كيف نشأ مذهب الربوبية Deisme؟ وما هي أهم مبادئه؟ وكيف أثر على الثورة الفرنسية ومدرسة النقد الأعلى؟
119- كيف نشأ مذهب الربوبية Deisme؟ وما هي أهم مبادئه؟ وكيف أثر على الثورة الفرنسية ومدرسة النقد الأعلى؟
ج: في هذه الفترة ذهب التجار الإنجليز المغامرون إلى أقاصي الأرض، وأطَّلعوا على الديانات الأخرى، واكتشفوا بعض التشابه بين هذه الديانات وبين المسيحية، مما دعاهم للقول بأن هناك دينًا فطريًا أساسيًا في قلوب كل البشر بعيدًا عن الكتاب المقدَّس، وتطوَّر فكرهم هذا إلى مذهب التأليه الطبيعي أو الربوبية الذي ظهر في إنجلترا أولًا في منتصف القرن السابع عشر، ومنها انتقل إلى فرنسا وألمانيا وأمريكا.
ومن أهم مبادئ مذهب الربوبية:
1– الله: نظر الربوبيون لله على أنه إله متسامٍ خلق الخليقة وتركها لتحكمها القوانين الطبيعية، فالله في نظرهم هو إله غائب، ويقول ” إيريل كيرنز”.. ” وقد هيأ مذهب الربوبية نظامًا يعتقد في وجود إله متسامٍ ترك خليقته بعد أن خلقها لتحكمها القوانين الطبيعية التي يمكن للعقل البشري أن يكتشفها ويفهمها، فأصبح الله بذلك إلهًا غائبًا.. ويؤمن أصحاب ذلك المذهب أن الله ترك خليقته تستكمل حركتها محكومة بالقوانين الطبيعية” (2).
2- المسيح: نظر الربوبيون للسيد المسيح على أنه مُعلّم الأخلاق ومثال للفضيلة، وتجاهلوا أنه الله الظاهر في الجسد.
3- الكتاب المقدَّس: نظر الربوبيون للكتاب المقدَّس على أنه دليل أخلاقي، منكرين أنه إعلان الله للبشرية، كما أنكروا النبوءات والمعجزات(1).
4- الإنسان: نظر الربوبيون على أن الإنسان يرتبط بالله ليس عن طريق الوحي، بل بشهادة الطبيعة من خارج، والقوانين الأخلاقية من داخل الإنسان، ونادى الربوبيون بأن الإنسان صالح بطبيعته، وأنه يسعى نحو الكمال، منكرين خطية الإنسان، وأن العبادة التي يقدمها الإنسان تتلخص في الفضيلة والتقوى، وأن التوبة تجعل حياة الإنسان متوافقة مع القوانين الأخلاقية، وبنى إدوارد هيربرت Edward Herbert فلسفته في القرن السابع عشر على هذا الأساس، فيقول ” إيريل كيرنز”.. ” ويمكن تلخيص معتقدات هيربرت في العبارة التي تقول {يجب عبادة الله الموجود بالتوبة والحياة الأخلاقية، حتى تستطيع النفس الخالدة أن تتمتع بالحياة الأبدية وثوابها بدلًا من مواجهة العقاب}”(2).
وهكذا ظهر مذهب التأليه الطبيعي أو الربوبية كمذهب ديني طبيعي أو دين عقلي في إنجلترا في القرن السابع عشر، ونظرًا لتنقل بعض المفكرين الإنجليز إلى فرنسا مثل ” هيربرت ” Herbert و” شافتسيري ” Shaftesbury، وبعض المفكرين الفرنسيين إلى إنجلترا مثل ” جين روسو ” Jean Rousseau و” فولتير ” Voltaire فوجدت الأفكار الربوبية مناخًا مناسبًا في فرنسا في القرن الثامن عشر، ودان بهذه الأفكار الربوبية رجال الثورة الفرنسية عام 1789م. ثم انتشر هذا التفكير العقلاني في ألمانيا، ثم أمريكا ولاسيما بسبب هجرة عدد كبير من الإنجليز الربوبيين إليها، وأصدر ” توماس بين ” Thomas Paine كتابه باسم ” عصر العقل ” سنة 1795م، فساعد على انتشار مذهب الربوبية. كما ساهمت بعض الشخصيات مثل ” بنيامين فرانكلين ” Benjamin Franklin و” توماس جيفرسون ” Thomas Jefferson و” إيثان إلن ” Ethan Allen في نشر مذهب الربوبية أكثر فأكثر في أمريكا.
وهكذا جاء مذهب الربوبية كنتيجة للاتجاه الفلسفي العقلي العلمي للمعرفة، وفي هذه الفترة أثار الذين دعوا أنفسهم بالعلماء الكثير من التساؤلات حول الكتاب المقدَّس والدين والأخلاق، وألتقط الفلاسفة هذه الأسئلة وحولوها إلى أسئلة فلسفية ثم إلى أسئلة لاهوتية.
وساعد مذهب الربوبية على ظهور مدرسة النقد الأعلى، فيقول ” إيريل كيرنز”.. ” ساعدت الربوبية أيضًا على تطور مفهوم أن الإنسان في أصل طبيعته صالح ويسعى نحو الكمال، بحيث لا بُد وأن نتوقع استمرار سعي البشر نحو خلق نظام أكثر كمالًا على الأرض. وقد كانت الربوبية متفائلة أكثر من اللازم في هذا الافتراض لأنها كانت تميل نحو تجاهل خطية الإنسان، وتعتبر مدرسة الفكر المتحرر الحديث بتركيزها على المنهج العقلي مدينة بالكثير لمذهب الربوبية. وقد ساعد مفكرو الربوبية أيضًا على إفساد النظام الحديث لتفسير الكتاب المقدَّس والمعرفة باسم مدرسة النقد الأعلى”(3).
_____
(1) راجع إيريل كيرنز – المسيحية عبر العصور ص 441.
(2) ترجمة عاطف سامي برنابا – المسيحية عبر العصور ص 440، 441.
(3) ترجمة عاطف سامي برنابا – المسيحية عبر العصور ص 441.
(4) ترجمة عاطف سامي برنابا – المسيحية عبر العصور ص 442، 443.