128- ما هي أهم اتجاهات الفلسفة العقلانية في القرن العشرين؟
رابعًا: الفلسفة العقلانية في القرن العشرين
ج: في هذا القرن تبلورت ثلاث اتجاهات من خلال العصريين والطبيعيين والليبراليين:
1- العصريون: هاجموا أساسيات الإيمان المسيحي، واعتقدوا بألوهة الكون بدلًا من ألوهة الله، وأنكروا خطية الإنسان واعتقدوا أن الصليب ما هو إلاَّ رمزًا للاستشهاد وليس للفداء والمصالحة، وأنكروا العصمة المطلقة للكتاب المقدَّس، وقالوا أن الوصايا العشر مجرد وثيقة أثرية وليست ناموسًا إلهيًا، وأن الشرائع الإلهية مجرد قوانين وآداب من وضع البشر. كما رأى العصريون أن مسيحية هذه الأيام تختلف عن المسيحية في نشأتها والتي أسموها ” مسيحية المسيح ” وأن هذا لا يمثل أدنى مشكلة بالنسبة لهم، فهم لا يرون أن الإيمان ثابت يُسلَّم من جيل إلى جيل. إنما يرون أن المسيحية أمر حي وتام، ولذلك لا ضرر من اختلاف مسيحية هذه الأيام عن مسيحية القرن الأول(1).
2- الطبيعيون: يؤمنون بأن للطبيعة قوانين ثابتة تسير بمقتضاها، مؤكدين على أن الفكر يتمشى مع المنطق والعقل والاستنارة العلمية، وتمسك الطبيعيون بسمو الآداب والأخلاق والمُثل المسيحية، فقال ” جون استيوارت ” مادحًا الأخلاق المسيحية ” ليس من السهل أن تجد تجسيمًا للخلق الفاضل أعظم من ذاك الذي يعيشه إنسان يتبع المسيح”(2) وهي نفس فكرة ” توماس هكسلي” و”ماثيو أرنولد” و”جورج إليوت ” وآخرين من الكتَّاب المشهورين. ولكن بعد ذلك أنتقد النقاد الأخلاق المسيحية التي سبق ومدحها غيرهم، بل واعتبروها أخلاق العبيد، فوصف ” نيتشه ” السلوك المسيحي بالخبث والتزييف وإفساد البشرية، وأتفق معه في الرأي ” هـ. ج. ويلز” و”برتراند رسل” و”برنارد شو” و”فرويد ” وإن كانوا أقل حدة في انتقاد الأخلاق المسيحية من نيتشه(3).
ومازال الهجوم على الأخلاقيات المسيحية مستمرًا حتى اليوم، ولاسيما في أمريكا وأوربا، وقد أرجع ” سبنسر ثورنتون ” في كتابه ” السلوك – وفوق الطبيعة ” هذا الانتشار في نقد الأخلاق المسيحية بل في نقد المسيح ذاته إلى أربعة أسباب رئيسية هي:
1- عقلانية القرن الثامن عشر.
2- النظرة العامة للتقدم العالمي والمشتقة من نظرية النشوء والارتقاء.
3- جبرية الفلسفة المثالية في القرن التاسع عشر.
4- إنكار العقائد المسيحية.
وقد أكد سبنسر أن السبب الأخير وهو إنكار العقائد المسيحية كان هو السبب المباشر الذي أدى إلى تغيير الاتجاه نحو الأخلاقيات المسيحية، لأن العقيدة والسلوك متلازمان، فهما جزءان من كلٍ واحدٍ، كما أن الجذور والثمار هم أجزاء من شجرة واحدة مرتبطين معًا بها”(4).
وتجاهل الطبيعيون أن الله هو جابل الطبيعة وخالقها ومدبر كل أمورها ودقائقها، والكون بكل عظمته وقوانينه البالغة الدقة مجرد ذرة بسيطة تعبر عن عظمة الله، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولذلك فنحن نرفض نظرية النشوء والارتقاء التي نادى بها الطبيعيون ” أنت هو الرب وحدك. أن صنعت السموات وسماء السموات وكل جندها والأرض وكل ما عليها والبحار وكل ما فيها وأنت تحييها كلها وجند السماء لك يسجد” (نح 9: 6).. ” يا رب ملجأ كنت لنا في دور فدور. من قبل أن تولد الجبال إذ بدأت الأرض والمسكونة منذ الأزل إلى الأبد أنت الله” (مز 90: 1، 2).. ” الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي” (أع 17: 24).
كما تجاهل الطبيعيون أن الأخلاق هي أم الحضارات، ولا يمكن أن تثبت حضارة تقاوم الأخلاق والمُثل الأدبية، والتي كان للمسيحية الفضل الأول في غرسها، فالحضارة التي تريد البقاء والازدهار لا بُد أن تلتزم بالأخلاق المسحية.
