استخدام بعض المدلولات التاريخية التي يتضح منها أن التوراة كتبت بعد عصر موسى
39- قال بعض النقاد أن كاتب التوراة استخدم بعض المدلولات التاريخية التي يتضح منها أن التوراة كتبت بعد عصر موسى.. ما هي هذه المدلولات التاريخية؟ وكيف يمكن توضيح الحقيقة؟
11- مدلولات تاريخية:
ج: من أهم المدلولات الأثرية التي استدل بها أصحاب مدرسة النقد الأعلى على أن موسى النبي لم يكتب التوراة ما يلي:
وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض – عصر الملوك – هدد الأدومي – انقطاع المن – كتاب حروب يهوه – رفعة ملك إسرائيل
أ – وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض:
قال ابن عزرا أن كاتب التوراة قال ” وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض” (تك 12: 6).. ” وكان الكنعانيون والفرزيون حينئذ ساكنين في الأرض” (تك 13: 7) فقوله ” حينئذ “يدل على أن الكنعانيين والفرزيون لم يعد لهم وجود في أثناء كتابة السفر وحيث أنهم كانوا متواجدين أيام موسى، فإذًا موسى لم يكتب التوراة.
تعليق:
لم يذكر موسى صراحة أن الكنعانيين والفرزيين عند كتابته لسفر التكوين لم يعد لهم وجود، أما هذا الفكر فهو استنتاج ابن عزرا، ولماذا لا يكون قصد موسى أن الكنعانيين كان لهم تواجد قبل إبراهيم، وأن إبراهيم شاركهم السكنى، وعندما نقرأ الآية الثانية بالكامل يتضح قصد الكاتب ” فحدث مخاصمة بين رعاة مواشي ابرام ورعاة مواشي لوط. وكان الكنعانيون والفرزيون حينئذ في الأرض” (تك 13: 7) فقد قصد موسى النبي أن يظهر أنه لم يكن هناك موضع كاف لكل من أغنام إبرام ولوط، ولاسيما أن الكنعانيين والفوزيين كانوا مفتشرين في الأرض بأغنامهم.
ويرى رافين Raven بأن الكلمة ” حينئذ “في (تك 12: 1) طبيعية ولازمة، بدونها ربما يتساءل القارئ: هل كان الكنعانيون قد تركوا الأرض عند كتابة السفر؟ فتأكيد وجودهم أيام إبراهيم بالرغم من وجودهم حتى في أيام موسى يعطى للوعد قوة أعظم، إذ يهيأ لنسله بالرغم من وجودهم(1). فإن موسى ذكر هذه العبارة ليبرز وعد الله لإبراهيم بأنه سيعطيه أرض الكنعانيين هذه ” وإجتاز إبرام في الأرض.. وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لأبرام وقال لنسلك أعطى هذه الأرض” (تك 12: 7).
والذين يقولون أن التوراة كتبت بعد انقطاع الكنعانيين عن الأرض نقول لهم: وهل انقطع الكنعانيون عن الأرض؟ كلا.. كان لهم تواجد في أرضهم قبل أن يأتي إبراهيم إليهم (تك 10: 19) وكانوا موجودين في زمن إبراهيم (تك 12: 16) وفي أيام موسى (تث 20: 17) وحتى أيام داود “ثم أتوا إلى حصن صور وجميع مدن الحويين والكنعانيين” (2 صم 24: 7) وأيام سليمان “صعد فرعون ملك مصر وأخذ جازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان” (1 مل 9: 16)
وحتى بعد العودة من السبي “لم ينفصل شعب إسرائيل والكهنة واللاويين من شعوب الأراضي حسب رجاساتهم من الكنعانيين والحثيين والفرزيين واليبوسيين والعمونيين والموآبيين والمصريين والأموريين” (عز 9: 1) وحتى عندما جاء السيد المسيح التقت به المرأة الكنعانية (مت 15: 12).
ب- عصر الملوك:
قال بعض النقاد أن قول كاتب التوراة ” هؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما ملك ملك لبنى إسرائيل” (تك 36: 31) تظهر أن الكاتب كان يعيش في عصر الملوكية، أي أنه عاصر عصر الملوك الذي بدأ من شاول أول ملك لبنى إسرائيل، وبالتالي لا يكون موسى هو كاتب التوراة.
