من هم أهم فلاسفة القرن الثامن عشر الذي شايعوا الفلسفة العقلانية؟
124- من هم أهم فلاسفة القرن الثامن عشر الذي شايعوا الفلسفة العقلانية؟
ج: والآن يا صديقي دعنا نتابع الفلسفة العقلانية في هذا القرن الثامن عشر من خلال عرض سريع لأفكار أربع شخصيات من شخصيات ذلك العصر، مع إلقاء الضوء على أفكارهم وآرائهم:
هيرمان صموئيل ريماروس – فولتير – دافيد هيوم – ديديرو
1- هيرمان صموئيل ريماروس Hermann Samuel Reimarus (1694 – 1768م):
ميَّز ريماروس بين أقوال السيد المسيح وأعماله، وبين ما ذكرته الأناجيل عن أقواله وأعماله، وقال أنه يصعب استخراج السيرة الذاتية للسيد المسيح من الأناجيل، فيقول القس أندريه زكي ” مشكلة تاريخية حياة السيد المسيح ظهرت عندما أثار عدد من اللاهوتيين الألمان قضية أن الأناجيل قد كُتبت بعد قيامة المسيح، وبُنيت على إيمان المسيحيين الأوائل لهذا يصعب استخراج السيرة الذاتية للسيد المسيح منها، ويعتبر ريماروس Reimarus هو أول من وضع تميّيزًا بين قول السيد المسيح وعمله، وبين ما قال أنه قد عمله أو قاله”(1).
ورأى ريماروس أن السيد المسيح بدأ خدمته كيهودي متحرر يبشر بملكوت الله كما يتوقعه اليهود ” ولم تكن هناك صعوبة بالنسبة لليهود في قبول الإيمان بأنه المسيا ابن الله.. فقد كانت الأمة كلها (ابن الله)”(2) ويقول ” البرت شويتزر”.. ” أن يسوع لم تكن لديه أدنى نية لإلغاء الديانة اليهودية وإحلال أخرى محلها”(3)(4).
كما يقول الدكتور القس حنا جرجس الخضري بأن ريماروس اعتقد أن يسوع كان يسعى للحصول على الاستقلال الوطني” (ريماروس) الذي ترك خلفه حوالي 4000 صفحة، تعتبر دفاعًا عن الديانة الطبيعية، ويعتقد ريماروس بأن يسوع كان وظلَّ يهوديًا ولم يفكر في أن يخلق ديانة جديدة، وكل ما أراد أن يفعله هو الحصول على الاستقلال الوطني، وأن يفهم الشعب أنه ابن الله بمعنى الملك المسيا. ويواصل ريماروس بحثه بالقول أن يسوع كاد يصل إلى تحقيق غرضه أو برنامجه في حادثتين أولهما: عندما أرسل تلاميذه اثنين اثنين في إرسالية. ثانيتهما: عندما جاء هو بنفسه مع تلاميذه إلى أورشليم ودخل إليها دخول الملك المنتصر. ولكن هذه المحاولة كما يقول ريماروس ساقت يسوع إلى الموت. وأما التلاميذ الذين لم يريدوا العودة إلى العمل بعد موته، فإنهم اخترعوا من عندياتهم فكرة قيامته من الأموات، وكذلك فكر الفداء”(5).
وهكذا اعتقد ريماروس أن حياة يسوع قد انتهت نهاية مأساوية، وأن التلاميذ أخذوا جسده، وأشاعوا قيامته، فيقول القس أندريه زكي ” يرى ريماروس أن حياة يسوع انتهت بمأساة عندما رفض الشعب تأييده، فذهب إلى الصليب باكيًا وهو يغادر هذه الدنيا، وكان بكاؤه تعبيرًا عن يأس شخصي، فلقد فشل في محاولته أن يرفع الاضطهاد السياسي عن شعبه، ومن هذا الذي يبدو فشلًا وضع التلاميذ خطة للعمل فأخذوا جسد يسوع بعد الصليب، وانتظروا خمسين يومًا ادَّعوا خلال ذلك الوقت أن يسوع تكلم معهم وأكل وأخيرًا تركهم وصعد إلى السماء.. وأنه سوف يعود قريبًا في مجده”(6).
وأنكر ريماروس الوحي الإلهي قائلًا ” كيف يصل الوحي الإلهي إلى رجل قاتل مثل موسى، أو رجل زاني مثل داود، أو رجل مضطهد الكنيسة بإفراط مثل بولس الرسول ” ويعتبر ريماروس أول من بدأ النقد العالي للعهد الجديد، ففي كتابه Fragments سنة 1778م أنكر المعجزات، وتطاول على كتَّاب العهد الجديد قائلًا أنهم يثبتون بما أوردوه من قصص المعجزات أنهم ” مزورون أتقياء”(7).
