ما هو دور الجانب البشري في تسجيل كلمة الله؟
87- ما دام الكتاب المقدَّس هو كلمات الله، فما هو دور الجانب البشري في تسجيل كلمة الله؟
ج: يمثل الكاتب ” العَرَبة “ التي تحمل لنا فكر الله، أو يمثل ” البوق “ الذي يبوق به الله ليُسمعنا صوته. وعندما قال الوحي الإلهي على فم بطرس الرسول ” بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2 بط 1: 21) أظهر بهذا الجانب البشري والجانب الإلهي في تسجيل كلمة الله، فعبارة ” أناس الله القديسون ” تؤكد على الجانب البشري، ويقول د. جراهام سكروجي ” مرَّت هذه الكتب من خلال أذهان البشر، وكُتبت بلغة البشر وبأقلامهم، كما أنها تحمل صفات تتميز بأنها من أسلوب البشر”(1) وعبارة ” مسوقين من الروح القدس ” تؤكد على الجانب الإلهي، فيقول هنري نيس ” يجب أن نعترف بالطبيعة المزدوجة للأسفار، فهي من جهةٍ كتاب موحى به من الله، ومن الجهة الأخرى لا تلغي شخصية الإنسان، فقد أستخدمها الله عند تسجيل إعلانه”(2).
ويقول د. أميل ماهر إسحق أن ” الوحي هو العمل الفائق الطبيعة الذي يقوم به الروح القدس، فيؤثر في أذهان كتبة الأسفار المقدَّسة، بحيث تكون الأسفار المقدَّسة ليست هي مجرد كتاباتهم الشخصية، وإنما هي كلمة الله.
فالكتاب المقدَّس ليس مجرد كتاب يحتوي على كلمة الله، ولكنه كلمة الله. فالكلمة المكتوبة كاملة إلهيًا، وهي في نفس الوقت كاملة إنسانيًا. لها سلطان معصوم لأنها كلمة الله، وهي مفهومة لأنها بلغة البشر.
وحيث أننا نتسلم الأسفار المقدَّسة من الكنيسة، فلابد أن نصغي جيدًا إلى ما تقوله الكنيسة.. {الله هو مؤلف الأسفار المقدَّسة}.. {الكتبة الملهمون هم قيثارة الروح القدس}.. {الأسفار المقدَّسة هي كلمة الله}..”(3) كما يقول أيضًا ” الكتاب المقدَّس هو في نفس الوقت كامل إلهيًا وكامل إنسانيًا، لأن الله استخدم أناسًا، لا أدوات مائدة. فهو لا ينحي الشخصية الإنسانية جانبًا، ولا يجرد الكتبة من مميزاتهم الضرورية في الأسلوب”(4).
فرجال الله القديسون كتبوا تحت تأثير وهيمنة روح الله وسلطانه، وهم يدركون تمامًا ما يكتبونه، ورجال الله القديسون لم يكونوا آلات تسجيلية صماء، ولم يكونوا مغيبين عن وعيهم أثناء الكتابة، فنحن نرفض هذه النظرية الميكانيكية في مفهوم الوحي التي ترتبط بنظرية الانخطاف الروحي ecstasy أي الاستيلاء التام على الكاتب Passession، والتي أقترحها في البداية أفلاطون (Timaeus. 71) واستعارها منه الفيلسوف اليهودي الإسكندري فيلو(5) ويوسيفوس المؤرخ اليهودي (الآثار 4: 4: 5).. أما القديس أكليمنضس الإسكندري فقد أعتبر (المنوعات 1: 17) أن حالة الانخطاف هذه هي سيطرة الروح الشرير على النبي الكاذب(6).
