هل يجب أن ننكر المعجزات لأنها تنتهك القوانين الطبيعية الثابتة التي لا تتغير، ولا بُد للأحداث أن تجري دائمًا بشكل يلاءم الطبيعة؟
81- هل يجب أن ننكر المعجزات لأنها تنتهك القوانين الطبيعية الثابتة التي لا تتغير، ولا بُد للأحداث أن تجري دائمًا بشكل يلاءم الطبيعة؟
س81: هل يجب أن ننكر المعجزات لأنها تنتهك القوانين الطبيعية الثابتة التي لا تتغير، ولا بُد للأحداث أن تجري دائمًا بشكل يلاءم الطبيعة؟ فمثلًا كون الناس يموتون، فهذا أمرًا طبيعيًا يتمشى مع القانون الطبيعي. أما قيامة إنسان من الموت، فهذا أمرًا غير وارد، لأنه ضد القانون الطبيعي للحياة والموت، ولذلك فهو أمر مستحيل. أي أن هؤلاء النقاد ينظرون للمعجزة على أنها تكسر وتنقض وتهدم وتنتهك حرمة القانون الطبيعي، وتتعارض مع كوننا نعيش في نظام طبيعي ثابت، وكل ما يحدث له تفسيره الطبيعي، وكل ظاهرة لها تفسيرها الطبيعي، وبالتالي فلابد أن يكون لما يدعونه بالمعجزة التفسير الطبيعي المقبول، ورفض فكرة التدخل الإلهي.
ومن الذين قالوا بإستحالة المعجزات لأنها تنتهك قوانين الطبيعة الفيلسوف اليهودي الشهير ” سبينوزا” (1632-1677 م.) الذي قال ” أن الطبيعة لا يمكن أن تُنتهَك.. إنها تحافظ على حالة من الثبات وعدم التغير. في الحقيقة إذا أكد أحدهم أن الله يعمل بشكل مخالف لقوانين الطبيعة، فإنه سيضطر إلى التأكيد بأن الله يعمل ضد طبيعته هو، وهذا أمر سخيف ومناف للعقل بشكل واضح”(1)(2).
كما قال ” باروخ سبينوزا ” أيضًا ” لا شيء إذًا يحدث في الطبيعة يتعارض مع نواميسها الكونية، كلا، فكل شيء يتفق معها ويتبعها.. فهي تحفظ ترتيب ثابت وغير متغير “!! وفي الحقيقة ” فالمعجزة التي تتعارض مع الطبيعة أو تكون فوقها هي محض عبس “!! وقال أيضًا ” يجب أن نتأكد بصورة كاملة أن كل حدث مذكور في الكتاب المقدَّس قد حدث بالضرورة مثل أي حدث آخر بحسب نواميس الطبيعة”(3)(4).
كما أكد ” س. ستيفن إيفانز ” على أن المعجزة تكسر قوانين الطبيعة، وبالتالي يجب إنكارها وعدم الاعتراف بها، وكذلك يؤكد ” شوبيرت أوجدن ” أن الطبيعة وحدة قانونية، والمعجزة تكسر من قاعدة هذه الوحدة، ولذلك فهي أمر مرفوض، فيقول ” فكرة حدوث المعجزة أصبحت مستحيلة في أيامنا هذه، لأننا نعلم أن الطبيعة هي عبارة عن وحدة قانونية. لذا علينا أن نفهم المعجزة ونقول أنها تكسر من قاعدة هذه الوحدة أو المتوالية القانونية.. مثل هذه الفكرة ليست مقبولة على الإطلاق”(5)(6).
ويرى ” بولتمان ” من المفروغ منه أن أحداث الكتاب المقدَّس تجري كما هي بدون أي تدخل يفوق الطبيعة، لذلك فهي تخلو تمامًا من عنصر الإعجاز، ويقول ” الإنسان الحديث يتعرف على الأحداث والظواهر التي يتفهمها داخل نطاق النظام المنطقي الذي يتحكم في الكون، وهو لا يتعرف على المعجزات لأنها لا تنسجم مع هذا النظام المحكم”(7)(8).
كما يقول ” بولتمان”.. ” أنه أمر ساذج أن نبحث في استخدام القانون النسبي لتبرير الاعتقاد في المعجزات، كما لو أنه بواسطة هذه النسبية سوف يفتح الباب على مصراعيه لدخول القوى العلوية”(9)(10).