ومن ضمن الأمور التي تؤخذ على الطبيعيين أيضًا أنهم يؤمنون بمسيحية بلا معجزات، وينظرون للخلاص على أنه قضية الإنسان، فالإنسان هو المهندس الذي يخطط لنفسه ولمستقبله ومصيره، وهم بذلك يخالفون فوق الطبيعيين الذين ينظرون للخلاص على أنه قضية إلهية، فالإنسان يعجز عن خلاص نفسه ويحتاج إلى قوة إلهية لتخلصه.
3- الليبراليون: يقول القس مرزوق حبيب ” يدرس اللاهوت الليبرالي المسيحية كدين من الأديان الإنسانية من وجهة نظر معاصرة، ويفكر في الله وأعماله في العالم من وجهة النظر نفسها، كما يهتم اللاهوتي الليبرالي بفحص رسالة الإنجيل وكل التقاليد الكنسية، وإخضاعها للرؤية النقدية. وحيث أن الاستنارة هي المصدر الرئيسي للاهوت الليبرالي فإنه يتضح ضرورة إيجاز مميزات وصفات الاستنارة:
– التركيز على عقل الإنسان وعلى أهمية المعرفة التي ترتكز على التفكير العلمي، وذلك الأخير هو وسيلة المعرفة المؤكدة.
– التمسك بالقدرة العقلية التي تنتج للإنسان إمكانية الدراسة الموضوعية لكل القضايا والأمور”(5).
واعتقد هؤلاء الليبراليون أن يسوع المسيح قد وضع ديانة طبيعية بسيطة، ولكن ملامح هذه الديانة قد تغيَّرت بعد موت يسوع بمعرفة أتباعه الأولين الذين تأثروا بمعتقداتهم البدائية الأولى، وكان لبولس الرسول الأثر الفعَّال في هذا التحوُّل، فخرجت لنا مسيحية بولسية، وليست مسيحية يسوعية، ولم يدرك الإنسان هذه الحقيقة إلاَّ في القرن التاسع عشر، فيقول ” هنري فيدر ” أن نشر كلمات يسوع كما وردت في الأناجيل لم تؤثر كثيرًا في عقول الناس التي كانت مشغولة بأفكار أخرى من قبل. وقد تطلب الأمر قرابة تسعة عشر قرنًا حتى تمكن الناس من إدراك ما كان يسوع يقصده من تعاليمه(6).
وأوضح ” أدولف فون هارناك ” الفكر الليبرالي الذي يركز على الله الآب، وليس على الله الابن، فأدّعى الليبراليون أن الذي يهمهم هو تعاليم السيد المسيح وليس شخصه، وقسم تعاليم يسوع إلى ثلاثة عناوين رئيسية وهي:
” 1- ملكوت الله ومجيئه؛ 2- الله وقيمة النفس البشرية الخالدة؛ 3- البر الأسمى ووصية المحبة.
وما أراد ” هارناك ” أن يثبته هو أن الإنجيل كما أعلنه يسوع كان يعني الآب فقط وليس الابن، بمعنى أنه ليس من المحتم أن يشغل يسوع مكانًا رئيسيًا في الدين الذي علَّم به أي أن يسوع لم يكن إلاَّ مجرد مُعلّم أو رائد، دوره بالنسبة للمسيحية كدور لوثر بالنسبة للوثرية أو كلفن بالنسبة للكلفينية، وحسب نظرية ” هارناك ” فإن قيمة يسوع تبدو في تعاليمه أكثر مما تبدو في شخصه، وينبر الليبراليون على أن لب المسيحية هو مجرد التضحية والوفاء والأخوة وما إلى ذلك”(7).
لقد برز في هذا القرن اللاهوت الليبرالي كلاهوت ينادي بالتحرُّر من كل العقائد والثوابت والحقائق الإيمانية مستمدًا جذوره من الفلسفة العقلانية، مؤكدًا على إرادة الإنسان الحرة، وقدرته على التطوير، مستخدمًا نظريات العلوم الاجتماعية الحديثة لعصرنة الكنيسة (أي جعلها كنيسة عصرية) وتطويع المسيحية للحداثة.
_____
(1) راجع صموئيل كريج – المسيحية الحقيقية ص 12، 20، 21.
(2) صموئيل كريج – ترجمة باقي صدقة جرجس – المسيحية الحقيقية ص 14.
(3) راجع صموئيل كريج – المسيحية الحقيقية ص 15.
(4) صموئيل كريج – ترجمة باقي صدقة جرجس – المسيحية الحقيقية ص 78، 79.
(5) مجلة الهدى عدد 919 يناير 1990م ص 22.
(6) راجع صموئيل كريج – المسيحية الحقيقية ص 19.
(7) صموئيل كريج – ترجمة باقي صدقة جرجس – المسيحية الحقيقية ص 19، 20.