134- ما هو مفهوم “لاهوت التحرير” ولماذا دعوا تحرير الإنسان لاهوتًا؟ وهل هو لاهوت أم أنه نظرية؟
ج: يهتم لاهوت التحرير بالوضع الاجتماعي للإنسان، فهو يسعى نحو تحرير الفقراء والمقهورين اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، ويعمل على تحرير الكنيسة مما لحق بها من شوائب وأساليب تسلطية، فلاهوت التحرير يجعل الإنسان هو المحور بدلًا من الله، وبتحويل المركزية من الله للإنسان يصبح كل شيء قابل للتفاوض والحوار، حتى نصوص الكتاب المقدَّس تؤوَّل لصالح الفقراء والمظلومين.
ويرى الدكتور القس صموئيل حبيب أن ” لاهوت التحرير ” لاهوت نبوي أي يقوم بعمل الأنبياء الذين بكتوا الظلم، وأنه يحمل في داخله الإعلان الإلهي فيقول ” لاهوت التحرير لاهوت نبوي، فالنبوءة هي أن يرى النبي الواقع، ثم يعلن رأي الله فيه، ويتخذ القرارات العملية لمواجهته(20) فلاهوت التحرير -من هذا المنطلق- يحمل المسئولية النبوية للتاريخ، وبالتالي للمجتمع ككل.. ولما كان لاهوت التحرير يدعو إلى تحرير المظلوم والفقير، ليسترد الإنسان إنسانيته، فإن تحرير المظلوم يتضمن في داخله على إعلان إلهي(21)“(1)(2).
كما يرى الدكتور القس صموئيل حبيب أيضًا أن ” لاهوت التحرير ” يعبر عن الفعل الاجتماعي Social Action وليس الخدمة الاجتماعية Social Service فالفعل الاجتماعي هو التأثير في الواقع لإصلاح حال الفقراء، وهو وقوف الكنيسة بجوار المطحونين وتوعيتهم لتحقيق حريتهم، والاعتماد على ذواتهم، واسترداد إنسانيتهم السليبة، فهو يبحث عن علاج أسباب المشكلة. أما الخدمة الاجتماعية فهي مد يد المساعدة لهؤلاء المحتاجين للتخفيف من جوانب المشكلة التي يعانون منها، فإعطاء السمكة (المال) هو خدمة اجتماعية، بينما إعطاء السنارة (تعليم حرفة) هو فعل اجتماعي يجعل الإنسان يعيش حياة كريمة مستقلة(3).
ولاهوت التحرير كما عرَّفه الدكتور ميلاد حنا هو نتاج التلقيح الفكري بين الكثلكة والماركسية، كما يقول د. حيدر إبراهيم أن لاهوت التحرير تفاعل بين الماركسية والكاثوليكية لإقامة الفردوس على الأرض ” هكذا كان بروز لاهوت التحرير سباقًا في أمريكا اللاتينية بسبب التفاعل الحقيقي بين الحركات الاجتماعية الماركسية والإشتراكية وبين الكنيسة الكاثوليكية، وهذا مفقود في بعض مناطق العالم رغم وجود مشكلة الفقر.. وكان من نجاحات لاهوت التحرير هذا التقارب الذي أدخل القضية الاجتماعية إلى قلب الاهتمام الديني. ويمكن تعميم القول الآن أن فكرة لاهوت التحرير هي باختصار جعل الدين أكثر اهتمامًا بالإنسان وبالمجتمع، وهو يحاول القيام بمهمة مزدوجة تبشر بالفردوس في الأرض وفي السماء ولا يؤجل سعادة الإنسان”(4).
وأول من استخدم تعبير ” لاهوت التحرير ” هو اللاهوتي ” جوستافو جوتييريز ” سنة 1967م في محاضرته التي ألقاها في مونتريال، ثم محاضرته التي ألقاها في بيرو سنة 1968م، خلال مؤتمر ميدللين، وبرَّر ” جوتييريز ” موقفه من صبغ تحرير الإنسان بصفة اللاهوت بأن اللاهوت ليس مجرد معرفة نظرية، بل هو موقف عملي وإن اللاهوت يتجه إلى واقع الإنسان، ولذلك عندما نبحث في علم المسيح يجب أن ننطلق من الأرض، أي من صفة السيد المسيح الإنسانية، ووضعه البشري، وتضامنه مع الفقراء. ولا ننطلق من السماء، أي من صفة السيد المسيح الإلهية، ولذلك على الكاهن أن يتضامن مع الفقراء، ولا ينحاز للسلطات، وإن الهدف من البشارة بالإنجيل ليست العقيدة، بل تغيير الوضع الاجتماعي للإنسان، وإن الحياة المسيحية تنبع من الأرض وليست من السماء(5).
