ما مدى ارتباط سفر نشيد الأناشيد بالتصوف؟
56- ما مدى ارتباط سفر نشيد الأناشيد بالتصوف؟
ثالثا: السفر والتصوف:
ج: أتت كلمة “تصوف ” من الصوف الذي يلبسه النساك الهائمين في حب الله، والمتصوف في أي دين كان يركز كل اهتمامه في التخلص من أدران الخطية والتقرب من الله، فالتصوف يقود صاحبه إلى الحب الإلهي أو العشق الإلهي، وإذ لم يسعف النثر المتصوفون للتعبير عما يجيش في صدورهم لجأوا للشعر، والشعر الصوفي خصوصًا يتميز بكثرة التشبيهات والاستعارات والكنايات والتورية، ويدخل سفر النشيد في نطاق هذا النوع من الشعر الصوفي.
ومن المعروف أن الحب الإلهي هو أسمى وأعمق درجات الحب، حتى أنه عندما يجب شاب فتاة حبا يفوق الوصف يقول لها “معبودتي” أو “إنني أحبك حب عبادة ” فالأصل هو حب عبادة الله أو قل العبادة المملوءة حبًا، وفي المسيحية نجد الطريق للحب الإلهي مفتوحا “الله محبة” ومن المستحيل أن نجد في أي دين أو مذهب آخر اقتراب الله للإنسان والإنسان لله مثلما نجد في المسيحية، فطالما جذب الله قلوب ومشاعر وأحاسيس عشاق الحب الإلهي فسبى قلوبهم وألهب مشاعرهم وأسكر نفوسهم فانطلقت أرواحهم تحلق في سماء الحب الإلهي.. عجبا لك يا نفسي عندما تتسولين الحب من إنسان، وتستجدين الحنان وكأنك بلا إله محب حنون بلا حدود… تأمل قصيدة همسة حب لقداسة البابا شنودة الثالث:
قلبي الخفاق أضحى مضجعك في حنايا الصدر أخفى موضعك
ليس لي فكر ولا رأى ولا شهوة أخرى سوى أن أتبعك
قد نسيت الأهل والأصحاب بل قد نسيت النفس أيضًا في هواك
والذي يتابع القصيدة إلى نهايتها يدرك تشابهها مع ما جاء في سفر النشيد. أما الذين يعتبرون العبادة مجرد فروض، وهذه نقرة وتلك نقرة، ويعمل الفرض وينقب الأرض، وساعة لربك وساعة لقلبك، فمثل هؤلاء الذين تحكمهم المشاعر الجسدية الغريزية ويصعب عليهم جدا إدراك معاني سفر النشيد.
ومدارس التصوف وجدت طريقهما إلى الإسلام، فهناك المدارس الحجازية، والعراقية، والشامية، والمصرية، والسودانية، والمغربية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولكل مدرسة روادها(1) ومن المتصوفين المشهورين في الإسلام رابعة العدوية والحسين بن منصور الحلاج، ومحيي الدين ابن عربي، وعمر بن الفارض، وذي النون المصري، وقد أخذت التصوف الإسلامي من التصوف المسيحي، فيقول د. عبد الرحمن بدوى أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس، عندما نبحث عن مصدر التأثير الواعي أو اللاواعي في التصوف الإسلامي يجب أن يتجه البحث إلى التأثير المسيحي، إذ تغلب عليه هذه الفكرة، فكرة المحبة الإلهية…. إن رابعة العدوية لم تجد خلاصًا بل بالأحرى عزاءًا لها إلا في الإيمان والثقة بالله والتعزي بالآخرة، وهي ظاهرة طالما حدثت في النفوس النبيلة ونراها في الجيل الأول في المسيحية… ومن هنا تنصرف النفوس النبيلة إلى طلب الملكوت الأعلى”(2).
قارن بين هذه الأبيات لأحد المتصوفين المسلمين، وما جاء في سفر النشيد(3):
أنت سؤلي وبغيتي وسروري قد أبى القلب أن يحب سواكا
يا حبيب القلب من لي سواكا فأرحم اليوم مذنبا قد أتاكا
يا مناي وسيدي واعتمادي طال شوقي – متى يكون لقاكا
ليس سؤلي من الجنان نعيم غير إني أريدها لأراكا
وكانت رابعة العدوية تضع في حجرتها مشجبًا (شماعة) تعلق عليها أكفانها ليكون الموت أمام عينيها، وكانت دائمة البكاء، وعندما سئلت عن بكائها المستمر وهي لا تعانى ألمًا جسمانيًا قالت “واحسرتاه! العلة التي أشكوها ليس لها ما يستطيع الطبيب علاجه، إنما دواؤها الوحيد رؤية الله. وما يعينني على احتمال هذه العلى إلا رجائي أن أحقق غايتي هذه في العالم.. (ويعلق د. عبد الرحمن بدوى) ما أبدع العبارة في وصف ما تشكوه! لقد ألحت عليها الرغبة في الرؤى حتى استحالت مرضًا، مرضًا تتألم له، لأن الحب قد صار من القوة والنفوذ بحيث صارت له آثار توغل في أعماق الروح فتصيبها بالعلة من شدة الألم العالي”(4).
