Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

كيف أنتجت الحركة العقلانية والفلسفة المثالية حركة النقد الكتابي؟ ولماذا ظهرت حركة الكرازة؟

 125- كيف أنتجت الحركة العقلانية والفلسفة المثالية حركة النقد الكتابي؟ ولماذا ظهرت حركة الكرازة؟

ج: حتى نهاية القرن الثامن عشر كان هناك تقاربًا بين الفكر اللاهوتي والفكر الفلسفي، ولكن مع بداية القرن التاسع عشر تباعد الفكر الفلسفي عن الفكر اللاهوتي، وظهرت ” الفلسفة المثالية ” التي نادت بالمُثل واعتبرت أن المسيحية مجرد آداب عالية وأخلاق سامية. كما انتقل مركز النشاط الفلسفي من فرنسا إلى ألمانيا، وبرز من قادة ” الفلسفة المثالية ” ايمانويل كانط، وجورج هيجل، وفريدريك شيلرماخر، والبرت ريتشل، وفي هذه الأجواء وُلِد ” النقد الكتابي ” من أبوين شرعيين هما الحركة العقلانية متمثلة في حركة التنوير، والفلسفة المثالية، فورث عن أبويه إنكار الوحي والنبوءات، والمعجزات، والأمور الميتافيزيقية.. إلخ.

ونستطيع أن نقول أن الحركة العقلانية والفلسفة المثالية قد وفرا الأرضية الفلسفية التي تناسب النقد الكتابي، ويقول ايريل كيرنز ” ظهرت خلال القرن التاسع عشر عدة حركات مؤثرة، هدَّدت الإيمان الذي اجتهدت الكنيسة لتحفظه عبر الأجيال والعصور. خرجت مدرسة النقد الكتابي Biblical Criticism من مناخ الفكر الإنساني والفردي الذي أنتجته ظروف عصر النهضة، وقد دعَّم هذا الاتجاه انتشار المدارس العقلانية وتزايد الفردية التي ميزت القرن الثامن عشر، كما دعَّمته النظرة التاريخية لحركة الرومانسية Romanticism والفلسفة المثالية الألمانية.

وقد ساعد تزايد انشغال الناس بالرغبة في الحصول على المنتجات والسلع الجديدة التي أتاحها ارتفاع مستوى المعيشة الذي صاحب الثورة الصناعية، ساعد ذلك على انصراف تفكير الناس من كل الطبقات عن اعتبار الكتاب المقدَّس الدستور الوحيد المعصوم للإيمان والحياة. وكان لتطبيق مذهب النشوء والارتقاء على نظرية التطور، على الكتاب المقدَّس نفسه، تأثيره في اعتبار المسيحية نتيجة تطوُّر الفكرة الدينية، وكان إنكار سلطان الكتاب المقدَّس هو النتيجة المنطقية التي لا بُد أن يصل إليها أصحاب وجهة النظر هذه. حتى أصبح الكتاب المقدَّس مجرد كتاب مرشد للأخلاق والسلوك، وأصبح هذا الاتجاه الأخير هو المذهب الشائع في القرن التاسع عشر وذلك بسبب تأثير الفلسفة المثالية الألمانية. وعندما اجتمع الاتجاه النقدي التاريخي مع تطبيق نظرية التطور على الظاهرة الدينية اكتملت عناصر الخلفية المناسبة لنظام النقد الكتابي”(1).

ونشطت في هذا القرن الدراسات النقدية للكتاب المقدَّس، وصار التركيز النقدي على نظرية المصادر التي تنكر وحدة التوراة (الأسفار الخمسة الأولى) وتنكر نسبتها لكاتبها موسى النبي كما رأينا في الجزء الأول من هذا البحث(2).

وفي هذا القرن ظهرت ” حركة الكرازة ” Evangelicalism كرد فعل لحركة الإنجيل الاجتماعي المُتحرّر التي ظهرت في القرن الماضي واهتمت بالفقراء والمحتاجين. أما حركة الكرازة فقد جعلت جلَّ اهتمامها في الكرازة ونشر الإيمان المسيحي من خلال العبادة والصلوات والوعظ، وتركت هذه الحركة الخدمات الاجتماعية بكل صورها، والحقيقة أنه لا يمكن الاهتمام بجانب وترك الآخر، فالسيد المسيح لم يقسم خدمته إلى خدمة روحية وخدمة اجتماعية. إنما اهتم بكلا الجانبين، فبينما كان يبشر بالملكوت، فإنه كان يجول يصنع خيرًا. لقد كرز بملكوت السموات وأيضًا لم يغفل احتياجات المخدومين المادية، فشفى المرضى وأشبع الجوعى، وتحققت فيه نبوءة إشعياء النبي ” روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي منكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين إلى الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة” (لو 4: 18، 19، أش 61: 1 – 3) ولأن الإنسان وحده واحدة، فلا يمكن الاهتمام بجانب من جوانبه وإهمال الجانب الآخر، ولذلك تهتم الكنيسة بكلا الجانبين، أو قل أنها تهتم بالفقراء والمحتاجين سواء كان هذا الفقر ماديًا أو روحيًا، فتقدم للفقراء ماديًا خدمة الإنجيل الاجتماعي وأيضًا خدمة الكرازة، وتقدم للفقراء روحيًا خدمة الكرازة.

وفي هذا القرن التاسع عشر أيضًا تزايد اهتمام الإنسان بالأمور المادية على حساب الجانب الروحي، فنتيجة للثورة الصناعية في إنجلترا (1760 – 1930م) اُستخدمت الطاقة الميكانيكية بدلًا من المجهود البشري، وازداد إنتاج السلع بكميات أوفر وأسعار أرخص، وأهتم الإنسان أكثر فأكثر بارتفاع مستواه المعيشي، وأنصرف الكثيرون عن الأمور الروحية وأهملوا الكتاب المقدَّس، فيقول ” ايريل كيرنز”.. ” وقد وصل هذا التركيز على ارتفاع المستوي المادي للمعيشة أقصاه في أمريكا، وقد ركز كل من والتر روشينبوس Rauschenbusch مؤسس حركة الإنجيل الاجتماعي في أمريكا، وكارل ماركس Karl Marx في النظرية التي صاغها على الأهمية الأساسية للسلع المادية بالنسبة لحياة البشر، وغالبًا ما ينسى أولئك الذين يضعون أهمية كبرى على قضية توزيع السلع وعدالته قول الكتاب المقدَّس أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”(3).

_____

(1) ترجمة عاطف سامي برنابا – المسيحية عبر العصور ص 483.

(2) راجع مدارس النقد والتشكيك والرد عليا – الجزء الأول ص 79 – 226.

(3) ترجمة عاطف سامي برنابا – المسيحية عبر العصور ص 488.

 125- كيف أنتجت الحركة العقلانية والفلسفة المثالية حركة النقد الكتابي؟ ولماذا ظهرت حركة الكرازة؟

Exit mobile version