هل أخطاء الأنبياء جعلت بعض كتاباتهم بعيدة عن الوحي والعصمة، كما تساءل “ريماروس”: كيف يعمل الوحي الإلهي في رجل قاتل مثل موسى، أو رجل زاني مثل داود، أو رجل مضطهد الكنيسة بإفراط مثل بولس الرسول؟
90- هل أخطاء الأنبياء جعلت بعض كتاباتهم بعيدة عن الوحي والعصمة، كما تساءل “ريماروس”: كيف يعمل الوحي الإلهي في رجل قاتل مثل موسى، أو رجل زاني مثل داود، أو رجل مضطهد الكنيسة بإفراط مثل بولس الرسول؟
ج: 1- جميع الرجال الذين كتبوا الأسفار المقدسة هم بالحقيقة قديسون، ليس بمعنى أنهم لم يخطئوا قط، ولكن بمعنى أنهم أحبوا الله من كل قلوبهم، وقد قدموا توبة قوية عن خطاياهم.. عجبًا لإنسانٍ يركز على خطية داود النبي ويتغافل توبته، ولا يتلامس مع مشاعر التوبة التي قدمها والتي تفيض بالندم وروح الرجاء ” تعبت في تنهدي. أعوَّم في كل ليلة سريري بدموعي أذوّب فراشي” (مز 6: 6).. ” لأني عارف بمعاصي وخطيتي أمامي دائمًا. إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك صنعت.. اغسلني فأبيض أكثر من الثلج.. قلبًا نقيًّا أخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدد في داخلي. لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني” (مز 51: 3 – 11).
2- مما يجدر الإشارة إليه أن الله لم يتساهل مع أنبيائه ولم يتغافل عن خطاياهم، ولم يعفهم من العقوبة، إنما نال كل من أخطأ عقاب خطيته الأرضي تمامًا، فموسى كليم الله ورئيس الأنبياء لم يدخل أرض الميعاد لأنه لم يمجّد اسم الله أمام الجماعة وضرب الصخرة عوضًا عن أن يكلمها، وداود الذي أحبه الله وقال إن قلبه بحسب قلب الله لم يفارق الزنا والسيف بيته، بسبب خطيته، وهلم جرا.. أما العقاب الأبدي للخطية فلا يقدر أحد أن يتحمله إلاَّ الله الفادي وحده.
3- نحن لا نعترف بعصمة الأنبياء إلاَّ في حالة واحدة فقط، وهي عندما يدونون الأسفار المقدَّسة. أما في حياتهم الشخصية فهم عرضة للخطأ، لأنهم من نفس عجينة البشرية. ويقول د. إدوار ج. يونج ” فإنه من الحماقة أن يتصوَّر ريماروس أن بعض الكتَّاب كان لا يجوز أن يكونوا من حملة الوحي نسبة إلى الخطايا التي ارتكبوها في حياتهم. إذ أن الله لم يعطِ كتابه للبشر عن طريق رجال معصومين من الخطية (في جميع جوانب حياتهم).. كانت حياة داود ملطخة بالخطية، ومع ذلك كتب (بعد توبته) أروع المزامير التي أعطاه الله إياها، كان موسى قاتلًا.. وكان بولس مضطهد الكنيسة، ولكن الله اختارهم وغيرهم كتَّابًا للوحي، ولكن ليس معنى ذلك إن الله كان لا يبالي أو يقلل من خطاياهم، بل بالعكس كان ذنبهم أمامه قاسيًا.. كانوا فقط معصومين عندما حملهم الروح ليكتبوا الكتاب المقدَّس!!..
