ما هو مفهوم كل الكتاب هو موحى به من الله؟ (2 تي 3: 16)
86- ما هو مفهوم “كل الكتاب هو موحى به من الله” (2 تي 3: 16)؟
ج: “موحى به من الله ” في أصل اللغة اليونانية التي دُوّن بها العهد الجديد ” ثيؤبينوستوس ” Theopneustas و” ثيؤ ” Theo أي الله، و” بينوستوس ” Pneustas أي نُفخ، ونلاحظ أن العبارة جاءت في صيغة المبني للمجهول ” نُفخت من الله “ أي صيغت بروح الله، وخرجت من فم الله.
الأسفار المقدسة ” نُفخت من الله”.. أي مصدرها الله وليس الإنسان، فالكتاب المقدَّس كله هو نفخة الروح القدس، هو نتاج نسمة الله، وهذا المعنى ينسجم تمامًا مع قول السيد المسيح ” ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت 4: 4) فتعبير ” تخرج من فم الله “ أي نُفخت من الله، فالكتاب المقدَّس هو نتاج النفخة الإلهيَّة.
كما تترجم ” ثيؤبينوستوس ” أيضًاَ إلى كلمة ” وحي ” وتعني ” تنفس الله ” ولذلك نستطيع أن نقول أن الكتاب المقدَّس هو أنفاس الله. و” يمكن تعريف الوحي بأنه تلك العملية الغامضة التي يتدخل بها الله عند الكُتَّاب وهم يكتبون، مستخدمًا شخصياتهم وأساليبهم التي تميز كل واحد منهم، لإظهار الأوامر الإلهيَّة والكتابات المعصومة من الخطأ”(1)(2).
و ” نُفخت من الله”.. تنسجم تمامًا مع تعبير الوحي الإلهي على لسان معلمنا بطرس الرسول ” لأنه لم تأتِ نبوءة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بط 1: 21) وتعبير ” مسوقين “ أي محمولين بالروح القدس، فمعلمنا بطرس الرسول يؤكد أن مصدر الأسفار المقدَّسة هو الله، وتكلم بها إناس الله وهم محمولون بالروح القدس، فهي معطاة لنا من الله من خلال أناس الله القديسين، الذين لم يتكلموا قط من عندياتهم، بل من عند الله وهم محمولين بروحه القدوس الذي هيمن عليهم وحفظهم وعصمهم أثناء الكتابة.
” نُفخت من الله”.. لذلك فهي ثابتة لا تتغير، وتنسجم تمامًا مع قول السيد المسيح ” أليس مكتوبًا في ناموسكم أنا قلت أنكم آلهة.. ولا يمكن أن يُنقض المكتوب” (يو 10: 34، 35) مشيرًا بهذا إلى قول المزمور ” أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم” (مز 82: 6) فالأسفار المقدسة لها سلطان عظيم إلى الدرجة التي لا يمكن معها أن تُنقض، ولذلك قال رب المجد يسوع أن السماء والأرض تزولان ولكن حرف واحد أو نقطة واحدة من الكتاب لن تزول ” فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (مت 5: 18) وقال الوحي الإلهي في القديم ” وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد” (أش 40: 8).
” نُفخت من الله”.. توضح هيمنة روح الله على الكاتب، وبالتالي فإن جميع ما كتبه هو صحيح تمامًا معصوم من الخطأ. بل هو بعيد تمامًا عن أي خطأ يتصوره الإنسان حتى لو كان هذا الخطأ بسيط جدًا، فالكتاب المقدَّس منزَّه كلية عن الخطأ، وكلمة الله نقية وصادقة تمامًا تمامًا ” كلام الرب كلام نقي كفضة مصفَّاة في بوطة في الأرض ممحوصة سبع مرَّات” (مز 12: 6).
وفي اللغة الإنجليزية جاءت عبارة ” كل الكتاب ” في ترجمة الملك جيمس ” All scripture ” بمعنى عصمة الكتاب بالمفهوم الكلي الإجمالي، وفي الترجمة المنقحة ” Every scripture ” بمعنى عصمة الكتاب بالمفهوم الجزئي، فكل جزء من الكتاب المقدَّس هو معصوم من الخطأ، وهكذا كل آية وكل كلمة وكل حرف.
وقد ارتبطت كلمتي ” مُوحى” و”معصوم ” معًا، لأنهما يؤديان نفس المعنى، فكل ما هو مُوحى به هو معصوم، ولا يوجد أمر معصوم إلاَّ الموحى به فقط. وقد يحتج البعض أن الكتاب المقدَّس لم يقل عن نفسه أنه معصوم من الخطأ، بل ذكر فقط أنه مُوحى به من الله..
