كيف ارتبطت عقيدة “الثنائية” بالدعوة لإلغاء العهد القديم؟
كيف ارتبطت عقيدة "الثنائية" بالدعوة لإلغاء العهد القديم؟
كيف ارتبطت عقيدة “الثنائية” بالدعوة لإلغاء العهد القديم؟
97- كيف ارتبطت عقيدة “الثنائية” بالدعوة لإلغاء العهد القديم، أو كيف تعتبر الدعوة لإلغاء العهد القديم ضد عقيدة الوحدانية؟
أولًا: الماركونيَّة والدعوة لإلغاء العهد القديم
ج: ظهرت الماركونيَّة في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي على يد ماركيون ابن أسقف سينوب بأسيا الصغرى، ورغم ذكاء ماركيون الحاد، وميله للتقشف والصلاة والتأمل، فإنه سقط في بدعة خطيرة، حيث اعتقد بالثنائية أي أن هناك إلهين للكون هما:
1- الإله الخالق: وهو إله إسرائيل الذي خلق العالم، وهو أقل درجة من الإله الصالح، وقد إختار اليهود شعبًا له، وأعطاهم الناموس والأنبياء، ومع إنه إله بار إلاَّ أنه إلهًا قاسيًّا سريع الغضب والانتقام، يحارب ويسفك دماء أعدائه بلا رحمة، وهو يعاقب بقسوة الذين تعدُّوا الناموس، وقد ترك بقية الشعوب فريسة للوثنية والمادية، فهو السبب في كل الحروب، وهو إله كل شر.
2- الإله الفادي: وهو الإله العالي الصالح الذي يسكن في السماء الثالثة، فلا يعرفه أحد، ولا صلة له بالعالم لأنه منفصل عن المادة، ولم يخلق العالم، وفي السنة الخامسة عشر من حكم الإمبراطور طيباريوس قيصر ظهر هذا الإله الفادي في شخص السيد المسيح ليخلص الناس من الشر…
وقد حرَّك إله اليهود أتباعه لصلب المسيح، وبعد الموت بالصليب ذهب مباشرة إلى الهادس لإعلان الإنجيل للوثنيين ولأسرى الإله اليهودي، وبعد أن بشَّر السيد المسيح هؤلاء صعد إلى السماء مباشرة بدون قيامة على الأرض، وفي اليوم الأخير سيحكم على إله اليهود، ويطرحه في الهادس(1)(2).
وبسبب نظرة ماركيون الخاطئة لإله العهد القديم، رفض أسفار العهد القديم رفضًا كليًّا وجزئيًا، لأنها في نظره هي وحي من إله اليهود القاسي المنتقم وليست وحيًا من الإله المحب السامي، ووضع ماركيون كتابه ” المتناقضات ” سجل فيه اعتراضاته وقال إن إله العهد القديم هو خالق الشر ” أنا الرب وليس آخر. مُصوَّر النور وخالق الظلمة صانع السلام وخالق الشر. أنا الرب صانع كل هذه” (أش 45: 6، 7) بينما إله العهد الجديد هو صانع الخيرات ولم يدرك ماركيون أن المقصود بكلمة ” الشر ” هنا هو ثمر الخطية أو عقوبتها..
وهذا ما شرحه القديس يوحنا ذهبي الفم فيما بعد إذ قال ” يوجد شر هو بالحقيقة شر: الزنا، الدعارة، الطمع، وأشياء أخرى مخفية بلا عدد تستحق التوبيخ الشديد والعقوبة. كما يوجد أيضًا شر هو في الحقيقة ليس شرًا، إنما يُدعى كذلك مثل المجاعة، الكارثة، الموت، المرض وما أشبه ذلك، فإن هذه ليست شرورًا وإنما تُدعى هكذا.
ولماذا؟ لأنها لو كانت شرورًا لما كانت تصبح مصدرًا لخيرنا، إذ تؤدب كبرياءنا وتكاسلنا، وتقودنا إلى الغيرة وتجعلنا أكثر يقظة” (That Demans do not govern the world – Ham 1: 15)(3) كما قال ماركيون أن إله العهد القديم القاسي دفع بالدبتين لإفتراس 42 صبيًا صغيرًا لأنهم عيَّروا نبيه إليشع (1مل 2: 23 – 25) بينما إله العهد الجديد تكلم في المسيح قائلًا ” دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (مت 19: 14).