ج: 1- لقد رفض سسبينوزا المعجزات وأعتبرها انتهاك للطبيعة، والتسليم بها يعني أن الله يعمل ضد طبيعته، وسبب ذلك أن سبينوزا آمن بوحدة الوجود، أي أنه لا فرق بين الله والطبيعة، لأن الاثنين شيء واحد، فالله هو الكل، والكل هو الله. ومن هذا المنطلق قال سبينوزا بما أن الله ثابت لذلك لا بُد أن قوانين الطبيعة بالتالي تكون ثابتة، ويمكن تلخيص وجهة نظر سبينوزا في الآتي:
أ – المعجزات تعد انتهاك لقوانين الطبيعة.
ب- قوانين الطبيعة ثابتة.
ج- من المستحيل أن يحدث تعدي على قوانين الطبيعة الثابتة.
د – لذلك فإن المعجزات مستحيلة.
ولهذا يقول ” دافيد هيوم ” عن سبينوزا ” لذا ليس من المدهش أن نكتشف أنه يهاجم معجزات الكتاب المقدَّس”(11) ويقول ” نورمان جسلر”.. ” الذي كان يحتاج سبينوزا لأن يفعله، ولكن لم يفعله، هو أن يستحضر دفاعًا سليمًا يدعم به افتراضاته المسبقة العقلانية. إن سبينوزا يلقي أفكاره عاليًا في هواء التصورات العقلانية، لكن هذه لا تلتصق أبدًا بالأرض الصلبة للملاحظات التجريبية”(12)(13).
2- لا أدري كيف أن منكرو المعجزات يدّعون أنهم مسيحيين، مع أن حقائق الإيمان الأساسية في المسيحية هي عبارة عن معجزات، ويقول ” بيتر كريفت”.. ” في الحقيقة، كل عناصر المسيحية والمحددة هي معجزات: الخلق، الوحي، تسليم الشريعة، النبوءات، التجسد، القيامة، المجئ الثاني ثم الدينونة الأخيرة. أحذف المعجزات من أي دين آخر، ستجد أن نفس أساسيات هذا الدين مازالت باقية.. أحذف المعجزات من المسيحية، ولن يتبقى لديك سوى تلك الأكليشيهات.. التي يحصل عليها الأمريكيون المسيحيون أسبوعيًا من الوعاظ، فليس هناك شيء محدَّد، وليس هنا مبرر أن تكون مسيحيًا أكثر من أن تكون أي شيء آخر”(14).
3- لم يدرك منكروا المعجزات أن القانون الطبيعي ليس نظامًا مغلقًا، بل أن الله العامل في الكون من السهل جدًا أن يتدخل في قوانينه الطبيعية، ويجعلها تسير كما هي، كما حدث في الحمْل البتولي، فيقول ” سي. إس. لويس”.. ” إذا خلق الله نسمة الحياة في أحشاء جسد عذراء بطريقة معجزية، فهذا لا يعتبر كسرًا لأي قانون، حيث تستمر القوانين في العمل بصورتها المعتادة بعدها، والطبيعة توافق على ذلك. يتبع ذلك أن يظهر الحمْل، طبقًا لكل القوانين العادية، وبعد تسعة أشهر كاملة يولد الطفل..”(15)(16).
4- ما كنا نظنه بالأمس ثابتًا مستقرًا بتقدم العلم اكتشفنا أنه ليس هكذا، فيقول ” جون مونتجومري ” في كتابه ” التاريخ والمسيحية”.. ” هل يستطيع الإنسان الحديث أن يقبل المعجزة كما يقبل موضوع القيامة؟ والإجابة مدهشة للغاية. يجب أن نقبل القيامة لأننا من أهل الزمن الحديث. نحن نعيش في زمن أينشتاين.. لم يعد الكون ثابتًا في نظرنا، ولم يعد ملعبًا معروفًا نعلم كل قواعده، ومنذ أينشتاين لم يعد لأي إنسان الحق في الحكم على أي حدث بسبب معرفته السابقة بالقانون الطبيعي. الوسيلة الوحيدة لتعرف ما إذا كان الحدث قد وقع فعلًا هو أن نفحص الأمر لنتأكد من وقوعه فعلًا. مشكلة المعجزات إذًاَ يجب أن تُحل في مجال الفحص التاريخي وليس في مجال التوقعات الفلسفية”(17)(18).