2- فولتير Voltaire (1694 – 1778م):
وهو أديب فرنسي لامع، صاحب آراء متعددة الجوانب، حتى أنه سقط في التناقض، فإنك تستطيع أن ترى في أقواله مؤمنًا، فمثلًا قال قولته الشهيرة ” إن لم يكن الله موجودًا، فمن الضروري أن نخترعه، لكن الطبيعة كلها تصرخ بأنه موجود”(8)(9) كما قال ” كنت الليلة الماضية أفكر مليًا، مستغرقًا في تأمل الطبيعة. امتلأت بالدهشة لضخامتها ومنظر النجوم في مساراتها. وأعجبت كثيرًا بالعقل الذي يحكم كل هذا المخطط الهائل. قلت في نفسي لا بُد أن يكون أعمى ذلك الإنسان الذي لا ينبهر بهذا المشهد، ويكون أحمق ذلك الذي لا يعترف بخالقه، ومجنونًا ذاك الذي لا يسجد له ويعبده”(10)(11).
ومن الناحية الأخرى تستطيع أن ترى في فولتير الإنسان الملحد الذي يهاجم الكتاب المقدَّس والكنيسة بعنف، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فقد قال ” تصرُف بولس، قصص الأناجيل الخرافية، قانونية أو غير قانونية، أساطير الشهداء والمعجزات، وإستراتيجية استغلال الكهنة لسذاجة الفقراء الممتلئين بالأمل. على كل هذه الأمور مجتمعة قامت الكنيسة المسيحية”(12)(13).
وتمنى فولتير لو أن هناك ديانة واحدة للعالم كله، فعندما سئل عن رأيه في العبادة الجمهورية قال ” دعنا نجتمع أربع مرات سنويًا في معبد عظيم، وعلى أنغام الموسيقى نشكر الله من أجل كل عطاياه. توجد شمس واحدة، يوجد إله واحد، لتكن لنا ديانة واحدة، حينئذ يصبح الجنس البشري كله إخوانًا”(14) وشوهد فولتير وهو في الثمانين من عمره يركع أمام الشمس المشرقة قائلًا ” أيها الإله القدير، إني أؤمن، أما عن الابن (يقصد السيد المسيح) والسيدة والدته فهذه مسألة أخرى”(15)(16) وأراد فولتير أن يزيل المسيحية من الوجود، ولكنه مات بعد أن فشلت أحلامه، وبعد موته تحوَّل بيته إلى مطبعة لطبع الكتاب المقدَّس الخالد.
3- دافيد هيوم (1711 – 1776م):
دافيد هيوم فيلسوف ومؤرخ أسكوتلاندي وُلِد في أسرة مشيخية محافظة تدين بأفكار ومبادئ جون كالفن، حتى أن الأسرة كانت تواظب على حضور الكنيسة صباح كل أحد لمدة ثلاث ساعات، بالإضافة إلى ساعتين في المساء، وسار هيوم على نهج ” جون لوك ” وأقتنع بأن الإنسان يحصل على المعرفة عن طريق الحواس، وأدان هيوم الذين يؤمنون بالتأليه الطبيعي، ورأى أن نظام الطبيعة لا يكفي لإثبات وجود الله الخالق.
وكأن هيوم كان يتوقع ظهور نظرية النشوء والارتقاء لداروين، فكان يرى ” أن تكييف الكائنات المختلفة يمكن أن ينتج عن تجارب الطبيعة العشوائية عبر آلاف السنين، وقال {أنظر حول هذا الكون. ما أوفر الكم الهائل من الكائنات، حية ومرتبة، حساسة ونشيطة، فلا تعجب لهذه التشكيلة المذهلة في ضخامتها وتكاثر الذرية بالتناسل، لكن أفحص بتدقيق أكثر.. تجد أن هذا كله لا يقدم شيئًا إلاَّ فكرة طبيعة عمياء، تصيب باستمرار أطفالها العجزة والمشوهين. وفي النهاية فإن حياة الإنسان بالنسبة للكون ليست أكثر من حياة محارة في البحر}”(17)(18).
وكما رأينا من قبل أن هيوم أنكر العنصر الإعجازي في الكتاب المقدَّس، معتبرًا أن المعجزة تعد انتهاكًا للقوانين الطبيعية الثابتة، وقال معلقًا على قيامة السيد المسيح أنه من الطبيعي أن نرى الناس يموتون ولكن من النادر جدًا أن نرى إنسانًا يعود من الموت، وحيث أن دليل المنتظم أقوى من دليل النادر، وحيث أن العقلانيين معتقدهم هو الدليل الأقوى لذلك فإن ” هناك استحالة قاطعة لطبيعة المعجزة”(19) وقال هيوم أن الاختبار هو مصدر المعرفة.