كما إننا نرفض نظرية الوحي الطبيعي الذي يشبه إلهام الشاعر، ولا نستطيع أن نوافق الخوري بولس الفغالي في قوله عن الوحي في العالم اليهودي أنه “انتقل قسم كبير منه إلى الديانة الإسلامية والديانة المسيحية. بل استوحاه الشعراء والفنانون المسيحيون على مر التاريخ”(7)
ويقول الخوري بولس الفغالي أن ” الروح القدس الذي يدفع النبي ويقوده ويحمله كما يحمل الهواء السفينة ويجرها، بسلطانه المطلق. إن هذه الكلمات هي من وحي الروح، والوحي هو صوت الله، وشفاه الأنبياء هي أداة يلجأ إليها الله ليُسمِع صوته. ولهذا فالكلمات التي يتلفظ بها البشر هي بالحقيقة كلام الله (1تس 2: 13) وتتمتع بسلطان مطلق على العقول والقلوب، وتحتوي على ينابيع النور والحياة (2تي 3: 14 – 17) وهكذا يأتي الوحي إلينا عبر حروف وكلمات وجُمل وفصول تكون الكتاب المقدَّس. هذا الكتاب، الله هو كاتبه، ومسئوليته في وضعه مباشرة. وإن لجأ الله إلى إنسان.. فيصبح الإنسان أداة بين يديه وقيثارة تصل إلينا عبرها معرفة الأمور الإلهيَّة.
غير أن النظرة المسيحية (هذه) تختلف في هذا المجال عن النظرة اليهودية والإسلامية. فالإسلام لا يميّز بين الوحي والإلهام، كما إنه يعتبر أن النص المُلهَم هو الوحي لأنه أملي إملاءً. فالقرآن (في نظرهم) هو كتاب الله الأزلي واللامخلوق، وكلمة الله القائمة فيه أُنزلت على الإنسان. أما اليهود ففي تقليدهم أن “التوراة” هي كائن فائق الطبيعة، بل هي إلهية، أزلية ولا متغيرة. ولهذا لن يأتي موسى آخر أو توراة أخرى. فكل الكتب تزول، أما كتاب موسى فلا يزول.
أما العقيدة المسيحية، وهي مؤسسة لا على كتاب بل على شخص يسوع المسيح، فهي تميز بين الوحي والإلهام، وتشدد على دور الإنسان في تدوين الوحي الذي وصل إلينا بعبارات بشرية وكلمات الناس اليومية. قلنا إن الله هو واضع الكتاب المقدَّس. ونقول أيضًا أن الإنسان هو واضع الكتاب المقدَّس. لاشك في أن مبادرة الوحي ترجع إلى الله، ولكن الإنسان هو الذي يكتب فنكتشف شخصيته وطباعه من خلال ما يكتب. إن الله يؤثر في الكاتب المُلهَم، يؤثر في إرادته فيدفعه إلى الكتابة، ويؤثر في عقله فيعطيه فهم الأمور الإلهيَّة والقدرة على إيصالها إلى البشر بطريقة تساعدهم على فهمها بقدر ما يستطيع الإنسان أن يفهم أمور السماء. غير أن الكاتب هو الذي يكتب، ويتخذ الأسلوب الأدبي والكلمات والتعابير التي يراها مناسبة لعصره وزمانه.. إن الإنسان عندما يكتب، لا يعود حرًّا في أن يقول ما يشاء، فهو يحمل كلام الله، والله يسهر على كلمته (أر 1: 11، 12) فلا يسمح بأن يضيع منها حرف (1صم 13: 19). إن الله أوصل وحيه كله إلى الناس، ولكن هذا الوحي جاء معصومًا من أي خطأ أو ضلال”(8).
وأيضًا يلقي الخوري بولس الفغالي الضوء على الإلهام والوحي قائلًا ” وأما الإلهام فيدل على حركات وأعمال وأفكار مرجعها نفخ إلهي يشبه النفخ الذي يُدخل الهواء إلى الصدر، فيعمل المُلهم كنسمة الهواء في النفس والروح. وهكذا عبر الوحي تصل إلى الناس حقيقة الله، وعبر الإلهام يعمل الله في الكاتب المكرَّم فيدفعه إلى أن يكتب ما أوحي به إليه”(9)
ورجال الله القديسون كان لهم الملكات الخاصة التي حباهم بها الروح القدس لكتابة الأسفار المقدَّسة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فروح الله القدوس قد أعدَّ هؤلاء الكتاب القديسين لهذه الرسالة العظيمة، وخير مثال على ذلك إعداد الله لموسى النبي وبولس الرسول، فقد تربى موسى في قصر فرعون، وتعلَّم حكمة قدماء المصريين، وعاين معاناة شعبه، وعاش في الصحراء أربعين عامًا، فكانت المحصلة عقل عظيم وفكر مرتَّب استخدمه الله لكتابة الأسفار الخمسة الأولى، وكان بولس الرسول رجلًا فريسيًّا مدقّقًا، تعلَّم عند رجلي غمالائيل معلم الناموس، وأجاد بولس الرسول اللغات الأرامية واليونانية، وتمتع بالجنسية الرومانية، وأمضى ثلاث سنوات في العربية يدرس ويتأمل ويتتلمذ على روح الله، وكانت المحصلة بولس الرسول الذي سجل لنا أربعة عشر رسالة دُوّنت في الكتاب المقدَّس.
