائح وتقدمات العهد القديم ككل.
وفي نظام التقدمة والذبائح في العهد القديم، نجدها معروفة على المستوى الأكاديمي والشعبي بأن تفاصيلها كثيرة وقد تبدو لنا معقدة جداً وصعبه للغاية، ولا يوجد تفسير مفصل لها، وذلك بسبب الطبيعة المتأصلة في العمل الطقسي نفسه، والمعنى أساساً يُفهم من العرض والسياق وليس من الشرح.
+ أما بالنسبة للكلمة اليوناني prosphora – προσφορα فهي تعني في الأصل: إحضار، تقديم. وقد اُستخدمت بمعنى تقديم الهبات الذبائحية، ثم بوجه خاص تقديم الطعام، خاصة في شكل تقدمة حبوب. وقد أُستخدم الفعل prosphero προσφέρω لعمل التقدمة وجعلها في شكل عطية ، وقد أتى التعبير ليُشير إلىالخضوع الكامل للألوهة.
ثانياً : أصل وطبيعة الذبيحة ونظرية تقدمها
إن أصل نشأة تقديم الذبائح أمر تحوطه الأسرار وكثير من الغموض، وذلك لأنه يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ أو على نحو أدق قبل تدوين التاريخ بشكل منظم وتدقيق في الأحداث بتفاصيلها الدقيقة. ويُسجل لنا سفر التكوين حقيقة تقديم الذبائح، ولكنه لا يذكر شيئاً عن كيفية بدايتها. كما أننا نقرأ عنها في عصور الآباء، ثم نجد شريعة موسى في النهاية تقرها وتقننها بأمر إلهي.
وعموماً نجد أن تقديم الذبائح أمراً شائعاً عند كل الشعوب منذ أقدم العصور مما أحدث الخلط – عند البعض – ما بين تقديم هذه الشعوب وبين ما قُدم في الكتاب المقدس، ونجد أن أنواع الذبائح التي تقدم عند الشعوب، يا إما من الحيوانات أو البشر أو تقدمة من البقول أو العسل أو أي نوع من أنواع الطعام أو من الأشياء مثل حصاه أو عصا أو حربه … الخ …
وقد افترض علماء الثقافة وعلم الإنسان وعُلماء الاجتماع، ومؤرخو الديانات الكثير من النظريات المختلفة – بعيداً عن الكتاب المقدس – عن أصل وأهمية شيوع تقديم الذبائح بين كل الشعوب كظاهرة دينية والتي تتمثل معناها في ( الهبة كشكر للإله، الوجبة أي كشركة مع الإله، التقديس، الرضا، التكفير ) ، وتتلخص هذهالنظريات والتحليلات في الآتي :
1– النظرية النفسية لتخفيض القلق من خلال تقديم ذبائح لأحد الآلهة
2– النظرية السحرية والتي تقول بأن هلاك الذبيحة التي تم التضحية بها تتسبب في إطلاق قوة سحرية لصالح مقدم الذبيحة.
3– ويعتبر العلماء أن تقديم الذبائح عموماً من ابتكار الإنسان لتكوين علاقة مودة مع الإله أو لإكرامه أو لاسترضائه، أو لمشاركته الطعام للدخول في عهد معه.
4 – اعتقاد بعض العبادات بوجود روح الإله في حيوان ما، وإذ يأكل الإنسان (العابد لهذا الإله والمؤمن به) من الذبيحة فهو يأكل الإله ويكتسب في نفسه كل الصفات الجسمانية والعقلية والأدبية التي للإله الساكن في الذبيحة. وفي بعض الحالات كان العابد يشرب دم الذبيحة وبذلك – حسب اعتقاده الخاص – يمتص منها الحياة والقوة. كما كانوا في بعض الحالات ينهشون لحم الحيوان قبل أن يموت تماماً، أي وهو لا زال ينبض بالحياة، حتى يمتصوا روح الإله الذي يسكنه !!!
5– نظرية المنحة، وقد أطلقها تيلر Tyler سنة 1871 والتي يقول فيها إن الذبيحة منحة أو هبة مقدمة، فقد اختزل كافة القرابين والذبائح إلى الفكرة الآلية الخاصة بالتبادل أو الرشوة بمعنى: “أُعطيك لكي تعطيني أيضاً مقابل ما أعطيتك وقدمته لك“، وفلسفة هذه النظرية أتت من أن الذبيحة الحيوانية تعوزها السمة الأخلاقية لذلك ليس لها – في الأساس – أي مغزى أخلاقي هام، ولم تكن تعبيراً عن العبادة الحقيقية بأي شكل كان، بل كانت في جوهرها، عملية تجارية كتلك الموجودة بين البشر والمبنية على خد وهات !!!