فيرد على هذا الإدعاء جوش مكدويل قائلًا “هذا الإدعاء خاطئ، كأنك تقول مثلًا أن الكتاب المقدَّس لم يُعلّم موضوع الثالوث القدوس، في الحقيقة لا يوجد في الكتاب المقدَّس من يقول هذه الكلمات {هناك ثلاثة أقانيم في واحد..} لكن بالرغم من هذه الحقيقة، فإن عقيدة الثالوث واضحة تمامًا في الكتب المقدَّسة، لكن كيف توصلنا لذلك؟ بالطرح المنطقي لمبدأين نجدهما واضحين في الكتاب:
(1) هناك ثلاثة أقانيم تقول أنها الله، وهم الله: الآب والابن والروح القدس.
و(2) هناك إله واحد. بالمنطق البسيط يدعونا باستعراض هاتين الحقيقتين أن نتوصل إلى نتيجة وحيدة، هي أنه لا يوجد مسيحي حقيقي يصعب عليه أن يكتشف: هناك ثلاثة أقانيم في إله واحد.
والآن وبنفس المنطق، يُعلّم الكتاب المقدَّس موضوع عصمته. لم يُذكر في الكتاب المقدَّس مثلًا أن {الكتاب المقدَّس معصوم في كل ما ذُكر به..} ومع ذلك فإن الكتاب المقدَّس بكل وضوح وبتأكيد تام يعلّمنا حقيقتين، ومنهما نتوصل إلى النتيجة المطلوبة:
أولًا: نفس كلمات الكتاب كلها وحي من الله، وقد كتب بولس الرسول ” كل الكتاب هو مُوحى به من الله” (2تي 3: 16)..
ثانيًا: يعلمنا الكتاب بكل تأكيد أن كل ما يتعلق به الله هو الحق، وبلا أي نوع من الخطأ، قال يسوع مخاطبًا الآب ” كلامك هو حق” (يو 17: 17)..
وبالاختصار، إن صفات الله كصادق يتطلب منا أنه عندما يتكلم فأنه يقول الحق، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وفي نفس الوقت، فإن الأسفار المقدَّسة هي نطق الله، لذا وبناء على هاتين الحقيقتين الصحيحتين نتوصل إلى نتيجة وحيدة منطقية وهي كالآتي: كل ما يعلّمه الكتاب المقدَّس هو الحقيقة التي لا خطأ فيها لأنها من الله.
لذا فإن العصمة تتبع.. للوحي. إذا كان الكتاب المقدَّس هو كلمة الله لذلك هو بلا خطأ، والمسيحيون كثيرًا ما اختصروا معتقد العصمة بالشكل الآتي: {كل ما يقوله الكتاب المقدَّس يقوله الله}”(3)
” نُفخت من الله”.. أي أن الكلمات هي كلمات الله ذاته، وهذا الموضوع واضح وضوح الشمس، وهناك أدلة عديدة توضح أن كلام الكتاب المقدَّس هو كلام الله نذكر القليل منها:
أ – أستخدم كتبة الأسفار المقدَّسة بعض العبارات التي تؤكد أن الكلام الذي ينطقون به هو هو كلام الله، مثل عبارات ” هكذا يقول الرب”..، “قال الرب”..، “كانت كلمة الرب إليَّ.. ” وقد استخدمت مثل هذه المترادفات نحو 3800 مرة، وإن كانت الأسفار التاريخية والشعرية قد خلت من مثل هذه العبارات التي تظهر أن الله هو المتكلم، لكنها تعرض لنا معاملات الله مع شعبه، ولذلك نستطيع أن نقول أن التوراة (الشريعة) والأسفار النبوية تخبرنا بما قاله الرب ” هكذا قال الرب ” بينما تخبرنا الأسفار التاريخية بما فعله الله.
ب – قول الله لموسى ” أكتب هذه الكلمات لأنني بحسب هذه الكلمات قطعت عهدًا معك ومع إسرائيل” (خر 34: 27).. ” أُقيم لهم نبيًّا من وسط أخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيته به” (تث 18: 18) فقوله ” كلامي”، و” بكل ما أوصيته به “ يوضح أن الكلام هو كلام الله ذاته الذي يحمل وصاياه الإلهيَّة.
ج – قال داود النبي ” روح الرب تكلم بي وكلمته على لساني” (2صم 23: 2) فالمتكلم هو الروح القدس من خلال داود النبي، والكلام الذي ينطق به لسان داود في هذا الوقت بالذات هو كلام الروح القدس، وهذا ما شهد به السيد المسيح عندما سأل الفريسيين ” قائلًا ماذا تظنون في المسيح. ابن من هو. قالوا له ابن داود. قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا..” (مت 22: 41 – 45) وعندما صلى الرسل ” قالوا أيها السيد أنت هو الإله الصانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. القائل بفم داود فتاك لماذا ارتجت الأمم وتفكَّر الشعوب بالباطل” (أع 4: 24، 25) فقولهم ” القائل بفم داود ” أي أن الكلام هو كلام الله، وفم داود هو الذي نقل لنا هذا الكلام.
