117- ما هي تعليقاتك على مدرسة نقد الشكل بشأن الفصل بين “يسوع التاريخ” و”مسيح الإيمان”؟
ج: فصلت مدرسة نقد الشكل بين ” يسوع التاريخ ” أي يسوع كشخصية تاريخية، وبين ” مسيح الإيمان ” أي شخصية يسوع المسيح كما دوَّنتها الأناجيل، بحجة أنه أثناء تناقل هذه الأناجيل شفاهة قبل تدوينها بالغت الجماعة المسيحية الأولى في التضخيم في شخصية يسوع، وإضفاء الصفات الإلهيَّة عليه، ونسبة المعجزات له، ويؤخذ على هذه المدرسة ما يلي:
1- بالغ أصحاب هذه المدرسة في أهمية فترة النقل الشفاهي، بينما كانت هذه الفترة قصيرة نسبيًا، فالفترة بين قيامة السيد المسيح وكتابة أول إنجيل وهو إنجيل مرقس لم تتعدى الثلاثون عامًا، وهي فترة قصيرة لا تسمح بالإضافات وزخرفة الأحداث.
2- عاش التلاميذ بعد القيامة وحتى كتابة الأناجيل، وليس من المعقول أن يسمح التلاميذ بأي إضافات أو مبالغة في الأحداث التي عاصروها.
3- تتجاهل مدرسة نقد الشكل شهود العيان الذين عاصروا أحداث السيد المسيح، وتلامسوا مع معجزاته، وسمعوا تعاليمه وأمثاله وأقواله، وأيضًا عاصروا الأناجيل بعد كتابتها، فلو وجدوا أن هناك إضافات ومبالغات وخلافات عما حدث في الواقع لأوضحوا الحقيقة وكشفوا الزور والبهتان.
4- تتغاضى مدرسة نقد الشكل عن الشهداء الذين سفكوا دماؤهم رخيصة من أجل إيمانهم بيسوع المسيح، فلو لم يكن يسوع شخصًا حقيقيًا ما كانوا قد قدموا حياتهم للموت من أجله.
5- بالغت مدرسة النقد في دور الجماعة المسيحية المبكرة، فجعلتها جماعة مبدعة لها حكمة سليمان الملك، حتى أنها استطاعت أن تختلق أقوالًا على مستوى عالٍ من الحكمة وتنسبه للسيد المسيح، وكأن هذه الجماعة قد تحوَّلت إلى معلمين عظماء بعظمة السيد المسيح.
6- إشارة ” جون درين ” John Drane في كتابه ” يسوع والأناجيل الأربعة ” إلى خطأ هام سقط فيه هؤلاء النُقَّاد، فقد ظنوا أن أدب العهد الجديد تطوَّر بنفس الطريقة التي تطوَّر بها فولكلور أوربا الشمالية، تلك البلاد التي عاشوا فيها، والحقيقة أن العهد الجديد يسجل خبرة الكتَّاب، وعلاقتهم الشخصية بالسيد المسيح، بينما فولكلور أوربا الشمالية يتكون من قصص ترجع للماضي السحيق وقد تطوَّرت(1).
7- أشار ” جون درين ” إلى خطأ آخر سقط فيه هؤلاء النُقَّاد، وهو قولهم بأن المجتمع المسيحي هو الذي ابتدع قصص العهد الجديد ” وهناك على الأقل سببان واضحان ينفيان القول بأن المجتمع المسيحي الأول قد ابتدع قصص العهد الجديد – كما يقول درين – السبب الأول أنه في وقت كتابة العهد الجديد كان هناك معاصرون كثيرون يمكنهم أن يواجهوا هذه (الفبركة) السبب الثاني أن هناك أمثلة كثيرة للرد على ديبليوس وبولتمان حيث يميز كتَّاب العهد الجديد بين أفكارهم الخاصة وأفكار وتعاليم يسوع.. فالكنيسة الأولى وكتَّاب العهد الجديد لم يفرضوا أفكارهم وموضوعاتهم على مادة الإنجيل”(2).
