ما هي نوعية التفسير الذي تقبله الكنيسة لسفر النشيد؟
60- ما هي نوعية التفسير الذي تقبله الكنيسة لسفر النشيد؟
خامسًا: التفسير الرمزي:
ج- يجب أن يُفسَر النشيد تفسيرًا رمزيًا، والتفسير الرمزي Type بمعنى شكل أو نمط، من الكلمة اليونانية Typos أي نموذج، والكلمة المرتبطة بها antitype أو antitypas أي المطابقة مع شيء سابق، وهناك التفسير المجازى، وكلمة “مجاز ” في الإنجليزية allegory وقد أتت من كلمتين يونانيتين هما أ- allos أي آخر ب- agoreyo أي يتكلم أو يعلق، ومعنى المجاز أنك تقول شيئًا وتقصد شيئًا آخر، ويستخدم التفسير المجازى في الحقائق الروحية العميقة، ولا يصلح في تفسير الحقائق التاريخية، والفارق بين التفسير الرمزي والمجازى أن التفسير الرمزي يقر بصحة قصص العهد القديم ويربطها بتعاليم العهد الجديد، بينما التفسير المجازى يتجاهل حقيقة هذه القصص ويركز على المعنى الخفي أو الروحي، ويقول ب.ب. بارنت P.P. Parente في كتابه “نشيد الأنشاد في اللاهوت الروحي ” سنة 1944م ص150. أن المعنى الذي قصده الله من نشيد الإنشاد هو المعنى الروحي أو المجازى، أما أولئك الذين يتوقفون عند حد المعنى الحرفي للنص ولا يدركون شيئا من المعنى الروحي، فأنهم يقولون شيئًا يشير للحب الطبيعي فقط ولا يجدون شيئًا فيه فائدة لنفوسهم، إن الشخص الجسدي لا يصح أن يقرأ هذا السفر. أنه سفر النفوس الكاملة”(1).
ويقول قداسة البابا شنودة الثالث عن هذا السفر “الروحيون يقرأون هذا السفر، فيزدادون محبة لله، أما الجسدانيون، فيحتاجون في قراءته إلى مرشد، لئلا يسيئوا فهمه، ويخرجون عن معناه السامي إلى معانِ عالمية.. هذا السفر هو سفر الحب نفهم منه أن الله منذ القديم كان يريد أن تكون العلاقة بيننا وبينه هي علاقة حب.. سفر النشيد يتحدث عن المحبة الكائنة بين الله والنفس البشرية. أو بين الله والكنيسة. في صورة الحب الكائن بين عريس وعروسه.. ولكي نفهم سفر النشيد، لا بُد أن نفهمه بطريقة رمزية، وليس بتفسير حرفي. أن التفسير الحرفي لسفر النشيد بمفهوم جسداني هو تفسير مُنفر، ولا يتفق مع روح الوحي، ولا مع مدلول الألفاظ. وهذا السفر لا يصلح إلا للمتعمقين في الروح. الذين لهم عمق في التأمل، والذين لا يأخذون الألفاظ بفهم سطحي، أنه ليس للمبتدئين. بل للناضجين، وقديمًا لم يكن أحد يقرأه إلاْ بإذن أو بإشراف أبيه الروحي(2).
وقد فسَّر اليهود السفر على أساس أنه علاقة بين يهوه وشعبه المحبوب إسرائيل، وساعدهم في هذا التفسير وضوح هذا المعنى في مواضع عديدة بالعهد القديم، وقد فسّر المسيحيون السفر بثلاثة طرق:
1- أن العذراء القديسة مريم هي عروس النشيد، وأخذ بهذا التفسير بعض الآباء مثل القديس أمبروسيوس، وهناك بعض الآيات التي ساعدت في هذا التفسير مثل قول العريس “كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات” (نش2: 2) ، و”هن ستون ملكة وثمانون سرية وعذارى بلا عدد. واحدة هي حمامتي كاملتي. الوحيدة لأنها هي عقلية والدتها هي. رأتها البنات فطوبنها الملكات والسراري فمدحنها” (نش6: 8، 9) ولكن بعض الأخوة الكاثوليك انحرفوا في التفسير، فنادوا بعقيدة “الحبل بلا دنس ” أي أن العذراء مريم ولدت بدون الخطية الجديَّة(3).
2- أن عروس النشيد هي كنيسة العهد الجديد التي اقتناها الله بدمه، ومن اللذين أخذوا بهذا التفسير العلامة أوريجانوس والقديس أغسطينوس.
3- أن عروس النشيد هي النفس البشرية التي من أجلها سفك ابن الله دمه، ومن الذين أخذوا بهذا التفسير العلامة أوريجانوس والقديسون أثناسيوس، وفم الذهب، وغريغوريوس أسقف نيصص، وأيضًا القديس أغسطينوس.
