كيف برزت للوجود مدرسة النقد الأعلى؟
7- كيف برزت للوجود مدرسة النقد الأعلى؟
ج: اهتمت مدرسة النقد الأعلى بالنقد السلبي للكتاب المقدس، أي “نقض ” الكتاب وما جاء فيه، فأنكرت الوحي الإلهي، وأنكرت المعجزات، وطوحت بالتقليد، واعتمدت كلية على العقل والدراسات الأثرية في تفسير الكتاب وتواريخه وأحداثه.
وظهرت جذور هذه المدرسة في شكل أسئلة فردية أو آراء فردية طرحها البعض، مثلما قال “يوليوس الأفريقي ” أن قصة سوسنا لا تتبع سفر دانيال لأنها كُتبت باليونانية، بينما كُتب سفر دانيال بالعبري الآرامي، وقال “ثيؤدور الموبسيستي” معلم نسطور في القرن الخامس الميلادي بأن سفر النشيد شعر رومانسي ذات معنى جنسي، وأنكر “هوغ فيكتور” في القرن الثاني عشر نسبة سفر الحكمة لسليمان الحكيم…
وقال إسحاق بن يشويش الطبيب الخاص لحاكم الأندلس المسلم في القرن الحادي عشر أن بقائمة ملوك أدوم التي ذكرها موسى بعض هؤلاء الملوك (مثل هدد الأدومي) الذين عاشوا بعد عصر موسى، فردَّ عليه “ابراهام بن عزرا ” وقال إن كتابه يستحق الحرق ودعاه بإسحاق الأخرق، وابراهام بن عزرا Ibn Ezra هذا الذي ردَّ على إسحاق بن يشويش كان أول من شكّك في نسبة بعض الأجزاء من التوراة لموسى النبي سنة 1167 م عندما علق على قول موسى النبي في سفر التكوين “واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة ممرا.
وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض” (تك 12: 6) فقال أن قول موسى (وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض) يعني أنهم لم يعد لهم وجود أثناء كتابة هذا الحدث، فالكاتب يتحدث عن طرد الكنعانيين كحدث ماضٍ، وبما إن الكنعانيين كانوا متواجدين أثناء حياة موسى، إذًا موسى لم يكتب بعض الأجزاء من سفر التكوين ولا بعض الأجزاء من بقية الأسفار الخمسة، وادعى ابن عزرا إن اللغة التي كُتبت بها التوراة لم تكن سائدة في عصر موسى، ولكن ابن عزرا هذا لم يجرؤ على إعلان آراءه هذه صراحة بل إكتفى بالتلميح وقال “ولو فهمت ستدرك الحقيقة…
والفاهم يلزم الصمت”(1).
وأخذ الحاخام “يوسف بن أليعازر بونفليس ” في القرن الرابع عشر بدمشق بقول بن عزرا، ولكنه لم يلتزم الصمت، بل أعلنه كتابًة فقال معلّقًا على (تك 12: 6) “هذا برهان على إن هذه الفترة دُونت في التوراة في عصر متأخر ولم يكتبها موسى، وإن كان الكاتب الحقيقي لها هو أحد الأنبياء المتأخرين”(2)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولم يتنكر يوسف هذا الذي لُقّب بالولد الطيب لقداسة النص الوارد في التوراة.
وفي القرن الخامس عشر الميلادي قال “ألونسو توستارو” أسقف أفيلا بأسبانيا بأن الذي سجل خبر وفاة موسى هو تلميذه يشوع بن نون، فقال “كارل شتات ” Carlstadt المعاصر لمارتن لوثر في القرن السادس عشر إن قصة وفاة موسى كُتبت بأسلوب مماثل للفقرات التي سبقتها، ولذلك يصعب قبول أن يشوع هو الذي كتب هذه الجزئية، وهو بهذا يريد أن يقول إن كاتب هذه الجزئية وما سبقها أيضًا شخص آخر غير موسى النبي.
وفي القرن السادس عشر أيضًا قال “أندرياس فان ماس ” الكاثوليكي المذهب إن موسى هو كاتب التوراة، ثم جاء مُحرّر آخر وأضاف بعض الفقرات وغيِّر بعض الأسماء لكيما توافق عصره، وقام أندرياس مع “بنديكت بربارة ” و”جاك بونفرد ” بفصل النص الأصلي الذي كتبه موسى عن بقية الفقرات التي لم يكتبها، وذلك بحسب تصورهم الخاطئ.
وفي القرن السابع عشر سنة 1651 م رأى الفيلسوف البريطاني “توماس هوبز ” Thomas Hobbes (1588- 1679 م) إن قول كاتب التوراة “حتى هذا اليوم ” لا تعبر عن أمور حديثة راهنة، إنما تعبر عن أحداث حدثت في الماضي وما زالت قائمة منذ حدوثها وحتى هذا اليوم، ولذلك ادّعى إن أسفار موسى الخمسة مع أسفار الملوك من وضع عزرا الكاتب، وقال هوبز أنه يجب أن نستنتج اسم الكاتب وتاريخ السفر من السفر نفسه.