وقال درين أنه بعد توضيح سلبيات نقد الشكل اتجه النُقَّاد إلى النقد الأدبي والموضوعي تاركين نقد الشكل، ويقول ” ف. ج. بابكوك”.. ” ولذلك نجد أن كل أساسيات نظرية نقد الشكل قد تفككت وتلاشت مع أنها بارعة، كما أنها معقولة وجديرة بالتصديق إلى حد ما، وثمة اقتراحات أنها ربما تحتوي على شظايا من الحقيقية، وكذا كان حال النظريات الفاشلة الأخرى التي سبقتها، وليس هناك ما يدعو للشك أنه خلال فترة قصيرة سوف تلحق نظرية نقد الشكل بغيرها من النظريات الفاشلة وتشاركها مصيرها”(3)(4).
8- لم يلتفت بولتمان وأتباعه إلى المصادر غير المسيحية التي تحدثت عن شخصية يسوع التاريخية، مثل شهادة مشاهير المؤرخين غير المسيحيين في القرن الأول والثاني الميلادي ودعنا نذكر منهم:
كرنيليوس تاسيتوس – لوسيان الساموساطي – سيوتونيوس – بليني الصغير – ثالوس – فليجون – مارابار – سيرابيون – يوسيفوس
أ – كرنيليوس تاسيتوس (55 – 120م):
وهو مؤرخ روماني أُطلق عليه ” المؤرخ الأعظم ” وعُرف باستقامة أخلاقه، ومن أشهر أعماله ” الحوليات ” التي غطت الفترة من سنة 14م إلى موت نيرون سنة 68م، و” التاريخ ” التي غطت الفترة من موت نيرون إلى موت دوميتيان سنة 96م، وتكلم تاسيتوس في ” الحوليات ” عن اتهام المسيحيين بحرق روما وذكر نسبة المسيحيين إلى المسيح، فقال ” ولكي يسكت الأقاويل إتهم نيرون الذين يُدعوَن {مسيحيين} ظلمًا بأنهم أحرقوا روما، وأنزل بهم أقسى العقوبات، وكانت الأغلبية تكره المسيحيين. أما المسيح – مصدر هذا الاسم – فقد قُتل في عهد الوالي بيلاطس البنطي حاكم اليهودية في أثناء سلطنة طيباريوس، ولكن هذه البدعة الشريرة التي أمكن السيطرة عليها بعض الوقت عادت وانتشرت من جديد لا في اليهودية فقط حيث نشأ هذا الشر، ولكن في مدينة روما أيضًا”(5)(6).
ب – لوسيان الساموساطي:
وهو من كتَّاب الهجاء اليونانيين عاش في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي، ويقول ” أن المسيحيين كما نعلم يعبدون إلى هذا اليوم رجلًا ذا شخصية متميزة، وقد أستحدث الطقوس الجديدة، التي يمارسونها والتي كانت عِلّة صلبه.. وهم أيضًا يتأثرون بمشرّعهم الأصلي الذي قال لهم أنهم جميعًا أخوة من اللحظة التي يتحوَّلون فيها وينكرون كل آلهة اليونان، ويعبدون الحكيم المصلوب ويعيشون طبقًا لشرائعه”(7)(8).
ج- سيوتونيوس:
أحد رجال الإمبراطور هادريان، وكان مؤرخًا للقصر الملكي ” ويعتقد سيوتونيوس – الذي لم يكن محبًا للمسيحية – أن يسوع صُلب في أوائل الثلاثينيات من عمره، وأن المسيحيين قد وُجدوا في المدينة الملكية قبل مرور عشرون عامًا من ذلك الوقت، وهو يحكي عن معاناتهم وموتهم بسبب عقيدتهم في أن يسوع المسيح قد عاش ومات وقام من الأموات حقًا”(9).
د- بليني الصغير:
حاكم بيثينية بآسيا الصغرى سنة 112م وكتب للإمبراطور تراجان يقول عن المسيحيين ” أنه جعلهم يلعنون المسيح، وهو الأمر الذي لا يقبله المسيحي الحقيقي.. إن ذنبهم وخطأهم الوحيد هو أنه كانت لهم عادة أن يجتمعوا في يوم معين قبل بزوغ النهار ويرنموا ترنيمة للمسيح، كما لو كان إلهًا”(10)(11).