ومما يشجعنا على التفسير الرمزي لهذا السفر ما يلي:
1- أن الله أستخدم لغتنا البشرية في التعبير عن الأمور الروحية العميقة، وحتى لا يكون غريبًا عنا، فعندما صورَّ الكتاب الله على أنه يحزن ويندم ويغضب ويفرح.. إلخ فذلك لكيما ينقل لنا مشاعر الله، بينما اللاهوت منزَّه عن الانفعالات البشرية، وعندما يقول الكتاب عرش الله فهو تعبير عن ملك الله بينما الله غير محدود، ولا يحده عرش مهما عظم. كما أستخدم الوحي أعضاء الجسد لتوضيح بعض المعاني الروحية، ومن أمثلة ذلك:
الرأس – الشعر – العينان – الخد تحت النقاب – الفم – الشفتان – الأسنان – العنق – الثديان – البطن – السرة – دوائر الفخذين – الرجلان
أ- الرأس: تشير للحكمة كما قال سليمان “الحكمة هي الرأس فاقتن الحكمة.. تغطى رأسك أكليل نعمة، تاج جمال تمنحك” (أم4: 7-9).
ب- الشعر: يشير للعناية الإلهية “وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة” (مت10: 30).
ج- العينان: يشيران للعناية “عينا الرب نحو الصديقين وأذناه إلى صراخهم” (مز34: 15) وأيضًا يشير للبصيرة الروحية ” ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق” (1يو5: 20).
د- الخد تحت النقاب: يشير للبهاء، فعندما نزل موسى من الجبل، لم يكن يعلم “أن جلد وجهه صار يلمع فجعل على وجهه برقعًا. وعندما كان يدخل إلى الرب يرفع البرقع، وعندما يخرج ليكلم الشعب كان يضع البرقع” (خر34: 29- 35).
ه- الفم: يرمز للأقوال “لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك” (مز19: 14).
و- الشفتان: ترمزان للتسبيح “فلنتقدم به كل حين ذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه” (عب13: 15).
ز- الأسنان: تشيران إلى هضم كلام الله “وُجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح. ولبهجة قلبي لأني دعيت باسمك يا رب إله الجنود” (أر15: 16).
ح- العنق: يرمز إلى حمل النير “أحملوا نيري عليكم. لأن نيري هين وحملي خفيف” (مت11: 29، 30).
ط- الثديان: يرمزان إلى كلمة الله عبر العهدين القديم والجديد “لكي تُرضعوا وتُشبعوا من ثدي تعزيتها” (أش69: 11).
وبالنسبة لسفر النشيد فإن الثديين يشيران للناموس والأنبياء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. والثديان يشيران لبركات الرضاعة كما قال أبونا يعقوب لأبنه يوسف بركات الثديين والرحم. أي بركات الرضاعة والولادة، وقالت امرأة للسيد المسيح “طوبى للبطن التي حملتك وللثديين اللذين رضعتهما” (لو11: 27) كما أن الثديين يشيران للاطمئنان “أنت جذبتني من البطن. جعلتني مطمئنًا على ثديي أمي” (مز22: 6) والأم هي الكنيسة التي ترضع أبناءها الإيمان الحقيقي اللبن عديم الغش، ومن يخطف الطفل عن ثديي أمه يحكم عليه بالموت “يخطفون اليتيم عن الثدي” (أي 24: 9).
ى- البطن: تشير للأمور الباطنية “لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ” (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 3: 16).
ك- السُّرة: ترمز للفطام الروحي “أما ميلادك يوم وُلدت فلم تُقطع سرتك” (حز16: 4) أي محكوم عليك بالموت.
ل- دوائر الفخذين: أي مفاصل الفخذين، وتشير لرباط الوحدة، فالمفاصل هي التي تربط أعضاء الجسم معًا “ننمو في كل شيء إلى ذلك الذي هو الرأس المسيح، الذي منه كل الجسد مركبًا معًا ومقترناُ بموازرة كل مفصل” (أف4: 15، 16).
م- الرجلان: تشيران للسعي في طريق الخدمة “حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام” (أف 6: 15).