كما يجيب د. ميلاد حنا عن التساؤل: لماذا دعوا تحرير الإنسان لاهوتًا؟ فيقول ” على إن ما كان يحيّرني -قبل قراءة الكتاب- هو عبارة {لاهوت}، فقد قبلت لفظ {التحرير} لارتباطه سياسيًا بتحرير الإنسان من العبودية والقهر والتخلف. غير إنني أدركت وفهمت لماذا أصرَّ مفكرو هذا التوجه على لفظ {اللاهوت} وقد كان مرتبطًا في ذهني بالإلاهيات، فجاءتني الواردة في بداية الفصل الثاني من هذا الكتاب لتفسر لي هذا التناقض الظاهر، فالمقولة تقول {فاللاهوتي يدرس مسيرة الله المتحققة في الزمان والمكان، كما يدرس سلوك البشر في إطار الزمان والمكان نفسهما، ليعرف مدى تطابقهما مع قصد الله الخلاصي} وتعرَّفت أيضًا من خلال الفصل الثاني أن المجتمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 11965م) {كان ملتقى التيارات اللاهوتية في أوربا، إذ وجد اللاهوت نفسه أمام تساؤلات إيمانية من نوع جديد فرضتها الاكتشافات العلمية الحديثة والمجتمعات الصناعية}”(6).
ويعبر د. ق صموئيل حبيب عن نظرة دعاة لاهوت التحرير الذي يدَّعون أن اللاهوت يبدأ من واقع الإنسان ويبحث عن تحريره من الظلم الاجتماعي، وأيضًا تحريره من الظلم الروحي أي من سلطان الإكليروس، فيقول ” علم اللاهوت يبدأ عادة من الوحي إلى الواقع. أما لاهوت التحرير فهو يبدأ من الواقع إلى الوحي(7) ويرى جبليني أن مصداقية اللاهوت تتحقق في مطابقتها للواقع(8) ولما كان علم اللاهوت يرتبط بالواقع، فهو لاهوت يمكن أن يكون محليًا. فالواقع في أمريكا اللاتينية هو الذي نبع منه لاهوت التحرير، هذا الواقع قد يتفق مع واقع آخر في موقع آخر.. ولذا فإن الأفارقة يمكنهم أن يكتبوا لاهوت التحرير من واقع أفريقيا.. بل يجوز أن يشكل علم اللاهوت نظرية أو يتبنى ويناقش قضية معينة.. فالسود -في أمريكا- في سبيل دفاعهم عن حريتهم، ربطوا علم لاهوت التحرير بقضيتهم، والمرأة في دفاعها عن حريتها في المجتمعات العربية أنشأت لاهوت تحرير المرأة.. علم اللاهوت التحريري لم يبدأ من الوحي، لكنه بدأ من الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع والبيئة.. وحيث أن لاهوت التحرير، واقعي، فهو يرتبط بالإنسان وبالإنسانية. إنه لاهوت الإنسانية(9).. إن لاهوت التحرير ليس لاهوتًا ينتظر المستقبل، لكنه يحدد العمل المباشر والحاضر.. فلاهوت التحرير، من هذا المنطلق، لاهوت عمل في مواجهة الواقع الأليم للبشرية.
ولاهوت التحرير من هذا المنطلق، ليس لاهوتًا إضافيًا، يضاف إلى ما قبله من أعمال، ولكنه لاهوت جديد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فهو اللاهوت الأول من نوعه في تاريخ الفكر اللاهوتي الذي يعتمد على الواقع التاريخي(10).. لاهوت التحرير دعوة للعمل لأجل المطحونين والهامشيين من المجتمع البشري، والدعوة تحمل قيام المجتمع الكنسي بكل ما يمكن عمله لتحرير المطحونين، ليكونوا مستقلين، لهم سيادة على ذواتهم، دون اعتماد على الغير.. لاهوت التحرير ليس مجرد دعوة للتحليل العقلاني فحسب، بل دعوة للعمل الرعوي والخدمة، نابعة من سماع أصوات الفقراء في كل عصر(11) من هنا نرى أن لاهوت التحرير، لاهوت عملي فهو يرتبط بالمجتمع وظروفه، ويدعو الكنيسة للقيام بدورها الفعَّال لتطوير المجتمع للأفضل.
وتمتد المسئولية، من داخل علم لاهوت التحرير، إلى ما يحدث داخل الكنيسة فالنظرة التحرُّرية للمطحونين داخل الكنيسة، تدعو للتحرر من سلطان الإكليروس، وسيادته، فالكنائس التي اتخذت لها أساليب دكتاتورية سلطوية، والتي تمارس نفس العنف، والسيادة القهرية في ممارستها لسلطاتها.. ولاهوت التحرير يدعو لتحرير المظلومين من أي نوع.
