100- نحن الذين وصلت لنا أنوار العهد الجديد، ما حاجتنا إلى عهد قديم بالي؟
ثانيًا: العهد القديم.. قصة الله والإنسان
س100: نحن الذين وصلت لنا أنوار العهد الجديد، ما حاجتنا إلى عهد قديم بالي؟ ويطرح الخوري بولس الفغالي تساؤلات البعض قائلًا ” ونود أن نتوقف عند تساؤل عملي يطرحه الكثيرون اليوم. لماذا لا يزال المسيحيون يقرأون العهد العتيق (القديم)؟ فليس هو إلاَّ قصة شعب من الشعوب. لماذا لا يقرأ قصص المصريين والبابليين وأهالي أوغاريت؟ ثم إن ما نقرأه في هذه الكتب التي تعتبرها الكنيسة مقدَّسة لا يشرف قارئيه، إذ فيه من الكذب والاحتيال ونداء إلى القتل والاحتلال والتشريد ما لا نزال نرى صداه حتى اليوم. وأخيرًا لماذا لا تكتفي الكنيسة بقراءة العهد الجديد؟ فعندما يجئ الكامل يزول الناقص (1كو 13: 10) إما وقد جاء المسيح مكمل الشريعة القديمة فما حاجتنا بعد إلى شريعة قديمة لا تصلح لأبناء الله؟!”(1).
ج: أ – العهد القديم يربطنا بأصلنا في جنة عدن، ويسبر معنا الزمن حتى تجسد الله الكلمة، فكيف يمكن إغفال كل هذه الفترة..؟! أليس معنى هذا هو بتر تاريخ العهد الإلهي مع الإنسان، فيصبح الإنسان في حيرة من أمره، لا يعرف أصله، ولا سقطته، ولا اهتمام الله به.. لو أُلغي العهد القديم فكيف يعرف الإنسان خلقته وسقوطه وافتقاد الله له وتجسده من أجله ” إلغاء العهد القديم، من شأنه أن يجعل الإنسان في الصورة الكتابية خاطئًا بدون إمكانية للتوبة. فمن أخطأ في العهد القديم، ليس له إمكانية للانعتاق من ربكة الخطيئة والموت حسب وعد الله. كذلك فإن ولادة يسوع في العهد الجديد تصبح غامضة ومبهمة إذا أغفلنا سقوط الإنسان وخطيئته. وإذا كنَّا نصر على الخلاص بالمسيح، ففي هذا اعتراف ضمني بخطيئتنا، الأمر الذي يستدعي بنا العودة إلى رحاب العهد القديم حيث بدأ تاريخ الإنسان مع الخطيئة”(2).
ب- حقًا إن العهد القديم هو المرجع الوحيد الذي يخبرنا بالتفصيل عن قصة خلقتنا، وسقوطنا، وتعهد الله لنا بالناموس والأنبياء، وحوى العهد القديم النبوءات والرموز والإشارات لقصة خلاصنا، وألف العهد القديم مع العهد الجديد كتابًا مقدَّسًا واحدًا يشمل البداية والنهاية، كتابًا يمثل رسالة الله للبشرية، تشرح لنا تدخل الله في التاريخ البشري، ويقول الخوري بولس الفغالي ” إن الكنيسة ترى إن كل ما ورد في الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد هو كلام الله.. كلمة الله تدخل تاريخ الكون فتنطلق بالإنسان من عالم الخطية والبغض والقتل والحرب إلى عالم النعمة والمحبة والتفاهم والسلام، وهذا ما يصوّره لنا العهد القديم، من آدم الذي يثور على ربه إلى قايين الذي يقتل أخاه، إلى لامك الذي لا يعرف لشريعة الثأر والانتقام حدودًا.. هذه القصة ليست قصة شعب وحسب بل هي قصة كل الشعوب، قصة كل البشرية، وقد لخصها القديس بولس في رسالته إلى الرومانيين (5: 12 – 17) {فكأنما بإنسان واحدٍ دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع.. إن كان بخطية واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيرًا نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين.. لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح}.
إذا كان العهد الجديد هو عهد البر، والعهد القديم هو عهد الخطية، فكيف نعرف أننا تبرَّرنا إن لم نعرف إننا خطئنا؟ والقديس يوحنا يقول لنا في رسالته الأولى (1: 8 – 9) {إن قلنا إنه ليس لنا خطية نُضل أنفسنا وليس الحق فينا. وإن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثمٍ}.
