وماذا عن رأى الكنيسة الكاثوليكية في سفر النشيد؟
ج- كما رأينا من قبل مدى تأثر الكنيسة الكاثوليكية بآراء مدرسة النقد الأعلى، هكذا نرى هنا مدى تأثر الكنيسة الكاثوليكية أيضًا بالآراء النقدية، ففي مقدمة سفر نشيد الأناشيد بالطبعة اليسوعية يقولون “إن هذا الكتاب الصغير يُشكل مسألة من أشد المسائل المتنازع عليها في نصوص الكتاب المقدَّس. فما معنى هذه القصيدة الغزلية (أو مجموعة القصائد الغزلية) في العهد القديم، فللكتاب طابع غرامي، وهو لا يتوقف إلاَ على الجمال الطبيعي ولا يذكر الله ولا إنجاب الأولاد.. فيه ذكريات أسطورية.
ومع ذلك فلا نجد فيه أي مفتاح لتفسيره. من الذي ألفَّه وفي أي تاريخ؟ ولماذا أَلّف؟ وإذا صح أن وجوده في قانون الكتب المقدَّسة لم يكن إلاَّ مصادفة.. جرت عدة محاولات قيل فيها إن التأليف يرقى عهده إلى زمن سليمان أو إلى ما بعده بقليل، لكن الإنشاء واللغة يدلاّْن على أنه جاء متأخرًا، في أيام الفرس مثلًا (القرن الخامس ق.م) أو حتى في العصر الهليني (القرن الثالث ق.م.)..
ولكن من الواضح أن مؤلفها ليس سليمان.. أيًّا كان معناه، افتراه نشيدًا مقدَسًا أم دنيويًا، أي أثُراه في مكانه في الكتاب المقدَّس؟ لقد حاول العلماء للجواب عن هذا السؤال أن يكتشفوا معنى نشيد الأناشيد. وفي أمكاننا أن نلخص مختلف التفسيرات في أربعة عناوين..
التفسير التمثيلي (أو الرمزي) – التفسير الليترجي – التفسير المأسوي – التفسير الطبيعي – تفسير خامس
1- التفسير التمثيلي (أو الرمزي):
يرقى على الأقل إلى القرن الأول ب. م، وبتجنب ما في هذه القصيدة الغزلية من معثرة كثيرًا ما أوقعت اليهود والمسيحيين في الارتباك. إنه يفسر علاقات الفتى والفتاة، إما تفسيرًا تاريخيًا، وإما تفسيرًا صوفيًا.. وللتفسير الصوفي أيضًا طريقان، الأول جماعي يخص الله وإسرائيل، يخص المسيح والكنيسة أو المسيح والبشرية، والثاني فردى يربط بين الله، والمسيح والنفس البشرية، لا بل بين الروح القدس ومريم العذراء، أو بين سليمان والحكمة أيضًا..
2- التفسير الليترجي:
هو صيغة أخرى للتمثيل، يرى في نشيد الأناشيد نقل شعائر دينية وثنية شرق أوسطية إكرامًا لإله يموت، وتفتش عنه في الجحيم حبيبته إلهة الحب والحروب، يمثلها الملك وعظيمة الكهنة اللذان يرمز زواجهما (الزواج المقدَّس) إلى الإتحاد ويؤدى إلى تجديد الخصب في رأس السنة. وفي هذا التفسير أيضًا إزالة للمعثرة الغرامية، إذ أن الإتحاد الجنسي لم تبق غايته في حد ذاتها، بل هي في خدمة قضية دينية. قاوم أنبياء إسرائيل هذا النوع من العبادة.. ولكن من المحتمل أن تكون هذه الليترجية قد دخلت إلى أورشليم في القرن السابع..
3- التفسير المأسوي:
يقبل ما في نشيد الأناشيد من واقع جنسي، ولكنه يتجنب ما يخشى أن يكون معثرة.. فيرى فيه وصف حب شريف تقصد به الأمانة أكثر مما يُقصد به الجنس، وأكثر من ذلك فإن في الكتاب ثلاثة أشخاص لا شخصين، بحيث إننا أمام مأساة الراعية الأمينية لراَعيها، بالرغم من سعى سليمان لخطفها منه، وبذلك يخفف من قيمة الشهوة الغرامية.
4- التفسير الطبيعي:
يرى في نشيد الأناشيد مجموعة أناشيد حب فيه بُعد واقعي أكيد، حُفظت هذه المجموعة كمجموعة على مثال مجموعات الحب المصرية القديمة أو الأناشيد الشعبية العربية، أو نُظَمت على نمط الأعراس السورية التي تجدها في أواخر القرن الماضي في عبر الأردن وفي لبنان. لا يرى بعض المفسرين في نشيد الأناشيد سوى مؤلف دنيوي (كتبرير زواج سليمان ببنت فرعون) ويذهبون إلى القول بأنه نشيد إباحي دخل قانون الكتاب المقدَّس عن طريق المصادفة. وهناك من يتكلم على معنى خُلُقي لحب شريف..
ويمكن اقتراح تفسير خامس، يأخذ بعين الاعتبار عناصر التفسيرات السابقة، فإن بعض أصحاب التفسير الرابع يرون أن نشيد الحب البشرى هذا يستعمل لغة الأنبياء في وصفهم عهد الله مع إسرائيل كأنه زواج، ويركز غيرهم على تأثير لغة الزواج المقدَّس فيه.. من المحتمل أن يكون حب نشيد الأناشيد بشريًا، جنسيًا ومقدَّسًا في آن واحد.. وبناء على هذا الافتراض، فإن نشيد الأناشيد يصف الحب البشرى كأنه غاية في حد ذاته في العمل الحسن الذي عمله الله (وفي ذلك نوع من شرح تك2: 23، 24) ولذلك فإنه يضم، عن علم واضح أو غير واضح، عناصر الزواج الوثني المقَّدس، ولكنه ينزع عنه طابع الأسطورة نزعًا تامًا.. وهكذا فإن معنى نشيد الأناشيد الروحي هو في معناه الحرفي(1).
_____
(1) الكتاب المقدْس طبعة دار المشرق بيروت سنة 1988م ص1378 – 1380.