مع أن هذه النظرية لا تتفق – مثل كل ما سبقها – مع جاء في تكوين 4، والذي يعد أول ذكر لقربان الحبوب أو ثمار الأرض والذبيحة الحيوانية في تاريخ البشرية، طبقاً لما جاء في الكتاب المقدس. وعلى عكس هذه النظرية: يبدو أن قايين وهابيل قَدَما قربانهما إجلالاً واحتراماً لله كإله شخصي يقدمون له الشكر على ما أعطاه لهما ، وذلك لكي يكسبا رضاءه، ومن الواضح أن الله في هذا الموقف لا يتأثر بالعطية أو معطيها على أساس رشوة أو شيء مقابل شيء، أو حتى مقابل رضاؤه كفعل مقدم له من الخارج، فالله أظهر بوضوح شديد أنه ينظر أولاً للقلب والنية والضمير وليس للعطية في حد ذاتها مهما عظمت أو كبرت، فالله مهتم بالنواحي الأخلاقية الداخلية، وبالاستجابة لأقواله .
فنلاحظ أن الله استجاب لشخص ولم يستجيب لآخر: ” و لكن إلى قايين و قربانه لم ينظر فاغتاظ قايين جدا و سقط وجهه ” (تك 4 : 5)، ويشرحها القديس بولس الرسول ويقول في عبرانيين: ” ليس كما كان قايين من الشرير و ذبح أخاه ولماذا ذبحه لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة ” (1يو 3 : 12)، ومن هنا نفهم أن الله لا يرتشي أو ينظر لقربان مقدم حتى لو كان تنفيذاً للوصية، إن لم يكن مقدم من الداخل بقلب طاهر.
6 – أما علماء الكتاب المقدس فيقولون إن تقديم الذبائح أمر وضعه الله للإنسان منذ البداية ( مع أن ذلك غير مؤكد ولا يوجد أمر أو وصية محددة قبل شريعة موسى )، ويبنون ذلك على أساس ما جاء في الإصحاح الرابع من سفر التكوين حيث نقرأ: ” أن قايين قدم من أثمار الأرض قرباناً للرب، وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الرب إلى هابيل وقربانه. ولكن إلى قايين لم ينظر ” (تك4: 3و4)، وفي رسالة العبرانيين يقول: ” بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين ” (عب11: 4)، فالله مستحيل أن يرفض أي عطية مقدمة من أي نواع من إنسان يتقيه ومن الداخل قلبه صالح يحترمه ويحبه، وكما نجد في سفر اللاويين أن الله لا يقبل فقط الذبائح الدموية بل هناك عطايا أخرى تُقبل من الإنسان كما سوف نرى فيما بعد من خلال بحثنا هذا …
ويقول “فابر” Faber: [ حيث أن الإيمان هو الذي جعل الذبيحة مقبولة أمام الله، فلابُدَّ أن هذا الإيمان كان على أساس وصية محددة من الله، أمر بها من قبل ( وطبعاً هذا الكلام غير مؤكد، حيث أنه لم يظهر أي وصية أو أمر إلهي بذلك )، فبدون هذه الوصية الإلهية المحددة لضمان فاعلية الذبيحة، لا يكون ثمة معنى لإيمان هابيل. وبعبارة أخرى: لكي يكون للإيمان أساس ثابت وتوجه صحيح، لابد أن يكون هذا الأساس بإعلان من الله يُعبَّر عن إرادة الله بكل دقة ووضوح ]بل ويذهب “فيربرن” Fairburn في كتابه ” رموز الكتاب ” إلى أبعد من ذلك فيؤكد على أن الجلود التي ألبسها الله لآدم وحواء ليستر عريهما، كانت جلود ذبائح قُدمت عنهم، وبالطبع لا يوجد ما ينفي ذلك في الكتاب المقدس وممكن قبوله بشكل كبير لأجل المعنى الذي قصد إعلانه الله في سفر التكوين بناء على النبوات وعمل الله في كساء الإنسان بالنعمة بتجسد الكلمة.