نظرة أصحاب لاهوت التحرر إلى معجزات الله في العهد القديم
نظرة أصحاب لاهوت التحرر إلى معجزات الله في العهد القديم
نظرة أصحاب لاهوت التحرر إلى معجزات الله في العهد القديم
71- كيف نظر أصحاب مدرسة النقد الأعلى وأتباعهم من أصحاب لاهوت التحرر إلى معجزات الله في العهد القديم؟
ج: وقف أصحاب مدرسة النقد الأعلى ضد كل ما هو فوق الطبيعة مثل المعجزات والنبوءات، ويوضح “وجرين” هذه الحقيقة قائلًا “لا يمكن أن نتجاهل موضوعيًا وعلميًا الميل الواضح ضد ما هو فوق الطبيعة والذي أثر على كل النظريات النقدية.. كل القادة المعروفين للحركة، وبدون استثناء ازدروا بحقيقة المعجزات والنبوءات والتدخل الفوري للعناية الإلهيَّة بمفهومها الإنجيلي الصحيح الأصيل. كل نظرياتهم مزخرفة بفروض مسبقة لها صلة بالمذهب الطبيعي”(1).
وسخر ” يوليوس ولهاوزن ” في كتابه “تاريخ إسرائيل” بالمعجزات التي صاحبتهم أثناء خروجهم من مصر وقال “لكن من يمكن أن يصدق كل هذه الأمور؟”(2) ويقول لانجدون جلكي “أن الأفعال التي ظن الإسرائيليون أن الله فعلها والكلمات التي اعتقدوا أنه نطق بها -هم قالوا أن الله فعلًا عملها ونطق بها- لكن بالطبع نحن نعلم أنه لم يفعل ذلك”(3)(4) كما ينكر ” لانجدون جلكي ” الحدث الإعجازي في عبور البحر الأحمر قائلًا ” نحن ننكر الطبيعة الإعجازية للحدث ونقول أن سببها هو ريح شرقية”(5)(6) وأعتقد “بيرين” أن الله لا يتدخل بالمعجزات ولكن الناس يعتقدون هذا، فيقول ” مما قلنا سابقًا بأن الله لا يمكن أن يكون سببًا مؤثرًا في حدث تاريخي، فهذا فقط ليس إلاَّ إيمان فرد أو مجموعة من الناس بأن الله هو الذي فعل ذلك”(7).
وانتقلت مثل هذه الأفكار الهدامة للوسط الكاثوليكي، فيقسّم الخوري بولس الفغالي المعجزات إلى ثلاثة أشكال، رافضًا تصديق كل ما يسميه العهد القديم بالمعجزة، لأن بعض المعجزات مثل الضربات العشر قد اعتبرها ظواهر طبيعية، فيقول ” والمعجزة التي هي تدخل الله المباشر، تظهر بثلاثة أشكال: الأول: النتيجة غريبة كليًا عن قوى الطبيعة ونواميس الطبيعة. مثلًا: تمجيد الأجساد في القيامة. الثاني: هناك نسبة بين الحدث وقوى الطبيعة، ولكن النسبة إلى هذا الحدث تتعدى الأمور الطبيعية: لا تستطيع الطبيعة أن ترد النظر لشخص فقده كليًّا. لا تستطيع الطبيعة أن تعيد الحياة إلى ميت. الثالث: هناك نتيجة يمكن أن تكون الطبيعة سببها، ولكن ليس بهذه الطريقة المحددة. مثلًا، أن يحدث جوع أو شتاء نتيجة كلام نبي من الأنبياء. ويبقى أننا في هذه الأشكال الثلاثة أمام عالم المعجزة، لأن قوى الطبيعة، وإن كان لها دور، فهي لا تستطيع أن تعطي هذه النتيجة أو تلك دون تدخل مباشر من قبل الله.
في لغة الكتاب المقدَّس، ينسب الكاتب إلى الله (وهو السبب الأول) بطريقة مباشرة حتى نتائج الأسباب الثانية، أكانت ظاهرة طبيعية أو أعمالًا بشرية حرة. ولهذا نكون من البساطة بمكان إن نحن رأينا معجزات في كل ما يسميه العهد القديم كذلك.. نقرأ أيضًا في (2 مل 19: 35) أن ملاك الرب أهلك الجنود الأشوريين الذين يحاصرون أورشليم. وكيف أهلكهم؟ يبدو (أنه) الوباء.. ولنقل أن هناك طريقة فنية لعرض خبر من الأخبار يتوقف الكاتب على الوجهة الإلهيَّة ويهمل الأسباب الطبيعية (سقوط أريحا مثلًا يش 6)..