وفي عام 1670م نشر “باروخ سبينوزا” Benedict Spinoza (1632- 1677 م) تحليلًا نقديًا في هولندا وقال لو كان موسى هو كاتب التوراة ما كان يمتدح نفسه (سيتم الرد على هذا الإدعاء في حينه) وأيضًا قال إن كاتب التوراة “ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى ” دليل على إن الكاتب قد عاين أنبياء آخرين وقارن بينهم، وبالتالي فالكاتب ليس هو موسى النبي..
ولم يدرك سبينوزا إن هذه العبارة وردت في الإصحاح الأخير من سفر التثنية الذي كتبه يشوع بن نون، وأدرك بالروح القدس بأنه لن يقوم نبيًا مثل موسى قط، وذكر السبب في نفس الآية، وهو إن الله كان يكلمه وجهًا لوجه “ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه” (تث 34: 10) وفعلًا تحقق كلام يشوع، وبعد أن ذكر عدة اعتراضات أخرى قال “إن الأمر واضح وضوح الشمس وقت الظهيرة وهو إن أسفار التوراة الخمسة لم يكتبها موسى، بل كتبها شخص ما عاش بعده بسنوات طويلة”(4) …
واعتبر سبينوزا أن الأسفار من التكوين حتى الملوك قد تكون تكملة متأخرة لعزرا الكاتب أُضيفت في وقت لاحق، وقال أنه لم يكن هناك إعلان إلهي خاص بإسرائيل، ولكن الطبيعة هي المظهر الوحيد للوجود الإلهي، أي أنه أنكر الوحي والمعجزات.
وربما تكون أعظم أعمال وفي نفس الوقت أكبر أخطاء سبينوزا هي نشر أفكار ابن عزرا، وراشي (الحاخام شلومو يتسحاقي) باللغة اللاتينية العالمية، وقد صادرت المحكمة العليا في هولندا كل من أعمال سبينوزا وهوبز(3).
وتعرض سبينوزا للطرد من الطائفة اليهودية، كما إن آراءه لم تجد قبولًا لدى المسيحيين سواء الكاثوليك أو البروتستانت، وضُم كتابه إلى قائمة الكتب المُحرَّمة لدى الكاثوليك، قد صدر ضده 37 قرار إدانة خلال ست سنوات كما جرت عدة محاولات لاغتياله (راجع ريتشارد فريدمان- من كتب التوراة؟ ص 20).
وفي سنة 1678 م رفض “ريتشارد سيمون ” Richarad Simon (1638- 1712 م) آراء سبينوزا مؤكدًا أن موسى هو كاتب التوراة، ولكن جاء بعده بعض الأنبياء الذين جمعوا المخطوطات وأضافوا لها بعض الفقرات، ولأنهم أنبياء مُلهمين بالروح القدس فإن هذا لا يقلل من قدسية النص. أو بمعنى آخر قال سيمون أن الأسفار الخمسة الأولى كتبها إنسان آخر غير موسى، ولكنه استعان بمذكرات موسى مع مصادر أخرى، وأن الكتب التاريخية في العهد القديم هي نتاج تجميع متدرج ومتوالي للنصوص.
وقد تم إعادة صياغة لهذه النصوص المجمَّعة في عصور متأخرة، وكان سيمون بروتستانتيًا من فرنسا، وتحوَّل إلى قس كاثوليكي، ولكن نتيجة أقواله هذه أنه طُرد من الكنيسة الكاثوليكية وضُمت كتبه إلى قائمة الكتب المحظورة، كما وجه له رجال البروستانت أربعين نقدًا..
وكان سيمون قد وضع كتابًا من ثلاثة أجزاء باسم “تاريخ العهد القديم النقدي” Histoire Critique du Vieux Testament وذكر فيه الأسباب التي تدعو للاعتقاد بأن موسى ليس هو المؤلف الوحيد للتوراة، وهذه الأسباب تتمثل في الصعوبات التاريخية، والتكرار، واختلال التتابع الروائي، واختلاف الأسلوب بين فقرات التوراة (سيتم التعرض لهذه الأمور والرد عليها في حينه).