ويقول د. إميل ماهر إسحق عن مفهوم ماركيون لإله العهد القديم إنه ” قاض قوي وعادل ولكنه غضوب وقاسي ومتغيّر وضيق الأفق، يقول عن نفسه إنه خالق الشر، أي الكوارث (أش 45: 7، ترتليانوس، ضد ماركيون 1: 12 إلخ) ولذلك فقد ادعى إن إله العهد القديم لا يمكن أن يكون هو نفسه أبا ربنا يسوع المسيح إله الرحمة.
وقال بأن المسيح إله المحبة ظهر في الجسد ليعلن لنا الآب الذي يختلف عن إله العهد القديم. وبالتالي فقد رفض الأناجيل لأنها تشهد لكتب العهد القديم وتقتبس منه، ولم يقبل منها سوى إنجيل لوقا بعدما اقتطع منه الجزأين الأول والأخير لأنه أنكر حقيقة الميلاد، وحقيقة الصلب والقيامة”(4)
وبذلك يتضح أن الذين يطالبون بإلغاء العهد القديم هم في الحقيقة يعترفون ضمنيًا بإلهين، إله العهد القديم الذي يرفضونه ويرفضون كتابه، وإله العهد الجديد الذي يقبلونه ويقبلون إنجيله، فالدعوة لإلغاء العهد القديم بدعة وهرطقة ضد وحدانية الله، فهل يدرك الذين ينادون بإلغاء العهد القديم هذه الحقيقية؟!!
لقد نظرت الفلسفة الغنوسية لإله العهد القديم على إنه المقاوم والضد للإله الحقيقي، ورأى الغنوسيون أن تصرفات آدم وحواء بالأكل من الشجرة، وقتل قايين لهابيل، وفساد سدوم وعمورة صور إيجابية لأنها موجهة ضد إله العهد القديم.
ويعلق الخوري بولس الفغالي على الفكر الغنوسي، فيقول عن الغنوسيين ” طبقوا هذه الازدواجية على الكتاب المقدس، وجعلوا عالم الشر في العهد القديم، وقالوا إن الذي خلق الكون المادي ونظمه هو إله الشر الذي أعطانا أيضًا الشريعة اليهودية، فجاءت على شكله شريرة. أما العهد الجديد فهو عالم الخير وفيه يأتي المسيح الذي ينجينا من الشريعة القديمة ومن إله اليهودية الشرير. في هذا الخط الغنوسي..
شدَد مركيون على التعارض بين أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد، وجعل الإنجيل منفصلًا انفصالًا تامًا عن أسفار التوراة.
إن الشريعة القديمة تلفت انتباهنا إلى العدالة والقساوة والعنف، والشريعة الجديد إلى الحب والرحمة والحرية. فهل يُعقل أن تأتي الشريعتان من إله واحد، كلاَّ! فالشريعة الجديدة مصدرها إله المحبة الذي ظهر لنا في يسوع المسيح. لقد كانت المعارضة واضحة بين يسوع والعالم اليهودي، وهذا دليل على المعارضة بين نظامين وعهدين وشريعتين وإلهين. ولقد جاء يسوع يحرّر الناس من النظام الأول والعهد الأول والشريعة الأولى”(5).
إن إنكار قدسية العهد القديم هو طعن في الوحي الإلهي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ويقول الخوري بولس الفغالي ” فمنذ القرن الأول يؤكد أكليمنضس أسقف رومة أن الكتب المقدَّسة حق وصدق. ويعلن يوسينوس أن الأنبياء تكلموا بواسطة الروح القدس فلم يقولوا إلاَّ ما سمعوه ورأوه بعد أن ملأهم الروح القدس بأنواره. وعالج ثيوفيلس الأنطاكي (في نهاية القرن الثاني) قضية الوحي في الكتاب المقدَّس، وقابل الإنجيل بأسفار موسى والأنبياء، فقال إن ما تكلمت به كتب الشريعة عن البر يتوافق مع ما قاله الأنبياء وذكره الإنجيليون، فلكل هؤلاء مُنح الروح القدس وهم لم يتكلموا إلاَّ بفعل الروح الواحد.