ويرى د. عبد الرحمن أننا نرى الخطبة والزواج الروحي في قصة رابعة فيقول “لقد بدأت رابعة تستشعر الحب لله وإنه لينمو، وتواكبه مشاعر مختلفة، لعل من بينها، ومن أقواها الشعور بأنها نذرت نفسها لهذا المحب الأسمى.. وعما قليل ستعلن خطبتها له، ولعل ذلك يفضى في النهاية إلى الزواج الروحي، بينها وبين الله.. هذا نص على أكبر درجة من الخطورة لأنه يتحدث عن وجود فكرة الزواج من الله والاقتران به لدى الصوفيات المسلمات حتى منذ القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي، وهي الفكرة التي لعبت دورا خطيرا في التصوف المسيحي…”(5).
ويقول الأستاذ مأمون الغريب عن رابعة العدوية “فإنها مستها هذه الشرارة المقدسة شرارة الإغاثة لتتجه إلى نور الهداية فإذا بها تنقاد نحو هذا النور… وتغرق فيه.. وتشدو بحبيبها الذي لا يعادله حبيب.. أنه الخالق العظيم”(6).
ومن أشعار رابعة العدوية(7):
“إني جعلتك في الفؤاد محدثي وابحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم منى للجليس مؤانسي وحبيب القلب في الفؤاد أنيسي”
فإنها تريد أن تقول إنها التصقت بالله، حتى لو جلست مع إنسان فإنها تجلس معه بالجسد فقط، أما كل مشاعرها وأحاسيسها وفؤادها فمنصرف نحو الله.
ومن الأشعار التي ذكرها د. على صافى حسين عن رابعة(8):
“يا مؤنس الأبرار في خلوتهم يا خير من حلت به النزال (المحبيين)
من ذاق حبك ما يزال متيمًا فرح الفؤاد، متيما، بلبال (مهموم)
من ذاق حبك لا يرى مبتسمًا من طول حزن في الحشا إشعال”
كما يقول د. على صافى عن العشق الإلهي لدى المتصوف المصري “وكان ذو النون المصري أول شاعر صوفي تحدث في شعره عن العشق الإلهي أو المحبة الربانية.. ولم يكن يختلف في شيء ذى بال عما كان عليه شعر الغزل بمعناه العام”(9).
ومن الأشعار التي أوردها د. على صافى شعر المتصوُف محمد الكيزاني(10):
” ولقد أودعَ الغرامُ بقلبي زفرات أضحى بها مصدوعًا
وإذا أطنب العزول فقد عاهدت سمعي ألا أكون سميعًا
وحرام على التلهف الأيريـ ح أو يحرق الحشا والضلوعا “
وأيضًا من شعر محمد الكيزاني الذي يشابه مشاعر عروس النشيد عندما قالت أنني مريضة حبًا ما يلي(11):
“أصرفوا عنى طبيبي ودعوني وحبيبي
عللوا قلبي بذكراه فقد زاد لهيبي
طاب هتكي في هواه بين واش ورقيب
لا أبالى بموت النفـــــ س مادام نصيبي
جسدي راض بقـــــ سمى وجفوني بنحيبي “
ومن شعر محيي الدين بن العربي(12):
“أدين بدين الحب أنىَ توجهتْ ركائبه فالحب ديني وإيماني”
ومن شعر عمر بن الفارض(13):
“ومن مذهبي في الحب مالي مذهبُ وإن مِلتُ يومًا عنه فارقت ملُتي
وإن خطَرَت لي من سواك إرادةُ على خاطري سهوًا قضيتَ بردُتي.
ومن المتصوفين في الإسلام “الحسين ابن منصور الحلاج ” في القرن التاسع الميلادي الذي قال ما قالته عروس النشيد:
حبي لمولاي أضناني وأسقمني فكيف أشكو إلى مولاي مولاتي؟!
يا ويح روحي من روحي، فوأسفي على َّ منى، فإني أصل بلوائي
وتلامس الحسين مع الحب الإلهي المُعلَق على الصليب، فعشق المسيحية وأحبها، وأعلن إيمانه قائلًا:
ألا أبلْغْ أحبائي بأني ركبتُ البحر وانكسرت السفينة
على دين الصليب يكون موتى فلا البطحا أريد ولا المدينة
وجاء في الموسوعة العربية الميسرة(14) بأنهم صلبوه، ثم قطعوا رأسه، ثم أحرقوه لأنه أختار دين الصليب دين الحب الإلهي.
_____
(1) راجع المذاهب الصوفية ومدارسها للأستاذ عبد الحكيم عبد الغنى قاسم.
(2) شهيدة العشق الإلهي ص 10- 12.
(3) من موقع إسلامكريستيانيتي دراسة عن سفر النشيد ص 17، 18.
(4) شهيدة العشق الإلهي ص 76.
(5) شهيدة العشق الإلهي ص 26، 27.
(6) رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي ص 5.
(7) رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي ص 52.
(8) الأدب الصوفي في مصر ص 216.
(9) الأدب الصوفي في مصر ص 221.
(10) الأديب الصوفي في مصر ص200.
(11) المرجع السابق ص214.
(12) رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي ص47.
(13) المرجع السابق ص47.
(14) الموسوعة العربية الميسرة – ص 732.