قصة العهد القديم ليست قصة سياسية تروي لنا التطور الحربي والسياسي والاجتماعي لشعب من الشعوب، بل قصة دينية، قصة محاولة الله لجمع البشرية كلها في عائلة تعيش حوله في المحبة. وهكذا عندما نقرأ قصة شعب الله نستطيع أن نقرأ قصة كل شعب وقصة كل البشرية، لأن مخطط الله ما يزال يهدف إلى أن يجمع في المسيح كل شيء مما في السماوات وعلى الأرض (أف 1: 10).
والكنيسة التي تتقبل هذه الكتب على أنها كلام الله، لا يجوز لها أن تحتفظ منها بالبعض وتحذف البعض الآخر. فلقد قال المسيح: قبل أن تزول السماء والأرض لن تزول ياء أو نقطة من الشريعة حتى يتم كل شيء (مت 5: 18) والكنيسة وكيلة على وديعة كلمة الله، وكل ما يُطلب من الوكيل هو أن يكون أمينًا. لاشك في أن الكنيسة تعرف أن كلام الله يكمُل في العهد الجديد، ولكنها تنطلق من العهد القديم لأنه تكلم عن المسيح، وترى في كل كلمات الكتاب صورة عن وجه المسيح.
فنحن قارئي العهد القديم نعلم أن كلام الله نزل على (أُرسل إلى) شعب اختاره، بالرغم من أنه لم يكن أفضل الشعوب، ليحمل رسالة دينية هي تعليم عبادة الله الواحد والابتعاد بالناس عن الشر وعبادة الأصنام وتعليم الناس حياة الأخوة والمحبة، فوضع حدًا للثأر (السن بالسن والعين بالعين) منتظرًا أن يعلمهم تجاوز المعصية (أم 9: 11) ورفض الجور والظلم، وطلب الاهتمام بالغريب والفقير واليتيم والأرملة. في العهد القديم نقرأ ملخص الشريعة وتعاليم الأنبياء. أحبب الرب إلهك بكل قلبك وبكل نفسك وبكل عقلك (تث 6: 5) وأحبب قريبك كنفسك (لا 19: 18)”(3).
ويقول الأب جورج فلورفسكي ” إن هذه الأسفار تؤلف كتابًا مقدَّسًا واحدًا، ذا موضوع رئيسي واحد ورسالة واحدة، بل تؤلّف رواية العلاقات بين الله وشعبه المختار، ومدوَّنًا يورد أفعال الله وعظائمه، فالله ابتدأ بالمسيرة، إذ هناك بداءة ونهاية تكوّن الهدف والغاية، أي هناك نقطة انطلاق كامنة في كلام الله {في البدء} (تك 1: 1) ونهاية يشير إليها كلام الرؤيا الختامي {تعالَ أيها الرب يسوع} (رؤ 22: 20) إذًا هناك قصة كاملة تبتدئ من سفر التكوين وتنتهي بسفر الرؤيا، وهذه القصة هي تاريخ، وسيرة تتحرك بين هاتين النقطتين. ولهذه المسيرة اتجاه معين، وهناك هدف أساسي ورجاء اكتمال سيتحقق في آخر الأزمنة. فهذه القصة ذات مراحل وكل مرحلة ترتبط بطرفي المسيرة ولها مكانة صحيحة وفريدة في القصة كلها. لذلك تفهم كل مرحلة من السياق كله والمنظور كله.
كلَّم الله آباءنا {مرات كثيرة وبمختلف الوسائل} (عب 1: 1) وكشف عن نفسه خلال العصور باستمرار قائدًا شعبه من حقيقة إلى حقيقة. فهناك مراحل في إعلانه واستزادة، وهذا التنوع يجب ألاَّ يُهمل أو يُغفل.. فما الكتاب مجرَّد مدوَّن إنساني عن أعمال الله وأفعاله، بل نوع من التدخل الإلهي نفسه. فالكتاب يحمل في طياته الرسالة الإلهية، وبما أن أعمال الله تؤلف رسالة، فإننا لا نحتاج إلى تجاوز الزمان أو التاريخ حتى نلاقي الله. فهو يلاقي الإنسان في التاريخ.. فالتاريخ ينتسب إلى الله، والله يدخل التاريخ الإنساني”(4).
ج- تدرج الله بالبشرية خطوة بخطوة من العهد القديم للعهد الجديد، فكان الله حاضرًا في العهد القديم من خلال الأحداث وأقوال الأنبياء، فإلغاء العهد القديم هو تنكُّر للحضور الإلهي في تاريخ البشرية..