في (خر 7: 14 – 25) نقرأ عن النيل الأحمر.. ظاهرة النيل الأحمر معروفة، وهذه ليست مضرة بمصر، ولكن بعض المفسرين رأوا أن هذا اللون الأحمر الدم الذي سفكته مصر عندما قاومت الله.. كيف يمكننا أن نتصوَّر هذه الضربات العشر؟ (مجرد افتراض) ارتفعت مياه النيل في تلك السنة بطريقة غير عادية، وأحمرت كثيرًا فأعطى موسى للظاهرة تفسيرًا مقلقًا، مرة ثانية كثر عدد الضفادع بصورة هائلة ففسرها العبرانيون على أنها ضربة من الله يقاصص بها المصريين. ويشتد الضيق عندما تأتي نكبات أخرى. الذباب، الأمراض المعدية على الناس والحيوان. والأقلية تريد أن تعيّد لربها فيمنعها الفرعون، ترى في ذلك إنذارًا من إلهها. وتأتي عاصفة فينزل البرد، وتأتي رياح رملية فيعم الظلام البلاد..
وأخيرًا يعرفون أن بكر فرعون قد مات (أيكون قد مات بالوباء) المهم أن موسى يؤكد بقوة أنها يد الله هي التي فعلت..”(8).
ويتساءل الخوري بولس الفغالي عن السلوى قائلًا “أتكون طيور رحالة حطت هناك من النقب”(9).. ولم يتساءل: أظلت هذه الطيور الرحالة تحط بهذه الأعداد الوفيرة لعدد من السنين؟!!
ويؤكد بولس الفغالي في كتاب آخر أن الضربات العشر ليست معجزات قائلًا “نستطيع أن نفسر هذه الضربات فنلاحظ أنها ليست معجزات بالمعنى الحصري للكلمة، بل ظواهر طبيعية معروفة في مصر. تفسير مياه النيل بواسطة الرمل الأحمر أو الحشائش. ثم الجراد والضفادع والذباب، وكسوف الشمس أو ريح الصحراء التي تجعل السماء مظلمة (رياح الخماسين) والمرض الذي يميت الأطفال العديدين ومنهم بكر الفرعون.. ولكن كل هذا لا يتيح لنا أن نفهم النص. لهذا، فبدلًا من أن نتساءل عما حدث حقًا، يجب أن نطرح على نفوسنا السؤالين التاليين {لماذا روى لنا الكاتب هذه القصة؟ وكيف رواها لنا؟}.
ما نلاحظه أولًا هو تصاعد في الضربات التي تصيب مصر. كانت الضربة الأولى خفيفة.. أما الأخيرة فهائلة.. والله المحرّر الذي يعمل الآن، يذكرنا بالله الخالق: فما فعله الخالق في تك 1، ها هو ” يدمره ” الآن على حساب مصر. فما عاد الإنسان يسود على الحيوان، بل قد اجتاحه كل ما يدب على الأرض، وما يتكاثر كالضفادع، المياه العليا تدمر المصريين بحجارة من البَرَد، والظلمة لم تعد مفصولة عن النور. وهكذا عادت البلاد إلى الخواء والخلاء كما في البدء..”(10).
وأيضًا يؤكد الخوري بولس الفغالي ذات المعنى في كتاب ثالث قائلًا ” تحول الماء إلى دم، هكذا يتحوَّل النيل كل سنة بفضل الوحول المتراكمة. انطلق الكاتب من هذا الواقع وجعل منه معجزة أمام فرعون الذاهب إلى النهر ليقوم بعبادته هناك (خر 7: 15) فاض النهر فامتلأت الأرض بالضفادع. أمر الله فجاءت الضفادع، أمر الله (بناء على طلب موسى) فزالت الضفادع..