تعليق:
كتب موسى النبي هذا بروح النبوءة ومن خلال خبرته الكبيرة بشعبه، فإنه أدرك أنهم سينظرون إلى ملوك الأمم ويشتهون أن يكون لهم ملوك مثلهم، وتحقق قول موسى بعد موته بنحو أربعمائة سنة عندما اختاروا شاول بين قيس ملكًا عليهم.
وسجل موسى وعد الله لإبرام عندما قال له ” أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملًا.. وملوك منك يخرجون” (تك 17: 1، 6) وقال عن سارة ” أباركها فتكون أممًا وملوك وشعوب منها يكونون” (تك 7: 16) ووعد الله ليعقوب ” أنا الله القدير.. وملوك سيخرجون من صلبك” (تك 35: 11) وأكد يعقوب ذات الوعد لابنه يهوذا قائلًا “لا يزول قضيب من يهوذا أو مشترع من بين رجليه” (تك 49: 10) ويقول القديس أوغسطينوس “دعى اليهود هكذا (يهودًا) لأجل يهوذا أحد الاثني عشر ابنًا ليعقوب..
الذي من صلبه جاءت الملوكية.. من هذا السبط جاء الملوك، ومنه جاء ربنا يسوع المسيح(2).
ولأن موسى كان واثقًا أن الله سيحقق وعوده، لذلك وضع أسس اختيار الملوك قائلًا “متى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك وأمتلكها وسكنت فيها فإن قلت أجعل على ملكًا كجميع الأمم الذين حولي. فإنك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك. من وسط أخوتك تجعل عليك ملكًا. لا يحل لك أن تجعل عليك رجلًا أجنبيًا ليس هو أخاك.. لا يكثر له الخيل.. لا يكثر له النساء لئلا يزيغ قلبه وفضة وذهبًا لا يكثر له كثيرًا.
وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب من عند الكهنة اللاويين. فتكون معه ويقرأ فيها كل أيام حياته لكي يتعلم أن يتقى الرب إلهه..” (تث 17: 14-20).
ج- هدد الأدومي:
قالوا إن “هدد”ملك آرام الذي ذكره كاتب التوراة (تك 36: 35) كان معاصرًا لسليمان الملك (1 مل 11: 14) وهذا يثبت أن التوراة لم يكتبها موسى، إنما كتبها شخص آخر عاصر الملك سليمان أو بعد هذا التاريخ.
تعليق:
هناك شخصان باسم “هدد” والاثنان كانا ملوكًا لآرام، الأول هو ما ذكره موسى النبي ضمن ” الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما ملك ملك لبنى إسرائيل” (تك 36: 31) وكان اسمه هداد بن يداد الذي كسر مديان في بلاد مأب. وكان اسم مدينته عويت” (تك 36: 35).
أما هدد الأدومي الذي كان خصمًا لسليمان، فعندما ضرب يوآب رئيس جيش داود كل ذكر في أدوم، كان هدد غلامًا صغيرًا فهرب مع بعض الأدوميين من عبيد أبيه وجاء إلى مصر، ووجد نعمة لدى فرعون، فعاش في مصر وتزوج من أخت تحفنيس الملكة، وعندما سمع أن داود قد مات وكذلك يوأب عاد إلى بلاده وصار خصمًا لسليمان الملك (1 مل 11: 14-22).
د- انقطاع المن:
قال كاتب سفر الخروج “وأكل بنو إسرائيل المن أربعون سنة حين جاءوا إلى أرض عامرة. أكلوا المن حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان” (خر 16: 35) ومن المعروف أن المن لم ينقطع إلا في زمن يشوع بعد موت موسى، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. “فحل بنو إسرائيل في الجلجال وعملوا الفصح.. وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيرًا وفريكًا في نفس اليوم. وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض” (يش 5: 10-12) وهذا دليل على أن موسى لم يكتب هذا الجزء من سفر الخروج.
تعليق:
أعلم الله موسى عقب تذمر بني إسرائيل بأن مدة غربة الشعب في البرية ستكون أربعين سنة ” فجثثكم أنتم تسقط في هذا الفقر. وبنوكم يكونون رعاة في الفقر أربعين سنة.. كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يومًا للسنة يوم نحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي. أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة” (عد 14: 32-35) فكتب موسى بروح النبوءة عن انقطاع المن الذي سيحدث عقب دخولهم أرض كنعان، ولاسيما أ،ه كان قد استوطن شرق الأردن سبطى جاد وراوبين ونصف سبط منسى (عد 32: 33)
وقد انقطع عنهم المن بعد استيطانهم الأرض الجديدة، فعلم موسى أن ما حدث مع هؤلاء سيحدث مع أولئك أيضًا، وكان كلام الله ماثلًا أمام عينيه بأن مدة الغربة ستستغرق أربعون سنة، ولذلك أوصى هرون بالاحتفاظ بتذكار من هذا المن ” وقال موسى لهرون خذ قسطًا واحدًا واجعل فيه ملء العمر منًا وضعه أمام الرب للحفظ في أجيالكم” (خر 16: 33).