الله هو إله التاريخ في ماضيه وحاضره ومستقبله، ودخل السيد المسيح التاريخ، وهو فوق التاريخ، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. “يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد” (عب 13: 8)، فإلغاء العهد القديم هو تنكُّر ليسوع المسيح العامل في التاريخ.. يحكي لنا العهد القديم قصة اختيار الله لإبراهيم ونسله وسط بشريَّة عمَّتها الفوضى، فكان إبراهيم الخميرة التي خمَّرت عجينة البشرية كلها كما سنرى فيما بعد في موضوع الاختيار، ويقول الأب جورج فلورفسكي ” إن الكتاب يقص تاريخ الخلاص فالإنسان ينتمي عضويًا إلى هذه القصة، فيظهره لنا الكتاب في طاعته وثورته العنيدة وفي سقوطه ونهوضه، ويتلخَّص المصير الإنساني كله في مصير إسرائيل القديم والجديد الذي هو شعب الله المختار. إن لحدث الاختيار أهمية بالغة، لأن شعبًا قد اختير وفُرز عن الأمم الأخرى وصار واحة مقدَّسة وسط الفوضى الإنسانية، فالله أقام عهده مع شعب واحد وأعطاه شريعته المقدَّسة، ومن هذا الشعب برز كهنوت حقيقي وإن كان كهنوتًا مؤقتًا، ومنه ظهر أنبياء حقيقيون نطقوا بكلمات ملهمة من روح الله. فكان هذا الشعب مركزًا مقدَّسًا وإن كان مركزًا خفيًا للعالم كله، وواحة حبْتنا بها رحمة الله في عالم ساقط وخاطئ وضال وغير مخلص. كل هذه الأمور لا تشكّل حرف الرسالة الكتابية، بل قلبها، فهي لم تكن عملًا بشريًّا، بل أتت من الله. لكنها كانت {من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا}. إن الميزات التي أُعطيت لإسرائيل القديم خضعت لهدف أسمى وهو الخلاص الكوني {لأن الخلاص يجئ من اليهود} (يو 4: 22) كوني هدف الخلاص، لكنه يتم عن طريق الفرز والاختيار، عندما يُوجِد الله في وسط السقوط والدمار الإنسانيين واحة مقدَّسة. فالكنيسة أيضًا هي واحة مفروزة لكنها غير منفصلة عن العالم”(5).
د – والعهد القديم هو كنز الخبرات البشرية، فمن خلال الأحداث والشخصيات المختلفة نلتقي بها سواء من رجال الإيمان أو من الأشرار.. هل سيرة إبراهيم أب الآباء رجل الإيمان الذي أصعد ابنه ذبيحة حيَّة على مذبح الطاعة الإلهيَّة، وعودة ابنه حيًّا رمزًا للسيد المسيح الذبيح الأعظم القائم من بين الأموات.. ألا تستحق (هذه السيرة) أن نحتفظ بها ونتعلَّم منها؟!
هل سيرة موسى النبي الذي قاد شعب الله من أرض العبودية إلى الحرية، وهو مثال ورمز للمسيح الذي جاء وحرَّرنا من الموت وعبودية إبليس.. ألا تستحق (هذه السيرة) أن نحتفظ بها ونتعلَّم منها؟!
وقس على ذلك سيرة داود النبي ومزاميره الحيَّة التي مازلنا نصلي بها، وهي جديدة كل صباح، وسيرة إيليا النبي الناري الذي أغلق أبواب السماء وفتحها بصلواته، وبقية الأنبياء القديسين الذين ضحوا بدمائهم رخيصة على مذبح الحب الإلهي، والتمسك بكلمة الله المدوَّنة في العهد القديم..
هـ- وقد حمل لنا العهد القديم كلمة الله الحيَّة التي عاشت بها البشرية على مدار السنين والأيام، وستظل كلمة الله حيَّة إلى الأبد لا تتغير ولا تشيخ ” وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد” (أش 40: 8).
و- حوى العهد القديم بعض الأمور الروحيَّة التي لم يتعرض لها العهد الجديد مثل النذور، فهي مازالت قائمة في العهد الجديد بدليل أن بولس الرسول ” كان عليه نذرًا” (أع 18: 18) كما إنه أخذ الرجال الذين عليهم نذر ودخل إلى الهيكل (أع 21: 23 – 26) ولا تجد شريعة النذر والنذير إلاَّ في العهد القديم (الإصحاح السادس من سفر العدد).. حقًا إن المسيحية لم تأتِ من فراغ، إنما هي ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ إلى جنة عدن.. فهل نضحي بكل هذا الماضي التليد؟!
_____
(1) المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 التوراة وعالم الشرق القديم ص 68.
(2) الأب منيف حمصي – هل يُلغى العهد القديم ص 51.
(3) المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 التوراة وعالم الشرق القديم ص 68 – 70.
(4) الكتاب المقدَّس والكنيسة والتقليد ص 21 – 23.
(5) الكتاب المقدَّس والكنيسة والتقليد ص 25.