ونتساءل أية قيمة تاريخية لهذه الأخبار؟ أما اخترعها العبرانيون ورووها للأجيال اللاحقة؟ ثم أن المعجزات المروية هنا ليست عجائب تتنافى ونواميس الطبيعة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كل ما حدث في مصر يستند إلى ظواهر طبيعية. النيل يحمر، الضفادع والبعوض والذباب والجراد يهجم، الوباء والقروح والبرد والظلام الذي يحمله هواء الصحراء.. كل هذا يحدث في مصر فيخلف وراءه ذكريات مؤلمة.. والمعجزات لا تكمن فيما حدث، لأن ما حدث معروف وهو لا يدهش فرعون ولا المصريين. العمل العجائبي يكمن في حدوث هذه الظواهر في الوقت الذي يريده الله ليتغلب على معارضات المضطهد”(11).
وبذلك يختزل الخوري بولس الفغالي المعجزات في عنصر التوقيت، فالوقت الذي تحدث فيه الضربة أو ترفع فيه هو مثار الدهشة والعجب، ولكن الضربة أمرًا طبيعيًا.. تُرى هل عندما امتلأت بيوت المصريين بالذُبَّان دون بيوت بني إٍسرائيل ” ولكن أُميَّز في ذلك اليوم أرض جاسان حيث شعبي مقيم حتى لا يكون هناك ذُبَّان. لكي تعلم إني أنا الرب في الأرض.. خربت الأرض من الذُبَّان” (خر 8: 22 – 24).. أليس هذا إعجاز؟!!
تُرى عندما ” ماتت جميع مواشي المصريين. وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمُت منها واحد” (خر 9: 6).. أليس هذا إعجاز ؟!
تُرى عندما ” كان بَرَد ونار متواصلة في وسط البَرَد.. فضرب البَرَد في كل أرض مصر جميع ما في الحقل من الناس والبهائم. وضرب البَرَد جميع عشب الحقل وكسر جميع شجر الحقل. إلاَّ أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل فلم يكن فيها بَرَد” (خر 9: 24 – 26).. أليس هذا في حد ذاته إعجاز؟!!
تُرى عندما ” كان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام. لم يبصر أحد أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام. ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم” (خر 10: 22، 23).. أليس هذا في حد ذاته إعجاز؟!!
تُرى عندما ضرب الرب كل بكر للمصريين من بكر فرعون إلى بكر الجارية، بينما حفظ الله أبكار بني إٍسرائيل.. أليس هذا في حد ذاته إعجاز ؟!!
لقد أغفل الخوري بولس كل ما سبق، ورأى أن بني إٍسرائيل لم يعبروا البحر الأحمر بأعماقه إنما عبروا مستنقعات البحيرات المرة، فيقول ” حين نقرأ النصوص (التورانية) يجب أن نفهم مغزاها وزمن تدوينها. دُوّنت في شكل نهائي بعد العودة من المنفى (وبهذا ينفي سيادته نسبة التوراة لموسى النبي) وفي ظل الحكم الأجنبي. وبما أن العبرانيين يقيمون فيها (في الأرض) الآن بأمان، فلأن الله أعطاهم إياها بدون أن يرفعوا يدًا. بل منذ بداية المسيرة وعبور مستنقعات البحيرات المرة”(12).
ولا أدري كيف يتغافل الخوري بولس الفغالي هذه الأعاجيب، ولم يلتفت إلى قول الرب ” هل شرع الله أن يأتي ويأخذ لنفسه شعبًا من وسط شعب بتجارب وآيات وعجائب وحروب ويد شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة مثل كل ما فعل لكم الرب إلهكم في مصر أمام أعينكم” (تث 4: 34).
ولا أدري كيف يتغافل الخوري بولس الفغالي قول المرنم أن بني إٍسرائيل عبروا في لجج البحر وليس في مستنقعات البحيرات المرة ” أباؤنا في مصر لم يفهموا عجائبك لم يذكروا كثرة مراحمك فتمرَّدوا عند البحر عند بحر سوف. فخلَّصهم من أجل اسمه ليُعرّف بجبروته. وأنتهر بحر سوف فيبس وسيرَّهم في اللجج كالبرية.. نسوا الله مخلصهم الصانع عظائم في مصر. وعجائب في أرض حام ومخاوف في بحر سوف” (مز 106: 7-21).