ولما كان لاهوت التحرير يرتبط بالواقع، وبقضايا الإنسان الفقير والمظلوم، فإن الإنسان هو المركز الرئيسي لهذا اللاهوت(12) وهذا هو الواقع أن لاهوت التحرير يعتمد على العلوم الإنسانية(13) وحيث أن لاهوت التحرير لاهوت عملي يرتبط بالإنسان وبالواقع، لذا فهو لاهوت متجدد يطالب باستمرار الدراسة والتأمل واكتشاف أساليب تحرير المظلومين والفقراء(14)(15).
ثم ينتقد الدكتور القس صموئيل حبيب أقوال دعاة لاهوت التحرير السابقة، فيقول ” إلاَّ أن فكرة اللاهوت إنه يبدأ بالواقع، ثم يعود إلى الوحي، فكرة خاطئة من أساسها، فاللاهوت يبدأ بالوحي أولًا، ثم يتجه إلى الواقع. ولا يجوز لنا أن نظن أن الوحي يهمل الواقع، فمطابقة الوحي بالواقع، عمل من صميم اللاهوت، فعلم اللاهوت لا يعيش بمعزل عن الواقع”(16).
والحقيقة إن معنى كلمة ” اللاهوت ” أي طبيعة الله، إذًا فاللاهوت يبدأ من الله، ولا يبدأ من الإنسان ويقول د.ق. صموئيل حبيب ” فالله بداية اللاهوت، وكلمة الله المتجسد هو المركز، وكلمة الله الموحى بها هي الطريق، وكلها تتعاون معًا على بناء لاهوت مسيحي يُحرّر الإنسان، ويحقق له إنسانيته”(17). ولذلك كان من الأجدر إطلاق تعبير ” نظرية التحرير ” على تحرير الإنسان بدلًا من “لاهوت التحرير” وبينما يتميز اللاهوت بالثبات لأن الله ثابت في طبيعته وأفعاله وأقواله فإن “لاهوت التحرير” متغير، ويقول د. حسن حنفي ” إن لاهوت التحرير ليس لاهوتًا أبديًا كما هو الحال في اللاهوت العقائدي، بل هو متغير بتغير الأزمات في كل عصر، ربما هو جزء من ” لاهوت الأزمة ” Predivament.. وأصبحت الدراسات اللاهوتية الآن تتعرض لموضوعات العصر باسم لاهوت التقدم، لاهوت العدالة، لاهوت المساواة، لاهوت الوحدة، لاهوت التنمية، لاهوت الألم، ولاهوت حقوق الإنسان.. إلخ”(18).
والأمر العجيب أن البعض يعيب على ” لاهوت التحرير ” تمسكه بالعقائد المسيحية مثل التجسد والفداء، وكان يود لو أن لاهوت التحرير تنكر لهذه العقائد وتحرر منها، فيقول د. حسن حنفي إن البعض يقولون أن ” لاهوت التحرير لاهوتًا أكثر منه تحريرًا، ودين أكثر منه دنيا، وهو نوع من التبشير الاجتماعي الجديد يستعمل المجتمع كوسيلة والدين غاية. ويبدأ من مآسي الناس كي يعيدهم إلى الإيمان. السياسة وسيلة والدين غاية. مازالت مقولاته في التجسد والخلاص والصلب والخطيئة والإيمان والكنيسة هي مقولات اللاهوت التقليدي حتى ولو أخذت دلالات جديدة”(19).
_____
(1) بوف ص 116.
(2) لاهوت التحرير ص 25.
(3) راجع د. ق صموئيل حبيب – لاهوت التحرير ص 33.
(4) الأب وليم سيدهم اليسوعي – لاهوت التحرير. رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 12، 13.
(5) راجع د. ميلاد حنا في تقديم كتاب لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ص 13.
(6) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية – نشأته. تطوُّره. مضمونه ص 11.
(7) جبليني – جدل التحرُّر ص 11.
(8) جبليني – جدل الحوار ص 13.
(9) جبليني – جدل الحوار ص 4.
(10) جبليني – جدل التحرُّر ص 100.
(11) جوتيري ص 8، 9.
(12) جوتيري ص 7.
(13) جبليني ص 8.
(14) جبليني ص 11.
(15) لاهوت التحرُّر ص 19 – 23.
(16) المرجع السابق ص 34.
(17) لاهوت التحرُّر ص 38.
(18) الأب وليم سيدهم – لاهوت التحرير – رؤية عربية إسلامية مسيحية ص 71، 72.
(19) المرجع السابق ص 74.
(20) جوتيري ص 13.
(21) بوف ص 116.