2- شبه الكتاب المقدَّس الله بالعريس والنفس البشرية بالعروس، وطالما العروس تعيش في طاعته فهي تعلن حبها له، أما إن مالت إلى المباهج والمسرات العالمية وانجرفت إلى عبادة الأوثان فإنها تزني الزنى الروحي، فقد أوصى الله شعبه إسرائيل “أحترز أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض. فيزنون وراء آلهتهن” (خر34: 15، 16) وأخبر الله موسى بمستقبل شعبه “ويقوم هذا الشعب ويفجُر وراء آلهة الأجنبيين” (تث 31: 16). أما عن الآيات التي تذكر الله كعريس وشعبه كعروس فهي كثيرة جدًا نذكر منها:
أ- قول المزمور “اسمعي يا ابنة وانظري وأميلي أذنك وأنسى شعبك وبيت أبيك.. فيشتهى الملك حسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له.. كلها مجد ابنة الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها. بملابس مطرَزة تُحضر إلى الملك في أثرها عذارى صاحباتها. مُقدَمات إليك. يحضرن بفرح وابتهاج. يدخلن إلى قصر الملك” (مز45: 10-15) ومما يذكر أن كلمات هذا المزمور 160 كلمة وبإسقاط المتكرر 120 كلمة وردت منها 51 كلمة في سفر النشيد.
ب- قال إشعياء النبي “لأن بعلك هو صانعك رب الجنود أسمه ووليك قدوس إسرائيل له كل الأرض يُدعى. لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب. وكزوجة الصبا إذا رُذلت قال إلهك” (أش 54: 5، 6) كما قال “كفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك” (أش 62: 5).
ج- قال الله لأرميا النبي “أذهب وناد في أذني أورشليم قائلًا. هكذا قال الرب. قد ذكرت لك غيرة صباكِ محبة خطبتكِ ذهابكِ ورائي في البرية أرض غير مزروعة” (أر 2: 4).
د- في سفر حزقيال شبه الله أورشليم بفتاة مطروحة على وجه الحقل محكوم عليها بالموت، فأخذها واعتنى بها حتى صلحت أن تكون ملكة، وبعد هذا خانته وزنت وراء الأوثان ” أهو قليل من زناك. أنك ذبحت بنىْ وجَعْلتهم يجوزون في النار لها. وفي كل رجاساتك وزناكِ لم تذكري أيام صباكِ إذ كنت عريانة وعارية وكنت مدوسة بدمكَ (حز16: 20 – 22).
ه- في سفر هوشع قال الله “ولكن هانذا أتملقها وأذهب إلى البرية وألاطفها.. وهي تغنى كأيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر. ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنك تدعيني رجلي ولا تدعيني بعلي” (هو 2: 14-16) كما قال الله عن شعبه “وأخطبكِ لنفسي إلى الأبد وأخطبكِ لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب” (هو2: 19-20).
و- قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح “من له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس الذي يقف ويسمع يفرح فرحًا من أجل صوت العريس” (يو3: 29).
ز- عندما سأل تلاميذ يوحنا الرب يسوع عن سبب عدم صوم تلاميذه قال لهم “هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم. ولكن ستأتي أيام حين يُرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون” (مت9: 15) وفي مثل العذارى شبه السيد المسيح نفسه بالعريس “وفيما هن ذاهبات ليبتعن جاء العريس والمستعدات دخلن معه إلى العرس وأغلق الباب” (مت25: 9).
ح- قال بولس الرسول لأهل كورنثوس “لأن خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2كو11: 2) وفي الرسالة إلى أفسس طلب من الرجال أن يحبوا زوجاتهم كما أحب المسيح الكنيسة وسلْم نفسه لأجلها، وطالب السيدات أن يخضعن لرجالهن كما تخضع الكنيسة للمسيح (أف5: 22- 27).
ط- جاء في سفر الرؤيا “لنفرح ونتهلل ونعطه المجد لأن عرس الخروف قد جاء وامرأته هيأت نفسها. وأعطيت أن تلبس بزًا نقيًا بهيًا. لأن البزُ هو تبرَرات القديسين” (رؤ19: 7، 8).. “رأيت المدينة المقدَّسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها” (رؤ21: 2) وقال الملاك ليوحنا ” هلمَ فأريك العروس امرأة الخروف” (رؤ21: 9) وفي ختام الكتاب يقول “الروح والعروس يقولان تعال.. تعال أيها الرب يسوع” (رؤ22: 17، 20).
ومع هذا الكم من الآيات فإن أحدًا لم يشك أن العلاقة بين الكنيسة والمسيح علاقة جسدية، ما عدا شخص غير سوى قال في حلقة تليفزيونية أن المسيح تزوج خمسة عذارى ودخل معهن وأغلق الباب..!! وكل إنسان يعبر عما بداخله، فالإنسان الروحي يرى في هذا السفر أعماق الحب الإلهي، أما الإنسان الجسداني الشهواني فيرى فيه كلمات خارجة وغزلًا مفضوحًا لا يليق بالوحي الإلهي.
_____
(1) التفسير الحديث للكتاب المقدس ص 19.
(2) تأملات في سفر نشيد الأناشيد ص8، 9.
(3) راجع كتابنا يا أخواتنا الكاثوليك.. متى يكون اللقاءج2 ص157، 158.