كما يقول ” فنسنت تايلور”.. ” الوقت متأخر هذه الأيام أن يقول من ينادي بأن المعجزات مستحيلة، هذه المرحلة من النقاش تعتبر من الزمن الماضي، فالعلم يتواضع الآن.. خلال الخمسين سنة الماضية ترنحنا من جراء الاكتشافات العظمى والتي كان ينظر إليها في وقت ما بأنها مستحيلة. لقد عشتُ حتى سمعنا عن تحطيم الذرة.. عندما تتحقق شروط معينة فإن المعجزات ليست مستحيلة..”(19)(26).
5- لم يدرك منكروا المعجزات أن الله دائم الحضور أمام خليقته، فيقول جوش مكدويل أن افتراض إيفانز ” هو افتراض خاطئ أن نعتبر هذا كأنه غياب الله عن خليقته قبل قيامه بأداء هذا العمل المعجزي، لكن الله دائم الحضور أمام خليقته بالضرورة والتأكيد. لذلك بينما يستتبع المعجزات أعمال خاصة من الله، فإن الطبيعة مازالت تتماسك في تواجدها بالنشاط العادي لله”(20).
6- لم يدرك منكرو المعجزات أن المعجزة قد تحدث ليس عن طريق إيقاف القانون الطبيعي، بل عن طريق إضافة قوة جديدة، فيقول ” سير جورج ستوكس ” أستاذ العلوم الشهير ” ربما الحدث الذي تدعوه معجزة قد حدث ليس بإيقاف مفاعيل القوانين بعملية عادية، لكن بواسطة إضافة قوية لشيء ليس عاديًا في هذه العملية الطبيعية”(21)(22).
كما يقول “سير جورج ستوكس” أيضًا “نعلم جيدًا أن الإنسان – بوجه عام – يعمل بإنتظام وفق قاعدة معينة، ولكن قد يحدث -لسبب ما، في فرصة معينة- أن يعمل على غير هذه القاعدة، فلا يمكننا أن ننكر إمكانية حدوث شيء شبيه بذلك، فيما يختص بعمل الكائن الأسمى. إذا كنا نظن أن قوانين الطبيعة كائنة بذاتها، ولا سبّب لها، ففي هذه الحالة لا يمكن حدوث أي انحراف عنها. أما إذا كنا نعتقد أنها من صنع إرادة عليا، فلابد أن نقر بإمكانية تعطيل عملها وقتيًا في ظروف خاصة، بل وليس من الضروري، أنه في حالة حدوث شيء خارج عن مسار الطبيعة المعتاد، أن يتضمن هذا إيقاف عملها ولو وقتيًا، إذ يمكن أن يكون ثمة قانون آخر تدخل في الأمر مما نتج عنه هذا الحادث غير المعتاد، دون أي تعطيل للمسار الطبيعي. فيمكن أن الحادث الذي نسميه ” معجزة ” أو ” أعجوبة ” قد حدث، ليس بتعطيل القوانين السارية عادة، بل بتدخل قوة غير معتادة، أو معتادة ولكنها ذات طبيعة لا تدرك”(23).
وفي المعجزات الإلهيَّة نرى أن القوانين الأصلية لا يتم تعليقها أو تعديلها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولكن قوة خارقة للطبيعة تتدخل مُحدثة تأثيرًا جديدًا، وهي بذلك لا تعتبر تحديًا لنواميس الطبيعة، بل إعلانًا لقوة جديدة.
ويمكن ضرب المثل الآتي في تأثير عامل جديد يُحدث المعجزة ” فالحياة تحت سطح الماء لها طبيعة خاصة طالما لا يعكرها شيء، ولكن إن ألقى رجل يقف على الشاطئ حجرًا في الماء، فلابد أن تحدث تغيرات، تبدو كمعجزة أمام الكائنات التي تعيش في هذا الماء، لم تكن تتوقعها. وتقارب عالمين متميزين تمامًا أحدهما عن الآخر، يشبه بشدة الوضع بين العالم فوق الماء، والعالم تحت سطح الماء، إذ لا حاجز بينهما، بل هما في الواقع متصلان، ومع ذلك فالحياة في كل منهما متميزة عن الأخرى تمامًا وقد يكون العالم الروحي قريب منا قرب الهواء من الماء، ويمكن للملائكة أو غيرهم من خدام مشيئة الله، أن يتدخلوا بنفس السهولة عند صدور كلمة منه، مثلما يستطيع إنسان أن يلقي بالحجر في الماء، وعندما يلقي بالحجر هكذا، لا يتوقف عمل أي قانون من قوانين الطبيعة ولكن ما يحدث -كما يقول سير ستوكس عن المعجزة- هو أن عاملًا جديدًا قد طرأ..
