135- هل يمكن إلقاء الضوء على الخلفية التاريخية لأمريكا اللاتينية التي أفرزت لنا “لاهوت التحرير”؟
ج: ظهر لاهوت التحرير في قارة أمريكا الجنوبية التي يعيش فيها نحو نصف مليار من البشر، فقد اكتشف ” كريستوف كولمبس ” أمريكا اللاتينية سنة 1492م، فوفد إليها الأوربيون ولاسيما من أسبانيا والبرتغال واستغلوا ثرواتها لحساب الوطن الأم، على حساب السكان الأصليين، حيث قامت هذه الدول الأوربية باستغلال ونهب مناجم الذهب والفضة، واحتكرت التجارة في هذه المستعمرات، فمثلًا أقامت أسبانيا في أمريكا اللاتينية ستة عشر مدينة ربطتها بمدريد (عاصمة أسبانيا) بهدف استنزاف الموارد الطبيعية لهذه المدن..
ثم ارتبطت أمريكا اللاتينية بعد ذلك بالولايات المتحدة، فلم تكن أسعد حالًا، ويقول سمير مرقس ” لقد كان اكتشاف أمريكا اللاتينية {المنحة الصدفة} التي جاءت للأوربيين حيث وفرت لهم رصيدًا لا حد له من الذهب والفضة.. إن نهضة أوربا جرت ومازالت تجري على حساب عمليات التخريب والقتل الجماعي واستنزاف الموارد الطبيعية للقارة الجديدة، بيد أن دول أمريكا اللاتينية ظلت واقعة تحت نير الاستعمار الأوربي زهاء القرنين. وما أن بدأت هذه الدول تحقق استقلالها حتى وجدت نفسها خاضعة لاستعمار بريطاني جديد ما لبثت أن ورثته سريعًا القوة العالمية البازغة الجديدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية..
وبالفعل ففي عام 1823م أرسى الرئيس الأمريكي ” جيمس مونروا ” المبدأ الذي عُرف باسمه ” مبدأ مونروا ” والذي كان الإعلان الرسمي الذي أعلن فيه حلول الولايات المتحدة الأمريكية محل القوى الأوربية في سيطرتها على دول القارة اللاتينية.. ومع اطراد الإلحاق الكامل والتام لدول أمريكا اللاتينية تحت مظلة الهيمنة الكاملة للولايات المتحدة الأمريكية أعلن الرئيس ثيودور روزفلت عام 1905م سياسة العصا الغليظة Policy of Big Stick وهي السياسة التي بررت حق الولايات المتحدة الأمريكية مع دول أمريكا اللاتينية بمنطلق أنها من باقي ولاياتها. ولم تلبث أن نفذت الولايات المتحدة الأمريكية تلك السياسة عندما تدخلت بقواتها المسلحة في بعض أقطار أمريكا الوسطى واحتلالها وفرض الرقابة المالية والإدارية على حكوماتها مثل كوبا ونيكاراجوا والدومنيكان وبنما وهايتي”(1).
ونتيجة لما سبق حدث تفاوت طبقي كبير في دول أمريكا اللاتينية، فازداد الأغنياء غنى وازداد الفقراء فقرًا، حتى سيطر 4 % من سكانها على 50 % من الدخل القومي، ولم يتبقَ للـ96 % من السكان غير نصف الدخل القومي، وقد سيطرت الكنيسة على دول أمريكا اللاتينية، فمنذ البداية قسَّم البابا الكسندروس السادس (1492 – 1503م) القارة الجديدة بين أسبانيا والبرتغال، ودعى لنشر الإيمان الكاثوليكي في تلك الدول، وانحازت الكنيسة للوطن الأم، فعندما بدأت حركات الاستقلال في القرن التاسع عشر صدرت عدة مراسيم بابوية خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر تندد بالحركات الاستقلالية، وعُقد المجمع الفاتيكاني الأول (1869 – 1870م) ليؤكد على سلطة الكنيسة ضد الحركات الوطنية الوليدة التي تنادي بالاستقلال، ومصادرة الأراضي التي في حوزة رجال الإكليروس الكاثوليكي.