وعندما يرد أكليمنضس على الغنوسيين يقول إن الله هو علة كل الأمور، علة مباشرة للعهد القديم وللعهد الجديد.. إن التوراة والإنجيل هما عمل الرب الواحد، لأن الأنبياء عندما تكلموا إنما فعلوا ذلك بتأثير الله ووحيه، وهكذا فالكتاب المقدَّس هو كلام الله، ويقول أوريجانوس (185-255 م.) الذي حارب هو أيضًا بدعة الغنوسيين. إن الروح عينه أوحى بأسفار العهد القديم والعهد الجديد، والكنيسة تُعلّم أن الروح أرسل وحيه إلى كل من الآباء والقديسين والأنبياء والرسل، فلم يكن روح للذين كتبوا في القديم وروح آخر للذين أُوحي إليهم فكتبوا ما كتبوه بعد المسيح.
وفي الكنيسة الغربية قال إيريناؤس: إن أسفار العهد القديم والجديد قد أوحي بها للرسول. فأسفار العهد القديم والجديد تنبع من الروح الواحد. وأعلن ترتليان الطابع الإلهي في الكتب المقدَّسة وذكر مكانتها في الكنيسة الأولى ثم قال: نحن نجتمع لقراءة الكتب المقدَّسة. فبكلماتها نغذي إيماننا ونثبّت رجاءنا ونقوي ثقتنا ونُدخل في ذواتنا وصايا الله”(6).
لقد وُلِدت التوراة كشمعة تضئ وتلمع في سماء هذا العالم الملبدَّة بغيوم وغياهب الوثنية، والذبائح البشرية، والعبادات الشيطانية، بالإضافة إلى السحر والشعوذة والعرافة.. إلخ وإلى التوراة يرجع الفضل الأول في الكشف عن وحدانية الله، فجاءت الوصية الأولى من الوصايا العشر ” أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي” (خر 20: 2، 3).. ” اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك” (تث 6: 4، 5) وجاءت الوصية الثانية لتحذر من صنع التماثيل وعبادتها ” لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهنَّ” (خر 20: 4، 5) وقال الله لشعبه ” أنتم رأيتم إنني من السماء تكلمت معكم لا تصنعوا معي آلهة فضة ولا تصنعوا لكم آلهة ذهب” (خر20: 22، 23).. ” لا تصنعوا لكم أوثانًا ولا تقيموا لكم تمثالًا منحوتًا أو نصبًا ولا تجعلوا في أرضكم حجرًا مُصوَّرا لتسجدوا له. لأني أنا الرب إلهكم” (لا 26: 1) وفي البركة واللعنة على جبلي جرزيم وعيبال ” فيصرخ اللاويون ويقولون لجميع قوم إسرائيل بصوت عالٍ. ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالًا منحوتًا أو مسبوكًا رجسًا لدى الرب عمل يديّ نحات ويضعه في الخفاء. ويجيب جميع الشعب ويقولون آمين” (تث 27: 14، 15) وحذر الله شعبه من عبادة أي شيء آخر في العالم سواه فقال ” فاحتفظوا جدًا لأنفسكم. فإنكم لم تروا صورة ما يوم كلمكم الرب في حوريب من وسط النار. لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالًا منحوتًا صورة مثالٍ ما شبه ذكر أو أنثى شِبه بهيمة ما ممَّا على الأرض شبه طير ما ذي جناح مما يطير في السماء. شِبه دبيب ما على الأرض شِبه سمك ما ممَّا في الماء من تحت الأرض. ولئلا ترفع عينيك إلى السماء وتنظر الشمس والقمر والنجوم كل جند السماء التي قسَمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء فتغتَّر وتسجد لها وتعبدها” (تث 4: 15 – 19).. ضع هذه الصورة أمام صورة العالم الغارق في العبادات المزيفة، وكم من أشكال للآلهة صنعوها وعبدوها!!!
_____
(1) كتاب بونيفاس ص 99 – 102 الطبعة الفرنسية.
(2) راجع القس حنا جرجس الخضري – تاريخ الفكر المسيحي جـ1 ص 484.
(3) القمص تادرس يعقوب – تفسير سفر إشعياء ص 413، 414.
(4) الكتاب المقدَّس – أسلوب تفسيره السليم وفقًا لرأي الآباء القويم ص 61، 62.
(5) المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 التوراة وعالم الشرق القديم ص 15، 16.
(6) المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 التوراة وعالم الشرق القديم ص 26، 27.