هـ- ثالوس:
كتب تاريخ منطقة شرق البحر المتوسط سنة 52م، وقد أقتبس عنه يوليوس أفريكانوس الكاتب المسيحي سنة 221م، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وقال أفريكانوس عن شهادة ثالوس ” يفسر ثالوس هذه الظلمة بحدوث كسوف للشمس، وهذا التفسير غير معقول من وجهة نظري لأن الكسوف الشمسي لا يمكن أن يحدث وقت اكتمال القمر، وكان ذلك الوقت هو وقت عيد الفصح عند اكتمال القمر عندما مات المسيح”(12)(13).
و – فليجون:
وهو مؤرخ غير مسيحي كتب ” أخبار الأيام ” ويقول عنه يوليوس أفريكانوس: يؤكد (فليجون) أن الظلمة خيّمت على الأرض وقت صلب المسيح، وهو يعتبر ذلك كسوفًا شمسيًا ” وأثناء حكم طيباريوس قيصر حدث كسوف للشمس وقت اكتمال القمر”(14)(15).
ز – مارابار – سيرابيون:
وهو غالبًا فيلسوف رواقي كتب سنة 70م رسالة وهو في السجن يقارن بين يسوع وسقراط وفيثاغورس فقال ” أية فائدة جناها الأثينيون من قتل سقراط؟ لقد أتى عليهم الجوع والوباء جراء لجرمهم. وأية فائدة جناها أهل ساموس من حرق فيثاغورس؟ لقد غطت الرمال أرضهم في لحظة. وأية فائدة جناها اليهود من قتل ملكهم الحكيم؟ لقد تلاشت مملكتهم عقب ذلك. لقد إنتقم الله بعدل لهؤلاء الرجال الثلاثة الحكماء: فقد مات الأثينيون جوعًا، وغطى البحر سكان ساموس، وطُرد اليهود من بلادهم حيث عاشوا في الشتات. ولكن سقراط لم يمت إلى الأبد ولكنه عاش في تعاليم أفلاطون، ولم يمت فيثاغورس إلى الأبد، فقد عاش في تمثال هيرا، ولم يمت الملك الحكيم إلى الأبد، ولكنه عاش في التعاليم التي أعطاها”(16)(17).
ح – يوسيفوس (37 – 100م):
يوسيفوس هو مؤرخ يهودي مشهور كتب في كتابه ” أثار اليهود”.. ” كان في ذلك الوقت رجل حكيم اسمه يسوع، لو كان لنا أن ندعوه رجلًا، لأنه كان يصنع العجائب وكان معلمًا لمن كانوا يتقبلون الحق بابتهاج، وجذب إليه الكثيرين من اليهود والأمم على حد سواء، وكان هو المسيح، وعندما أصدر بيلاطس الحكم عليه بالصلب بإيعاز من رؤسائنا، لم يتركه أتباعه الذين أحبوه من البداية، إذ أنه ظهر لهم حيًّا مرة أخرى في اليوم الثالث، كما تنبأ أنبياء الله عن هذه الأشياء وعن آلاف الأشياء العجيبة المختصة به، وجماعة المسيحيين المدعوين على اسمه، مازالوا موجودين حتى هذا اليوم”(18)(19).
كما أن التلمود البابلي ذكر صلب السيد المسح في ليلة عيد الفصح.
ودعنا يا صديقي نختتم هذا الفصل ببعض فقرات من اعتراضات سي. أس. لويس عملاق الأدب على هؤلاء النُقَّاد وأمثالهم حيث يقول ” إن تقويض الفكر المسيحي التقليدي القديم كان بالأساس عمل علماء اللاهوت النقديّين الذين انهمكوا في نقد العهد الجديد، وهؤلاء الخبراء في هذا النوع من المعرفة يطالبونا بأن نتخلى عن قدر ضخم من المعتقدات التي اعتنقتها الكنيسة الأولى والآباء. حتى القرن التاسع عشر..
أولًا: أيًّا كان هؤلاء الرجال، ربما يكونوا نُقَّادًا للكتاب المقدَّس، إلاَّ أنني أرتاب فيهم كنقاد، فهم من منظوري يفتقدون إلى الحكم الأدبي.. فإذا قال لي (أحد النُقَّاد) أن شيئًا ما في الإنجيل أسطورة أو خيال، فإنني أريد أن أسأله كم عدد الأساطير والقصص الخيالية قد اطَّلع عليها؟ وإلى أي مدى استطاع تدريب حاسة الذوق لديه لاستبيانها واكتشافها من خلال صفاتها المميزة..؟ أول اعتراضاتي فهؤلاء الرجال يطلبون مني أن أصدق أنهم يستطيعون قراءة ما بين السطور للنصوص القديمة، بينما الدليل يؤكد عجزهم الواضح في قراءة السطور نفسها، وهم يزعمون أنهم يستطيعون رؤية حبة القمح بينما لا يستطيعون رؤية فيل على بعد خمسة أمتار منهم.