وعندما حلْت الولايات المتحدة محل الاستعمال الأسباني والبرتغالي حلْت أيضًا موجات الإرساليات الإنجيلية الأمريكية محل الكنيسة الكاثوليكية، وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية تحقيق الهيمنة الدينية على دول أمريكا اللاتينية كما حققت الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية، ومع ذلك فإن التواجد الكاثوليكي لم ينتهِ، لأنه كان يظهر بين الحين والآخر أحد رجال الإكليروس الكاثوليكي يساند الحركات الوطنية مثل ” لاكاساس ” الدومينكاني في القرن السادس عشر، وحركة الكهنة الوطنيين المؤيدة للاستقلال في القرن التاسع عشر، وبعد أن كان سائدًا في هذه المجتمعات أصحاب الإقطاعيات الزراعية، بدأت حركة التصنيع سنة 1930م في دول أمريكا اللاتينية، ولاسيما المكسيك، والبرازيل، والأرجنتين، وإرجواي، وشيلي، وكولومبيا، فحلت الطبقة الجديدة من التجار والصنَّاع محل أصحاب الأراضي والإقطاعيات، وظهرت حركة عمالية منظمة وقوية، وأعيد بناء المجتمع تحت شعار ” المسيحية الجديدة”.
وظل موقف الكنيسة ككل في دول أمريكا اللاتينية ينحاز لرجال السلطة الأغنياء تجنبًا لبطش السلطة وإيثارًا للسلامة، واكتفى رجال الكنيسة بإقناع الشعب المطحون بالرضا بالأمر الواقع والتسليم للمشيئة الإلهيَّة، ولكن عندما قامت الثورات في دول أمريكا اللاتينية ظهر لاهوت التحرير كنقطة تحوُّل للكنيسة، فيقول د. عاصم الدسوقي ” هذا التحوُّل في موقف الكنيسة لم يحدث إلاَّ بعد اندلاع الثورة الاجتماعية في دول أمريكا اللاتينية حين استولت الطبقة الوسطى على السلطة في كثير من البلاد، وأخذت تعمل على إقرار العدالة الاجتماعية بتقريب الفوارق بين الطبقات من خلال سياسة التأميم وتوزيع الأراضي، ففي بوليفيا قامت ثورة شهبرية في سنة 1952م أمَّمت المناجم وطبقت إصلاح زراعي، وفي كوستاريكا قامت حكومة شعبية بقيادة حزت التحرُّر الوطني سنة 1953م نجحت في تهدئة الأوضاع الداخلية واستقرارها، وفي هندوراس قامت حكومة تقدمية في سنة 1957م، وفي يناير 1959م اعتلى فيدل كاسترو الحكم في كوبا بثورة شعبية تعتبر أكبر ثورات أمريكا اللاتينية راديكالية وتقارن بالثورة في روسيا سنة 1917م والصين سنة 1949م. وفي تشيلي نجح حزب الديموقراطية المسيحية في سنة 1946م في الوصول للحكم وكان أول نظام ديموقراطي في القارة يطبق نظامًا اشتراكيًا مسيحيًا تضمن تأميم مناجم النحاس وتطبيق إصلاح زراعي وإعادة بناء الوطن للإقلال من آثار سوء توزيع الثروة.
وأمام تلك المتغيرات وجد أباء الكنيسة أن ما تفعله السلطات الجديدة (الطبقة الوسطى) هو ذات ما يستهدفه صحيح الدين في الحرية والعدل والحق والمساواة. ومن هنا حدث اللقاء بين الكنيسة التي تسعى لإقرار مشيئة الله في العدل بين الناس وبين السلطة الحاكمة التي تستهدف العدل طريقًا. ومن ثمَ كان لاهوت التحرير حيث كرس مئات الرهبان ورجال الدين أنفسهم لخدمة المطالب الشعبية والبحث عن دور الكنيسة في التحوُّل الاجتماعي الجديد”(2).
وقد تحوُّل “لاهوت التحرير” في بعض دول أمريكا اللاتينية إلى ” لاهوت الحياة ” أي محاولة الحفاظ على حياة الفقراء المعرضين للموت، ففي كولومبيا وصلت القسوة إلى قيام ” فرق الموت ” بقتل المتسولين، والتخلص من الفقراء بنقلهم إلى أماكن بعيدة عن مساكن الأثرياء والشوارع التي يسلكونها.
_____
(1) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 107، 108.
(2) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 175، 176.