ويمكن أن نقول آخر الأمر بكل يقين، أن كتَّاب الكتاب المقدَّس كانوا يتلقون الوحي فقط وهم يكتبون أسفاره الإلهيَّة المقدَّسة، أما فيما عدا ذلك، فقد كانوا أبناء عصورهم يخطئون فيما يخطئ فيه غيرهم من الناس.. ولم يحفظهم الوحي من أن يكونوا طينة أخرى غير طينة البشرية. أجل وهذه العقيدة عن الوحي رائعة جدًا، وهي من أروع ما يُعلّمه الكتاب عن نفسه.. ويمكن إجمالها في القول أن الكتاب المقدَّس كلمة الله وفي الوقت نفسه هو عمل الناس.. وعندما كُتب لم يكن يكتبه الكتَّاب بقوتهم الخاصة أو تحت إملاء الظروف العادية التي أحاطت بهم.. بل لقد أولاهم الله ذلك الشرف الذي ارتفعوا إليه بما يكتبون، كما إنه رقى بهم فوق المستوى العادي للاختيار البشري في اللحظات التي كانوا فيها يكتبون، وضبطهم وصانهم من المذلة والخطأ فيما يكتبون، وكانوا بالحقيقة تحت سلطان الروح، على نحو عظيم ونادر لم يعرفه في الجنس البشري سوى تلك الكلمة المتميّزة من بني الإنسان والتي يُطلق عليها ” كتَّاب الكتاب المقدَّس”..!!(1)
وإن قال أحدهم أن بولس الرسول قد أوضح أربعة منافع للكتاب المقدَّس عندما قال ” كل الكتاب هو مُوحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر. لكي يكون إنسان الله كاملًا متأهّبًا لكل عملٍ صالح” (2تي 3: 16، 17) فما المنفعة من ذكر خطايا الأنبياء القبيحة في هذا الكتاب؟
نقول له: بالحقيقة إن في ذكر خطايا الأنبياء نجد المنافع الأربعة، فهي ذُكرت للتعليم، ليعلم الجميع أنه ليس مولود امرأة بلا خطية، ولا يوجد إنسان معصوم من الخطية قط، وما هو مستور عن أعين البشر واضح وعريان أمام الله.. وهي ذُكرت للتوبيخ.. لتوبيخ هؤلاء الذين سقطوا في هذه الخطايا فعاشوا في عمق الاتضاع، ولتوبيخ كل من يسلك في ذات الدرب لكيما يتوب عن خطاياه. فلم يحدث قط إن الكتاب ذكر هذه الخطايا ليشجعنا في السقوط فيها إنما ذكرها ليحذرنا من مغبة السلوك فيها.. وهي ذُكرت للتقويم، فالذين أخطأوا نالوا جزاءهم وعانوا من نتائج خطاياهم، هم ومن حولهم، وهذا الأمر يعتبر تقويم للذين يسلكون في الخطأ.. وهناك التأديب الذي في البر، فالجميع أخطأوا وفسدت طبيعتهم.
ويقول لويس. س. شيفر ” يتعامل الكتاب المقدَّس بكل صراحة ووضوح مع أخطاء الشخصيات الواردة به، حتى لو كانت هذه الأخطاء تنعكس سلبًا على رجال الله المختارين الذين بينهم القادة وكتَّاب الوحي الإلهي أنفسهم.. ويركز الكتاب المقدَّس على الحقيقة وليس الوهم والخيال، فهو يقدم الصالح والطالح، الصواب والخطأ، الأفضل والأسوأ، الأمل واليأس، البهجة والألم في الحياة. ومن الطبيعي أن يكون الكتاب المقدَّس هكذا لأنه في نهاية الأمر وحي من الله ولأنه ليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا (عب 4: 13)”(2).
4- لأن الأسفار القانونية صادقة ومعصومة من الخطأ لذلك دُعيت بالكتب المقدَّسة كقول الوحي الإلهي بلسان بولس الرسول عن كتب العهد القديم ” الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدَّسة” (رو 1: 2) وقال لتلميذه تيموثاوس عن كتب العهد القديم أيضًا ” وإنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدَّسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع” (2تي 3: 15) وقال أيضًا بولس الرسول عن هذه الكتب أنها ” أقوال الله” (رو 3: 2) ولأن هذه الأقوال هي أقوال الله لذلك من يحرّفها يُعرّض نفسه للهلاك والضياع الأبدي ” كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضًا بحسب الحكمة المعطاة له كما في الرسائل كلها أيضًا متكلمًا فيها عن هذه الأمور التي فيها أشياء عسرة الفهم يُحرّفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضًا لهلاك أنفسهم” (2بط 3: 15، 16).
_____
(1) أصالة الكتاب المقدَّس – ترجمة القس الياس مقار ص 94 – 96.
(2) برهان يتطلب قرارًا – طبعة 2004م ص 59، 60.