وأكد ريتشارد أن موسى لم يكتب سوى سفر التكوين والأجزاء التشريعية من التوراة (راجع الأب أنطون نجيب- رسالة صديق الكاهن- يونيو 1971 م) وقام سيمون بطبع 1300 نسخة من كتابه هذا أُحرقت تقريبًا بالكامل، ولكن نجت نسخة نُقلت إلى “أمستردام ” فأُعيد طبعها عدة مرات، وتناول سيمون في الجزء الأول من كتابه تاريخ النص العبري، وافترض أنه كان هناك مجمعًا من الكتبة قد قام بتجميع الأجزاء المتوفرة من النصوص وصياغتها في أسفار، واستمر عملهم هذا حتى زمن عزرا حتى اكتملت الأسفار، وأشار سيمون إلى اختلاف الأسلوب في قصتي الخلق والطوفان، وفي الجزء الثاني من كتابه بحث سيمون في تاريخ الطبعات المختلفة في العهد القديم، وصرَّح بعدم قناعته بالنسخة اللاتينية “الفولجاتل” وتناول في الجزء الثالث تاريخ الشروح والتفاسير، وعندما قام “جون هامفدن ” بترجمة كتاب سيمون من الفرنسية للإنجليزية موافقًا على آرائه سنة 1688 قُبض على جون وسُجن في سجن القلعة في لندن، ولم يخرج منها إلَا بعد أن أعلن ندمه على ما فعله.
وفي القرن الثامن عشر تُرجمت أعمال سيمون إلى اللغة الألمانية، وقد ركز سيمون على التقليد الكتابي أي تسليم النص الأدبي والقصص الكتابيَّة من جيل إلى جيل، وهذا ما لم يجد قبولًا في الوسط البروتستانتي، وبعد نحو قرن من الزمن سنة 1776 م تم الاعتراف بريتشارد سيمون على أنه أبو النقد الكتابي.
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر برز “جان استروك” Jean Astruc الطبيب الفرنسي، و”ألكسندر جيدس” الكاهن الكاثوليكي الاسكتلندي، و”ايخهورن” الألماني.. إلخ. كما سنرى ذلك بالتفصيل، ونستطيع أن نقول أن النقد الأعلى قد بدأ على يد أشخاص غير محترفين في عملية الشرح والنقد مثل الدبلوماسي “جروتيس”، والفلاسفة “توماس هوبز ” و”سبينوزا ” والطبيب “جان استروك”، وقد شهد القرن الثامن عشر إقرار حق النقد الحر للكتاب المقدس، وفي خلال القرن التاسع عشر كان التركيز على المصادر المتعددة التي أُخذت منها الأسفار المقدسة، وفي النصف الأول من القرن العشرين كان التركيز على أساليب الكتابة والاستنتاجات المؤدية لها، أي “النقد التركيبي” وقد أُتخذ هذا الاسم سنة 1919 م، ويعتبر “هرمان جنكل” (1862- 1932 م) أول من أدخل هذا النوع من النقد عندما اكتشف أن هناك مقاطع أدبية متشابهة من جهة التركيب والأسلوب ومتكررة، فقام بتحديد “الأشكال الأدبية ” كما توجد في العهد القديم وبمساعدة الخيال الاجتماعي أعاد تكوين صورة الحياة الحقيقية التي خرجت منها هذه الأدبيات، فأُعتبرت تعليقاته على سفر التكوين إضافة أساسية للشروح المتعلقة به، واشتهر أكثر بعمله في سفر المزامير(5).
ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن المقصود بالتوراة هي أسفار موسى الخمسة وهي:
1-سفر التكوين: ويحدثنا عن أصل الكون والبشرية، ويروي لنا قصص الآباء البطاركة الأولين إبراهيم وإسحق ويعقوب، وينتهي باستقرار يوسف في مصر ومجيء أبيه يعقوب وأخوته إليه.
2-سفر الخروج: ويُظهر استعباد العبرانيين بيد المصريين، ومحاولات موسى للخروج بالشعب من أرض مصر، والضربات العشر التي أصابت المصريين، وخروج بني إسرائيل بقيادة موسى، والرحلة في برية سيناء، وعهد الله مع شعبه على الجبل، وبناء خيمة الاجتماع.
3-سفر اللاويين: ويشمل مجموعة الشرائع وطقوس العبادة.
4-سفر العدد: ويحدثنا عن إحصاء شعب الله في سيناء، ويذكر المحطات التي مرَّ بها هذا الشعب والحروب التي قادتهم إلى سهول موآب، والتنظيمات الجديدة.
5-سفر التثنية: ويُعتبر الخطاب الوداعي لموسى النبي في الشهر الأخير من حياته والذي ألقاه في سهول موآب، ويشمل قسمين (تث 1- 11) ، (تث 27- 30) وبينهما دستور تشريعي ديني ومدني (تث 12- 16) وينتهي السفر بموت موسى النبي.
_____
(1) ريتشارد أليوت فريدمان- من كتب التوراة؟- ترجمة عمرو زكريا ص 18.
(2) المرجع السابق ص 18.
(3) DICTIONARY OF THE BIBLE- EDITED BY JAMES HASTINGS. P191, CRITICISM BIBLICAL.
(4) ريتشارد إليوت فريدمان- من كتب التوراة؟- ترجمة عمرو زكريا ص 20.
(5) A NEW CATHOLIC COMMENTARY ON HOLY SCRIPTUER. P 120 + DICTIONARY OF THE BIBLE- JAMES HASTINGS. P 191.