ونأتي إلى الاعتراض الثاني كل اللاهوت الخاص بالأسلوب الليبرالي يتضمن في نقطة ما الزعم بأن السلوك والهدف والتعليم الحقيقي للمسيح أساء تلاميذه فهمه وكذلك أساءوا تقديمه. وأنه تم استرجاعه وإحياؤه مرة أخرى بواسطة العلماء المعاصرين.. تلك الفكرة في رأيي منافية للعقل، ولا يوجد أي احتمال لها حيث لا يمكن لأي حجة أو دليل أن يوازن ذلك.
ثالثًا: وجدت في هؤلاء اللاهوتيين استخدامًا متكررًا للمبدأ القائل بعدم حدوث المعجزات، ومن ثمَ، أي عبارة وُضعت على لسان ربنا من النصوص القديمة والتي هي لو فُرض أن ربنا قد نطق بها سوف تشكل نبوءة للمستقبل، أخذوها واعتبروها أُدخلت بعد حدوث الحدث الذي يبدو وكأنه كان متوقعًا.. رفض كل الفقرات التي تسرد قصة المعجزات -باعتبارها أجزاء غير أصيلة تاريخيًا- وهو أمر معقول لو أننا بدأنا بمعرفة أن المعجزات بوجه عام لا تحدث أبدًا.. إن القاعدة {ما هو معجزي ليس أصيلًا تاريخيًا} هي قاعدة جلبوها لدراستهم للنصوص..
.. اعتراضي الرابع.. كل هذه الأنواع من النقد تحاول بناء تكوين النصوص التي تقوم بدراستها، ما هي الوثائق الغائبة التي استعان بها كل كاتب للأناجيل؟ ومتى وأين كتب وما هو الهدف من وراء الكتابة؟ وما هي الظروف التي أثرت فيه..؟ ومن الوهلة الأولى يمكن أن تراه (هذا المنهج) مقنعًا جدًا.. إن إعادة بناء تاريخ النص -عندما يكون النص موغلًا في القدم- يبدو مقنعًا وثابتًا تمامًا، ولكن الشخص بعد كل شيء يبحر بواسطة حسابات ميتة، فلا يمكنه التحقق من التاريخ بالحقائق، وسعيًا لتقرير مدى أصالة ودقة هذا المنهج. ما الذي يمكنك أن تطلبه أكثر من أن تظهر في موقف يكون فيه نفس المنهج الذي يتم العمل به، ويكون لدينا حقائق يمكن التحقق منها بواسطة هذا المنهج..؟ وربما نستنتج أنه فقط لأن الأشخاص الذين عرفوا الحقائق قد ماتوا أو لا يمكنهم أن يعلنوا هذه الحقائق.. إن نُقَّاد الكتاب المقدَّس، أيًّا كان أسلوب إعادة البناء الذي ابتكروه، لا يمكن أن يثبت خطأه تمامًا وبشكل واضح. فالقديس مرقس مات، وأيضًا القديس بطرس، ولذلك ستظل هناك أمور ملحَّة تخضع للنقاش ولم نستطع أن نحسمها حسمًا نهائيا..”(20).
_____
(1) راجع القس أندريه زكي – المسيح والنقد التاريخي ص 36.
(2) القس أندريه زكي – المسيح والنقد التاريخي ص 37.
(3) Babcock , FC , 20.
(4) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 503.
(5) Annals XV , 44.
(6) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 152.
(7) Lucian , the Death of Peregrine 11 – 13.
(8) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 153.
(9) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 153.
(10) Epistles , X , 96.
(11) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 153.
(12) Julius , Africanus , Chronography , 18. 1.
(13) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 153.
(14) Africanus , Chronogoply , 18: 1.
(15) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 154.
(16) Bruce , NTDATR , 114.
(17) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 154.
(18) Antiquities XVIII, 33.
(19) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 156.
(20) برهان يتطلب قرارًا ص 505 – 509.