وعندما نتحدث عن الجانب البشري في تسجيل كلمة الله، فإننا لا نعني إطلاقًا أن الإنسان كتب أجزاءًا ثم أضاف الله إليها أجزاءًا أخرى، أو العكس أن الله أملئ أجزاءًا وأضاف إليها الإنسان أجزاءًا أخرى، أي لا يمكن تقسيم الكتاب المقدَّس إلى قسمين أحدهما سجله الإنسان، وهذا يحتمل الصح والخطأ، والثاني سجله الله وهذا صحيح تمامًا.. ليس مفهومنا عن الكتاب هكذا يا أحبائي. إنما المفهوم الصحيح أن كل كلمة سُجلت في الكتاب هي كلمة الله التي وصلت إلينا من خلال الكاتب، الذي كان خاضعًا لسيطرة وهيمنة الروح القدس، وقد سجل بعض الكتَّاب أمورًا تفوق العقل البشري حينذاك، فمثلًا عندما سجل إشعياء النبي أن العذراء ستحبل وتلد ابنًا.. من كان يصدق هذا؟! ولكن الله قال فكان، وولدت العذراء ابنًا، ودُعي اسمه عمانوئيل الله معنا، ومثال آخر هو ما سجله موسى النبي عن خلقة الكون، فيقول د. إدوار. ج. يونج ” موسى كان من الممكن أن يعطي تصويرًا أخرق عن الخليقة لو أنه أخذ منبعه من الحكمة المصرية، كما كان من الممكن أن يكون الإصحاح الأول من سفر التكوين أدنى إلى الخيال البابلي الأحمق في الخرافة والتشويه، لو إنه استقى وصية من صميم ذاته أو أفكاره الخاصة، لكن موسى وهو يكتب هذا الإصحاح، لم يكن يستلهم فكره أو مشاعره، بل كان يتلقى إعلان الله فيه، كان حامل التعليم الموحى إليه من الله.. ومع إننا لا نعلم ماذا كان يجول في أفكاره عندما كتب لكنه كان يكتب ولا شك تحت إحساس الإنسان المسئول، وكان يعلم أن هناك أمورًا بعيدة يسطرها دون أن يصل إلى قرارها وعمقها..!!
ومع إننا لا نعلم كيف جلس ليكتب، أو كيف كان يجمع مواد الكتابة، أو هل كان يكتب، ويمحو، ويهذب أو ما إلى ذلك. إلاَّ أننا نعلم شيئًا واحدًا إن ما انتهى إليه في الكتابة، كان هو الحاصل النهائي الكامل من الحق الذي أراده الله أن يُعلَن، كان كلمة الله!!”(10).
وما تكلَّم به الأنبياء هو هو ما أراد الله أن يعلنه لنا، فالكتَّاب لم يكتبوا من عندياتهم. بل كتبوا ما يريده الروح القدس، وقد أعلن مجمع المعلمين اليهودي ” إن قال أحد أن التوراة (أي كتب موسى الخمسة) هي من الله، ما خلا أية واحدة ليست من الله بل من موسى.. فقد احتقر كلام الله”(11) ويقول جوش مكدويل ” إن الكتاب هو أنفاس الله، لقد استخدم هو رجالًا ليكتبوا بالضبط ما أراد لهم أن يكتبوه وجنَّبهم الأخطاء، لكن في نفس الوقت استخدم شخصياتهم المنفردة وأساليبهم المتميزة لينقل لنا ما أراده بالضبط”(12).