شجع هيوم الملكية الفردية ووضع ” نظرية المنفعة ” التي تقول بأن الملكية الخاصة تقليدًا يتبعه الناس وينبغي أن يتبعوه لأن في ذلك منفعتهم، وهاجم هيوم تشدد الكنيسة قائلًا أنه عندما كانت هناك ديانات بدائية متعددة كان التسامح يسود، بينما في المسيحية يشتد اضطهاد الكنيسة (الكاثوليكية) على المعارضين، وخشى هيوم على نفسه رد فعل الكنيسة، ولذلك لم ينشر بعض أعماله، ولكن في النهاية وصل به الحد إلى أن أصبح فيلسوفًا لا ادريًا، وقال ” إن الديانة في كل أبوابها لغز وسر لا يُحل”(20).
4- ديديرو Diderat (1713 – 1773م):
كان ديديرو فرنسيًا، وهو صديق لفولتير، ولكنه قاد هجومًا شرسًا على الكتاب المقدَّس والمسيحية ورجال الدين أكثر من صديقه فولتير، فيقول ” ليس كافيًا أن نعرف أكثر مما يعرف اللاهوتيون بل يجب أن نريهم أننا أفضل، وأن الفلسفة تجعل الرجال شرفاء أكثر مما تفعله نعمة الكنيسة الفعالة”(21)(22) كما قال ديديرو ” أن الديانة المسيحية في ذهني أسخف وأشنع ما تكون في عقائدها فهي أكثر الديانات غموضًا. وأكثرها استغراقًا فيما وراء الطبيعة، أكثرها تعقيدًا وإعتامًا، ومن ثم فهي أكثرها تعرضًا للانقسامات والقطاعات والشقاقات والهرطقات، وأكثرها حقدًا وإساءة للأمن والأمان العام، وأخطرها على الملوك بزعامتها الدينية، واضطهاداتها وأنظمتها، أكثرها تفاهة، أكثرها كآبة، أكثرها تشاؤمًا في احتفالاتها، أكثرها صيبيانية وانطوائية على مبادئها الأخلاقية، وأكثر الكل تعصبًا”(23)(24).
وسار ديديرو خطوة أوسع من هيوم تجاه نظرية التطوُّر فقال ” لنفترض أن الطبيعة الحيوانية من الأزل، توزعت عناصرها الخاصة واختلطت بكتلة المادة، ولنفرض أن هذه العناصر اتحدت، حيث تهيأت لها الظروف المناسبة، وأن الجنين المكوَّن من هذه العناصر مرَّ على تشكيلات وتطورات لا نهائية، وأكتسب على التعاقب: حركة، إحساسًا، آراء، أفكار، مشاعر، انفعالات، إيماءات، إشارات، أصواتًا واضحة، لغة، شرائع، علومًا وفنونًا. وإن ملايين السنين أنقضت بين هذه التطورات، وإن الكائن العضوي مازال أمامه تطورات أخرى ينتظر أن يمر بها، وإضافات أخرى يتلقاها ليست معروفة لنا الآن.. فالطبيعة محايدة، وهي لا تميز بين الصالح والطالح، بين الكبير والصغير، بين الخاطئ والقديس.. لن يكون في مقدورنا قط أن نفهم الطبيعة أو نجاهد ونسعى في إفراز غرضها ومعناها، إن كان لها غرضًا ومعنى، لأننا نحن أنفسنا في كل تاريخنا الحافل بمزيج من الأحداث الدموية والأعمال الرائعة لا نعدو أن نكون لعبة متناهية الصغر في يدها”(25)(26).
_____
(1) المسيح والنقد التاريخي ص 9.
(2) المسيح والنقد التاريخي ص 10.
(3) Albert Schweitzer , The Quest of Historical Jesus, 1948. P. 17.
(4) المسيح والنقد التاريخي ص 9.
(5) تاريخ الفكر المسيحي جـ 1 ص 157.
(6) المسيح والنقد الكتابي ص 11.
(7) ايريل كيرنز – ترجمة عاطف سامي برنابا – المسيحية عبر العصور ص 487.
(8) Durant. op. cit. Vol. IX. P. 717.
(9) أورده د.ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة جـ 5 ص 44.
(10) Roland H. Bainton, The Horizon History of Christianity, Anon, yig 64, P. 345.
(11) أورده د.ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة ص 44.
(12) Durant, op. cit. IX. P. 746.
(13) د.ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة ص 44.
(14) د.ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة ص 45.
(15) Durant. op. cit. IX. P. 75..
(16) د.ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة ص 45.
(17) Durant. op cit. vol. IX. PP. 15. , 151.
(18) أورده د.ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة جـ 5ص 42.
(19) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 332.
(20) أورده القس انجليوس جرجس – وجود الله وصور الإلحاد ص 35.
(21) Johnson. op. cit. P. 35.
(22) أورده د. ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة جـ 5 ص 45.
(23) Durant. op. cit. IV. 656.
(24) د. ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة جـ 5 ص 46.
(25) Durant. op. cit. IV. PP. 651 , 652.
(26) أورده د. ق جون لوريمر – ترجمة عزرا مرجان – تاريخ الكنيسة جـ 5ص 46.