ما هو مفهوم التقليد؟ وما هي أهميته؟
50- ما هو مفهوم التقليد؟ وما هي أهميته؟
ج: ليس المقصود بالتقليد المحاكاة Imitation إنما المقصود به التسليم Tradition وهي ترجمة للكلمة اليونانية παραδόσεις بارادوسيس ‘Paradosis ” وتعنى الأمور المسلمة من يد إلى يد from hand to hand، فهي تحمل معنى العطاء أو التسليم في اليد، وعندما نقول تسلم فلان “مقاليد وظيفته ” فنحن نعنى أن هناك شخصا آخر سلمه مهام وظيفته، وأوضح له كبيعتها وحدودها وسلطاتها، وقد ترجم البروتستانت كلمة التقليد إلى تعليم Teaching كما جاء في (1كو 11: 2، 2 تس 3: 6)، والتقليد نوعان الأول تقليد رسولي وهو ما تسلمته الكنيسة من الآباء الرسل، والثاني تقليد كنسي وهو ما تسلمته الكنيسة من آباء القرون الأولى وكان سائدا ومستقرا في الكنيسة الجامعة، وقد يكون التقليد نظري تفسيري يختص بشرح الإيمان المسيحي، وقد يكون سرائري عملي يختص بالأسرار والطقوس، وشروط التقليد الصحيح أن لا يتعارض مع روح الكتاب المقدَّس، وأن يوافق تعاليم الكنيسة المقدسة الجامعة الرسولية.
والقديس إيريناؤس في القرن الثاني الميلادي كان يرى التقليد مثل نسمة الحياة التي أودعها الله في آدم الإنسان الأول، فيقول الأب جورج فلورفسكي “وكان التقليد في مفهومه (وديعة حية) أعطيت للكنيسة لتكون نسمة جديدة للحياة، مثل نسمة الحياة التي أسبغت على الإنسان الأول (3: 24)”(1) كما رأى القديس إيريناؤس أن الإكليروس هم حراس التقليد فيقول “والأساقفة أو القسوس كانوا حراسا مفوضين في الكنيسة وخداما للحقيقة التي أودعت فيها، ومن عندهم التصرف اللائق الذي لا عيب فيه، ولمن ينطقون بكلام طاهر لا غش فيه، فهؤلاء يحفظون أيضًا إيمانا هذا بالإله الواحد الذي خلق كل شيء، ويكثرون محبتنا لإبن الله الذي أتم تدبيرا عظيما كهذا من أجلنا، ويفسرون لنا الكتاب من دون خطر ولا يجدفون على الله ولا يزدرون البطاركة ولا يحتقرون الأنبياء” (4، 26، 5)(2).
والتقليد أقدم من الكتاب المقدَّس، ففي العهد القديم عرف الإنسان أمورا عديدة خاصة بعلاقته مع الله قبل أن تكون هناك شريعة مكتوبة، فعرف طقس الذبيحة والمذبح منذ أن ألبس الله قميص الجلد لآدم (تك 3: 21) وقدم هابيل من أبكار غنمه وثمانها (تك 4: 4) وقدم نوح من البهائم الطاهرة والطيور الطاهرة (تك 8: 20) وأصعد أيوب الذبائح عن أولاده (أي 1: 5) وكذلك الآباء البطاركة إبراهيم وإسحق ويعقوب. كما عرف الإنسان الكهنوت متمثلا في ملكي صادق (تك 14: 20) وتدشين بيت الله (تك 28: 16- 22) ووصية الطهارة وعدم الزنا (تك 39: 9) وتقديس يوم السبت (خر 16: 29).
وفي العهد الجديد لم يأت السيد المسيح بكتاب مكتوب، ولم يأمر تلاميذه بكتابة الإنجيل، إنما كان منهجه الأساسي هو التلمذة والتعليم، وهكذا أوصى تلاميذه “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم…. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” (مت 28: 19، 20) وبينما لم يكن هناك إنجيلا مكتوبا أوصى الرب يسوع تلاميذه قائلا “اذهبوا واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها” (مر 16: 15) فهو يقصد بلا شك الإنجيل الشفاهي الذي كان تقليدًا حينذاك.
والتقليد لا يقل في أهميته عن الإنجيل المكتوب، ولذلك يقول القديس باسيليوس الكبير “إن الاعتقادات والكرازات المحفوظة في الكنيسة، منها ما هو مأخوذ من التعليم المكتوب، ومنها ما هو قد تسلمناه مفصلًا من تقليد الرسل، وكلا الأمرين له قوة في العبادة”(3).
وقد أشار الكتاب المقدَّس مرارًا وتكرارًا للتقليد الذي تنكر له كل أرباب النقد، ومن هذه الإشارات ما يلي:
أ- “شكرا لله أنكم كنتم عبيدا للخطية ولكن أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها” (رو 6: 17).
ب- فأمدحكم أيها الأخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم” (1كو 11:2) فواضح أن التقليدات (التعاليم) شيء يسلم يدًا ليد.
ج- “وأما الأمور الباقية فعندما أجئ أرتبها” (1كو 11: 34).