وتحقَّق في الكتَّاب قول مخلصنا الصالح ” فهو يعلمكم كل شيء. ويذكَركم بكل ما قلته لكم” (يو 14: 26) وقد أكد بولس الرسول لأهل تسالونيكي أن ما كتبه لهم ليس هو كلام الناس بل هو بالحقيقة كلام الله ” من أجل ذلك نحن أيضًا نشكر الله بلا انقطاع لأنكم إذ تسلَّمتم منا كلمة خبر من الله قبلتموها لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله التي تعمل أيضًا فيكم أنتم المؤمنين” (1 تس 2: 13) وعندما نصلي في قانون الإيمان ” نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيي.. الناطق في الأنبياء” فنحن نقصد أن الروح القدس هو الذي تكلم بواسطة الأنبياء عبر الأسفار المقدَّسة.
فالكتَّاب هم أداة الوحي، يسجلون ما يعلنه الوحي لهم، ولذلك كثيرًا ما كان الأنبياء يقولون ” هكذا قال الرب ” وقد كشفت لنا حفريات الشرق الأدنى عن خطابات تحمل العبارة السابقة ” هكذا قال فلان ” وهي تعني أنها منسوبة مباشرة إلى فلان المشار إليه(13).
وهذا يفسر لنا انتقال الكاتب أحيانًا من أسلوب الغائب إلى أسلوب المتكلم، لأن الكلام الذي كُتب سواء كُتب بصيغة الغائب أو كُتب بصيغة المتكلم، فهو كلام الله، ويقول د. إدوار ج. يونج ” ومن الغريب أن نرى الأنبياء في العهد القديم يتحولون في أكثر من حالة إلى لغة المتكلم فجأة، كأنما الله هو المتكلم بنفسه، فإشعياء مثلًا في ذلك المثل الرائع عن الكرمة، وهو يتحدث عن حبيبه المفجوع في كرمه الذي أعدَّه وبذل جهده فيه، ولكنه أُصيب بخيبة أمل عندما أثمر الكرم، وصنع عنبًا رديئًا، وهنا يتحول إشعياء فجأة من أسلوب الغائب إلى المتكلم فيقول ” والآن يا سكان أورشليم أحكموا بيني وبين كرمي” (أش 5: 3) فإذًا المتكلم هو الرب نفسه الذي يعلن حكمه لرجال يهوذا عندما يدمر هذا الكرم تدميرًا..!! كيف يجسر إشعياء على الكلام بهذا الأسلوب؟! ومن أعطاه هذا الامتياز الذي ينفرد به الله وحده؟! فيتكلم كأنما لو أنه شخص الله ذاته.. بالحقيقة إنه لم يأخذ امتيازًا، بل كان يورد نفس الكلمات التي وضعها الله في فمه، ولا يقف إشعياء فريدًا بين الأنبياء من هذا القبيل، فما أكثر ما فعل غيره الشيء نفسه، إذ سيطرت الكلمة عليهم، فتكلموا بلغة المتكلم، دون أدنى خداع ولم يدعوا أن الكلام كلامهم، كما إن السامعين لم يُخدعوا في فهم الحقيقة نفسها!!”(14).
_____
(1) أورده أنور يسى منصور في كتابه المتهم المعصوم ص 26.
(2) المرجع السابق ص 26.
(3) الكتاب المقدَّس – أسلوب تفسيره السليم وفقًا لفكر الآباء القويم ص 40.
(4) المرجع السابق ص 48.
(5) de Spec. Ley. 1V: 18.
(6) راجع د. أميل ماهر – الكتاب المقدَّس – أسلوب تفسيره السليم وفقًا لفكر الآباء القويم ص 47، 48.
(7) في رحاب الكتاب 1- العهد الأول ص 54.
(8) المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 التوراة وعالم الشرق القديم ص 37، 38.
(9) المرجع السابق ص 29.
(10) أصالة الكتاب المقدَّس – ترجمة القس إلياس مقار ص 93، 95.
(11) أورده بولس الفغالي في كتابه المدخل إلى العهد القديم جـ 1 التوراة وعالم الشرق القديم ص 37.
(12) برهان يتطلب قرارًا – طبعة 2004م ص 313.
(13) راجع أصالة الكتاب المقدَّس ص 53، 54.
(14) أصالة الكتاب المقدَّس – ترجمة القس إلياس مقار ص 54.