إن الله قوي وقدير، وهو خالق كل الأشياء من العدم. إذًا فهو له السلطة والسيادة على هذه الأشياء التي خلقها، فيستطيع أن يتحكم فيها، ويقول ” هربرت لوكير”.. ” أن إله الكتاب المقدَّس هو إله الطبيعة، إله كل المعجزات الحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته. فالذي يخلق شيئًا من لا شيء ويحوَّل الخطاة إلى قديسين، ويأمر الطبيعة، لديه قدرة تفوق قدرة البشر بما لا يقاس، فالقدرة الكلية إذًا هو البرهان على المعجزات”(13).
ويوضح و. د تومسون Thomson علاقة الله مع الطبيعة من خلال ستة أوجه:
“1- الله خالق الطبيعة (كو 1: 16): فلأنه خلق الطبيعة فهو فوقها، وفي نفس الوقت فيها كمصدر دائم للطاقة، والسببية. هنا نرى سمو الله وحلوله الدائم مترابطين معًا برباط واحد يمكن به للطبيعة أن توجد معتمدة عليه كالخالق.
2- الله حامل للطبيعة (كو 1: 17): أن الكتاب المقدَّس لا يمجد الله فوق الطبيعة فقط ولكنه يجعله في علاقة مباشرة مع الطبيعة حتى أن الله يملأ كل شيء. فهو حال في الطبيعة كالإله الدائم الوجود والكلي القدرة. فهو مصدر الحياة لكل ذي حياة، وهو الروح لكل الأرواح. هو الكل في الكل، ولذا فالكل فيه(14).
3- الله يسمو على الطبيعة (مز 90: 2، 102: 25 – 27): والطبيعة تعتمد في وجودها عليه، ومع ذلك فهو نفسه قائم بذاته ومستقل عن كل ما عداه.
4- الله حال في الطبيعة (أف 1: 11): الله يحل في الكون الذي خلقه، وهو يمارس على الدوام سلطانه كالعلة المحركة لكل شيء.
5- تدبير القصد الإلهي في الطبيعة (أف 1: 9 – 11): الله خلق الطبيعة وهو يعتني بها بهدف المحبة المقدسة.
6- الطبيعة التي خلقها الله بواسطة إعلان الله عن ذاته للإنسان (رو 1: 19، 20): يشار للطبيعة بأنها طريقة (بريل) التي استخدمها الله لأجل البشرية العمياء، والكتاب المقدَّس الذي يعلن عن الله فائق في مستواه، ولذلك فالمعجزات شيء طبيعي بالنسبة له. ومع ذلك فبالرغم من قوة الله غير المحدودة، هناك بعض الأشياء لا يستطيع الله أن يفعلها، فهو لا يستطيع أن يفعل ما يدنس مجد لاهوته، ولا يستطيع أن ينكر نفسه، ولا يستطيع أن يخطئ أو يقر الخطية أو الرياء، ولا يمكنه أن يناقض صفاته المجيدة.
ولسبب ماهية الله وكل ما يعنيه في ذاته وكل ما يمتلكه من سجايا، فله حرية مطلقة ليتمم ما يراه مناسبًا. أنه لا يمكن أن يكون الإله القدير إذا لم يجر أعمالًا خارقة تتفق مع كيانه وشخصيته”(15).
_____
(1) جوش مكدويل – برهان يتطلب قرارًا ص 327.
(2) المرجع السابق ص 327.
(3) Gilkey , COTBL , 148.
(4) المرجع العربي السابق ص 327.
(5) Gilkey , COTBL , 150.
(6) المرجع السابق ص 327.
(7) المرجع السابق ص 328.
(8) المدخل إلى العهد القديم جـ 2 ص 95 – 98.
(9) المدخل إلى العهد القديم جـ 2ص 99.
(10) في رحاب الكتاب – 1 – العهد الأول ص 208.
(11) البدايات أو مسيرة الإنسان إلى الله ص 170.
(12) في رحاب الكتاب – 1 – العهد الأول ص 22.
(13) كل المعجزات في الكتاب المقدَّس ص 21.
(14) مع ملاحظة البعد تمامًا عن فكرة ” وحدة الوجود ” بمعنى أن كل شيء هو الله ذاته، والله ذاته هو كل شيء.
(15) هربرت لوكير – ترجمة ادوارد وديع عبد المسيح – كل المعجزات في الكتاب المقدَّس ص 21.