د – قال ميخا بن يمله ” حي هو الرب إن ما يقوله لي الربُّ به أتكلم” (1مل 22: 14) فميخا لن يتكلم من عندياته، بل يتكلم بكلام الله.
هـ- يقول إشعياء النبي ” أسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم..” (أش 1: 2) كما أمر الرب إشعياء قائلًا ” خذ لنفسك لوحًا كبيرًا وأكتب عليه” (أش 8: 1) وأيضًا قال الرب لإشعياء النبي ” تعالَ الآن أكتب هذا عندهم على لوح وأرسمه في سفر ليكون لزمن آتٍ للأبد إلى الدهور” (أش 30: 18).
و – قال الرب لأرميا النبي ” وتتكلم بكل ما أمرك به” (أر 1: 7) وقال أرميا ” ومدَّ الرب يده ولمس فمي وقال الرب لي ها قد جعلت كلامي في فمك” (أر 1: 9).. ” ثم صارت كلمة الرب إليَّ قائلًا..” (أر 1: 11) فالكلام الذي نطق به أرميا في لحظات الوحي هو بالحقيقة كلام الله الذي وضعه في فمه، لذلك قال الله لأرميا ” قم وكلمهم بكل ما آمرك به” (أر 1: 17).. ” عُد فخذ لنفسك درجًا آخر وأكتب فيه كل الكلام الأول الذي كان في الدرج الأول” (أر 36: 28).
ز – قال حزقيال النبي ” صار كلام الرب إلى حزقيال الكاهن أبن بوزي في أرض الكلدانيين عند نهر خابور” (حز 1: 3) وأوصى الرب حزقيال النبي قائلًا ” وتتكلم بكل كلامي” (حز 2: 7).
ح – قال هوشع النبي ” قول الرب الذي صار إلى هوشع.. أول ما كلَّم الرب هوشع” (هو 1: 1، 2).
ط – قال يوئيل النبي ” قول الرب الذي صار إلى يوئيل بن فثوئيل” (يؤ 1: 1).
ى – قال حبقوق النبي ” فأجابني الرب وقال أكتب الرؤيا وأنقشها على الألواح لكي يركض قارئها. لأن الرؤية بعد إلى الميعاد وفي النهاية تتكلم ولا تكذب” (حب 2: 2، 3).
ك – قدم الأنبياء المتأخرون زمنيًا تقديرًا عظيمًا لكلمات الأنبياء الأولين لأنها هي كلمات الله التي حملها هؤلاء الأنبياء، فيقول دانيال النبي ” أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى أرميا النبي لكماله سبعين سنة على خراب أورشليم” (دا 9: 2) وهذه المدة التي أشار إليها أرميا النبي (أر 25: 11، 12) ولنفس كلام أرميا هذا أشار عزرا الكاتب قائلًا ” وفي السنة الأولى لكورش ملك فارس عند تمام كلام الرب بفم أرميا” (عز 1: 1) وزكريا النبي تكلم عن ” الشريعة والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء الأولين” (زك 7: 12).
ل – قال بطرس الرسول ” كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود..” (أع 1: 16).. ” وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه أن يتألم المسيح قد تمَّمه هكذا” (أع 3: 18).
م – قال بولس الرسول ” حسنًا كلم الروح آباءنا بإشعياء النبي..” (أع 28: 25) فالكلام هو كلام الروح القدس الذي نطق به إشعياء، وقال بولس الرسول عن اليهود ” فلأنهم إستؤمنوا على كلام الله” (رو 3: 2) مع إن الذي نطق بهذا الكلام وهذه الأقوال هم الأنبياء القديسون. كما قال لأهل تسالونيكي ” نتكلم بها أيضًا لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس” (1كو 2: 13).. ” إن كان أحد يحسب نفسه نبيًا أو روحيًا فليعلم ما أكتبه إليكم أنه وصايا الرب” (1كو 14: 37). وأيضًا قال لقسوس أفسس ” لأني لم أُوخّر أن أخبركم بكل مشورة الله” (أع 20: 27) كما قال للعبرانيين ” الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء..” (عب 1: 1).
_____
(1) Geisler GIB , 39.
(2) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا طبعة 2004م ص 310.
(3) برهان يتطلب قرارًا طبعة 2004م ص 317، 318.