فالمعجزات تثبت أن قوة ما فوق الطبيعة -قوة عليا خارقة للطبيعة- قد تدخلت، لذلك يصفها الكاتب بالقول {عجائب وقوات وآيات} ونجدها مجتمعة في بيان مصدرها، في عبارة عميقة رائعة هي {شاهدا الله معهم بآيات وعجائب وقوات ومواهب الروح القدس حسب إرادته} (عب 2: 4)”(24).
ويقول القس بيشوي عوض أن القوانين الطبيعية الثابتة هي من وضع الله وتحت سيطرته، ولا تمثل إلهًا آخر ” فهل هذا يعني أن الناموس المذكور (القوانين الثابتة) أضحى إلهًا آخر مستقلًا أو معادلًا مع الله، يفلت من كل إشراف، فلا يجوز بحال ما التدخل في إطلاق مسيره!! وهل يقف الله من هذا الناموس موقف المتفرج أو العاجز عن أن يصنع إزائه أمرًا أو شيئًا..؟! أما القول بأن هناك مضادة أكيدة بين المعجزات والنواميس الطبيعية في الكون، فهو قول غير صحيح. فقانون الجاذبية يعمل في الأرض.. فإذا ما خرج الشيء لسبب ما عن دائرة هذا الناموس انعدم الوزن، وأمتنع عن السقوط.. ومن هنا يفهم أن الناموس باقٍ في حدوده الخاصة، حتى تعمل إرادة قوية على التخلص من تأثيره، دون أن يقال أن هناك تحطيمًا أو قضاء على هذا الناموس.
وقد استطاع الإنسان بإرادته الحرة أن يصنع ما يشبه العجائب والمعجزات، دون أن يُقال أنه حطم ناموس الجاذبية أو قضى عليه. إذ أمكنه أن يبعث بالصواريخ المواجهة لتدور حول القمر، كما استطاع أن يتحكم فيها أو يرجعها أو يحدد مناطق سقوطها. وهذا المثل نردده ثم نقول بعد ذلك: هل إرادة الله لا تملك في قدرتها الكاملة أن تعلو أو تسود على أي ناموس معروف أو غير معروف. إن أية معجزة بالنسبة لله هي السيطرة البسيطة العادية على أي ناموس، والأمر كله يتعلق في الفرق بين حكمة وقدرة الإنسان، وحكمة وقدرة الله العلي، إذ ما يعتبره الإنسان خارقًا إنما هو بالنسبة لمجال حكمته وقدرته، على العكس من الحكمة الإلهيَّة وقدرتها، إذ كل شيء بالنسبة لها يسير عادي وبسيط”(25).
_____
(1) Spinaza , ATPT , 82 – 83.
(2) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 585.
(3) مقالة في اللاهوت وأسبابه 1: 83، 87، 92.
(4) أورده القس عبد المسيح بسيط أبو الخير في كتابه الكتاب المقدَّس يتحدى نُقاده ص 7.
(5) Ogden , CWM , 33.
(6) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 329.
(7) Bultmann , JCM , 37 – 38.
(8) أورده جوش مكدويل في كتابه برهان يتطلب قرارًا ص 328.
(9) Bultmann, KM , 120 – 121.
(10) المرجع العربي السابق ص 328.
(11) المرجع السابق ص 586.
(12) Geisler, MMM, 18 , 21.
(13) المرجع العربي السابق ص 586.
(14) Kreeft , CMP , 273.
(15) Lewis, M , 59.
(16) أورده جوش مكدويل في كتابه برهان يتطلب قرارًا ص 583.
(17) Montgomery. HC , 75 – 76.
(18) أورده جوش مكدويل في كتابه برهان يتطلب قرارًا ص 330.
(19) Toylor , TFGT , 13.
(20) المرجع العربي السابق ص 586.
(21) Stokes , ISBE , 2036.
(22) المرجع السابق ص 583.
(23) دائرة المعارف الكتابية جـ 5 ص 193.
(24) دائرة المعارف الكتابية جـ 5ص 193، 194.
(25) المعجزة في المفهوم المسيحي ص 14، 15.
(26) أورده جوش مكدويل في كتابه برهان يتطلب قرارًا ص 331.