ه- كتاب حروب يهوه:
يقول بعض النقاد أن ” كتاب حروب يهوه ” كان معروفًا في عصر موسى، لذلك لم يكن هناك داعيًا أن يستشهد به الكاتب فيما يخص أرنون، لأن المعاصرين لموسى يعرفون هذه المعلومة، أما استشهاد كاتب التوراة بمثل هذا الكتاب فيدل على أن الكاتب كتب في عصر متأخر عن موسى.
تعليق:
كتاب حروب يهوه هو كتاب تاريخي كتب بصيغة الشعر، ويتضمن أخبار الحروب التي خاضها بنو إسرائيل، واستشهد موسى بهذا الكتاب عندما تكلم عن أرنون ” من هناك ارتحلوا ونزلوا في عبر أرنون الذي في البرية خارجًا عن تخم الأموريين. لأن أرنون هو تخم موآب بين موآب والأموريين. لذلك يقال في كتاب حروب الرب واهب في سوفه وأودية أرنون” (عد 21: 13، 14)
وذلك ليشجع الشعب ليس على قراءة الكتاب المقدَّس فقط بل والكتب النافعة أيضًا، ومعنى قوله ” واهب في سوفه وأودية أرنون “أي كما صنع الرب في بحر سوف ونصر شعبه سوف يصنع في أرنون، وأرنون هذه كانت حدًا لبلاد موآب (راجع نجيب جرجس – تفسير سفر العدد ص 316،317)
كما أن موسى استشهد بهذا الكتاب الذي كان معروفًا لمعاصريه لأنه يعلم أنه لا يكتب لهذا الجيل فقط، إنما للأجيال القادمة أيضًا، وأيضًا استشهاد موسى بهذا الكتاب الذي كان معروفًا في عصره لا يؤخذ دليلًا على أن موسى لم يكتب التوراة، بل بالعكس أن هذا دليل على أن موسى هو كاتب التوراة.
و- رفعة ملك إسرائيل:
تكلم كاتب سفر العدد على لسان بلعام عن الانتصار الذي سيحرزه ملك إسرائيل ” ويتسامى ملكة على أجاج وترتفع مملكته” (عد 24: 7) فقال أصحاب النقد إذًا لا بُد أن الكاتب قد عاصر على الأقل ملك شاول على بني إسرائيل.
تعليق:
ما نطق به بلعام كان بروح النبوءة ” فكان عليه روح الله. فنطق بمثله وقال..” (عد 24: 2،3) و” أجاج ” هو اسم عام لملوك عماليق مثل اسم فرعون بالنسبة لملوك مصر، فمعنى نبوءة بلعام أن قائد أو ملك بني إسرائيل سيكون له الرفعة على ملك عماليق، وهذا ما حدث إذ انتصر موسى على عماليق في رفيديم، وقال الرب لموسى أنه سيمحو ذكر عماليق من تحت السماء، وقال موسى للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور (خر 17: 8-16)
وكان موسى بوضعه قائدًا ومشرعًا وقاضيًا كأنه كان ملكًا لبنى إسرائيل لذلك قال بلعام في موقف آخر عن شعب إسرائيل “الرب إلهه معه. وهتاف ملك فيه” (عد 23: 31) واستمرت الحرب بين عماليق وشعب الله، ففي أيام شاول ” ضرب شاول عماليق.. وأمسك أجاج ملك عماليق حيًا” (1صم 15: 7،8) وفي أيام داود انتصر عليهم (1 صم 30: 1-20) وقد رفع الرب ملك داود ” وعلم داود أن الرب أثبته ملكًا على إسرائيل وأنه قد رفع ملكه من أجل شعبه إسرائيل” (2 صم 5: 12).
_____
(1) راجع القمص تادرس يعقوب – تفسير سفر التكوين ص 24.
(2) القمص تادرس يعقوب – تفسير سفر التكوين ص 278.