د- “وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا” (في 4: 9).
هـ- “ثم نوصيكم أيها الأخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التعليم الذي أخذه منا” (2تس 3: 6).
و- “يا تيموثاوس احفظ الوديعة معرضا عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات العلم الكاذب الاسم، الذي إذا تظاهر به قوم زاغوا من جهة الإيمان” (1تى 6: 20، 21).
ز- “وما سمعته منى بشهود كثيرين أودعه أناسا أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضًا” (تى 2: 2).
ح- “وأما أنت فقد اتبعت تعليمي” (2تى 3: 10).
ط- “وأما أنت فأثبت على ما تعلمت وأيقنت عارفا ممن تعلمت” (2تى 3: 14).
ى- “إذ كان لي كثيرًا لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورق وحبر لأني أرجو أن آتى إليكم وأتكلم فما لفم يكون فرحنا كاملًا” (2يو 12).
ك- “وكان لي كثير لأكتبه لكنني لست أريد أن أكتب بحبر وقلم. ولكنني أرجو أن أراك عن قريب فنتكلم فمًا لفم” (3يو 13، 14).
وروح الله القدوس الذي أودع التقليد في الكنيسة هو الذي حفظ هذا التقليد من جيل إلى جيل، ويقول خومياكوف “لا الأفراد ولا مجموعاتهم ضمن الكنيسة حفظوا التقليد أو كتبوا أسفار الكتاب المقدس، بل روح الله الذي يحيا في جسد الكنيسة كله”(4)(5)) وقد وصلت البشارة شفاهة لشعوب عديدة، فيتحدث القديس إيريناؤس عن البرابرة الذين أمنوا مع إن الإنجيل لم يترجم إلى لغتهم فيقول “إلى أي شيء يلتجئ كثير من البرابرة الذين يؤمنون بالسيد المسيح، وقد كتب الخلاص (الإيمان) في قلوبهم بالروح وليس على ورق بحبر، حافظين التقليد بكل حرص”(6).
ويلعب التقليد دورًا هامًا جدًا في تفسير الكتاب المقدَّس تفسيرًا صحيحًا بروح الآباء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. مما يحفظ للكنيسة وحدانيتها، كما قال القديس أغسطينوس “أنا أقبل الكتاب المقدَّس مسلما من الكنيسة مشروحا بالآباء مُعاشَا في القديسين “لأنه لو تُرِك كل شخص يفسر الكتاب حسب هواه لتعددت الآراء وتضاربت بمقدار تعدد المفسرين، بل إن تفسير الكتاب منفصلا عن التقليد هو الذي أفرز الهراطقة، فالهراطقة هم الذين اعتمدوا في تفسيرهم للكتاب على العقل البشرى المنفرد بعيدا عن روح الكنيسة وفهم الكنيسة وإيمان الكنيسة، ولذلك لا توافق كنيستنا الأرثوذكسية على أن كل إنسان يفسر الكتاب بحسب هواه، وليس بحسب روح الآباء، وحسنا قال أوريجانوس إن التقليد هو مفتاح الكتاب المقدَّس “التلميذ الحقيقي ليسوع هو ذاك الذي يدخل المنزل أي يدخل الكنيسة، فإن من يدخل الكنيسة يفكر ذات فكر الكنيسة ويحيا كحياتها، بهذا يتفهم الكلمة أنه ينبغي أن نتقبل مفتاح الكتاب المقدَّس من التقليد الكنسي كما من الرب نفسه(7). ويقيم القديس أثناسيوس الحجة على خطأ تفسيرات الهراطقة لأنهم بلا آباء وبلا تقليد فيقول “لقد أقمنا البرهان على إن هذه القاعدة قد سلمت من آباء إلى آباء، يدا بيد، فأنتم (أيها الأريوسيون) بأي مؤلف تقدرون أن تستشهدوا لتعليمكم”(8). وقال القديس باسيليوس الكبير إن حذفت التقليد يشوه الكرازة بالإنجيل “إذا حاولنا أن نحذف العوائد غير المكتوبة (التقليدات) لأنه ليست بذات أهمية لا ننتبه بأننا نسئ إلى البشارة في أهم أركانها ونجعل الكرازة الإنجيلية أسماء لغير مسيحي”(9).
_____
(1) الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد ص 100.
(2) الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد ص 100.
(3) أورده القس بولا عطية في كتابه رؤية أرثوذكسية نحو الكنيسة ص 163.
(4) روسيا والكنيسة الروسية ص 198.
(5) أورده الأب جورج فلورفسكي في كتابه الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد ص 57.
(6) أورده القس بولا عطية في كتابة رؤية أرثوذكسية نحو الكنيسة ص 162.
(7) أورده القس بولا عطية في كتابه التقليد الكنسي ودوره في الكنيسة الجامعة جـ 2 ص 42.
(8) أورده القس بولا عطية في كتابه التقليد الكنسي ودوره في الكنيسة الجامعة جـ2 ص 64.
(9) ورده القس بولا عطية في كتابه التقليد الكنسي ودوره في الكنيسة الجامعة جـ 2 ص 65.