Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الأدلة الدامغة على ضلال مدرسة الإلحاديين

الأدلة الدامغة على ضلال مدرسة الإلحاديين

الأدلة الدامغة على ضلال مدرسة الإلحاديين

 

6- ما هي الأدلة الدامغة على ضلال مدرسة الإلحاديّين؟

ج: كثيرة هي الأدلة الدامغة على ضلال الإلحاد ومدرسته، فالكون يشهد بوجود الله، وكذلك الإنسان في تكوينه، والمادة ليست أزلية، ووجود الحياة والموت والعقل والضمير والخيال والعواطف يكذّب أن الإنسان مجرد مجموعة مواد لا غير، وعدم إدراك الله بالحواس لا يعنى عدم وجوده، بل إن هناك شعورًا خفيًا بوجود الله، ووجود الله لا يلغى وجود ولا كرامة الإنسان، أما الكتاب المقدَّس فهو كتاب الله المُوحى به من أجل حياة أفضل للإنسان والذين يؤمنون به تؤيدهم السماء بالمعجزات. فهم أعظم شاهد عملي لوجود الله:

أ- الكون يشهد بوجود الله
ب- تكوين الإنسان يشهد بوجود الله
ج- المادة ليست أزلية
د- كيف تفسر الحياة والموت والعقل والضمير والخيال والغرائز والعواطف وما بعد الموت؟
ه- عدم إدراك الله بالحواس لا يعني عدم وجوده
و- الشعور الداخلى بوجود الله
ز- وجود الله لا يلغى وجود ولا كرامة الإنسان
ح- الكتاب المقدس
ط- وصايا الإنجيل
ى- صلابة الإيمان

أ- الكون يشهد بوجود الله:

لكل صنعة صانع، ولكل جبلة جابل، ولكل خلقة خالق، ولكل متحرّك مُحرّك، ولكل معلول علة، فمن هو خالق هذا الكون العجيب بهذه الدقة المتناهية؟ وقال أفلاطون “إن كل حادث له سبب أحدثه ولا يُعقَل حدوث شيء بلا سبب، ومن المعلوم بالضرورة أن العالم (المحسوس) حادث.. وكل ما هو محسوس يمكن إدراكه بواسطة الحواس فهو حادث ومصنوع، أما الذي أحدث هذا العالم فلابد أن يكون كائناَّ عالي العظمة فائق الَجبروت سامي الحكمة.. ذا قوة لا تضعف وإرادة مطلقة وحكمة لا تستقصى”(1)، وإن كان لكل متحرّك مُحرّك، فعند تتبع الحركة لن نصل إلى ما لا نهاية، إنما سنتوقف عند مُحرّك أو ثابت لا يحركه أحد، وهذا هو الله، وإن كان لكل معلول علة، فعند تتبع التسلسل لن نصل إلى ما لا نهاية، إنما سنتوقف عند العلة الأولى، والعلة الأولى هي الله.

وإن كان من المستحيل أن نجد عمارة ضخمة وليدة الصدفة، لأنه لا بد من وجود مهندس قام بالتصميم، وآخر قام بالإشراف على التنفيذ، مع عدد ليس بقليل من العمال المهرة ذوي التخصصات المختلفة قد قاموا بأعمال الأساسات، والخرسانات، والمباني، والكهرباء، والسباكة، والسيراميك، والنجارة، والطلاء، والديكورات، والتأثيث… إلخ.، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأيضًا من المستحيل أن ترى طائرة تسبح في الهواء فنقول أنها وليدة الصدفة، وإن كنا من الممكن أن نتعرف على الفنان من خلال أعماله الفنية، فهكذا ندرك بسهولة ويسر وجود الله من خلال مخلوقاته، فالطبيعة الخلابة والكون الفسيح والفضاء الشاسع ونظامه العجيب في الربط بين الشموس والكواكب والنجوم، مع العدد الضخم من المجرات.. كل هذا ألا يخبرنا عن الله الخالق ضابط الكل..؟!! حقًا قال الكتاب لمن يعقلون وليس لمن طمس الشيطان بصيرتهم “السموات تحدث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه” (مز 19: 1). ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم “لو كان الله أعلمنا ذاته من خلال كتب وحروف فقط، لصار الذين يعرفونه هم المثقفون فقط، ولكنه أعلمنا ذاته من خلال الطبيعة أيضًا، ليعرفه الجميع”(2). وقال أحد الفلاسفة إن الكون هو كتاب اللاهوت الذي قرأه الفلاسفة فكان لهم إنجيلًا، وهو مرآة الله التي نظروا بها صورته الجميلة(31). ولذلك كان الآباء يُدرّسون علم الفلك في الكليات اللاهوتية، لأنه دليل قوي على وجود الخالق ضابط الكل.

حقًا إن الكون العجيب الذي نعيش فيه يخبرنا بدقة عن وجود الله، فالأرض التي تدور حول محورها بسرعة 1000 ميل/ ساعة لو انخفضت سرعتها إلى 100 ميل/ ساعة لأصبح الليل والنهار عشرة أضعاف، أي لصار النهار 240 ساعة وكذلك الليل، ويترتب على هذا احتراق النباتات التي تتعرض للشمس طوال هذا الوقت، وتجمد الكائنات التي تجوز هذا الليل الطويل. أما لو اقتربت الشمس التي تصل حرارتها إلى 12000 درجة إلى الأرض أكثر من هذا لاحترقت كل الخلائق التي تدب على الأرض والنباتات وتلاشت الحياة تمامًا، ولو بعدت الشمس عن الأرض أكثر من هذا لغطى الجليد سطح الأرض ولاستحالت الحياة. وإذا اقترب القمر منا حتى صارت المسافة 50 ألف ميل لغرقت أرضنا مرتين كل يوم بفعل المد والجذر، ولو انحرفت الأرض والقمر عن الشمس لأدى ذلك لارتفاع درجات الحرارة حتى إن جزءًا من الأرض قد يحترق، وآخر يغرق، وثالث يتجمد، ولو إن المحيطات كانت أعمق من مستواها الحالي لامتصت ثاني أكسيد الكربون والأكسجين، وهلم جرا.. أليس هذا دليل فيه الكفاية على وجود مهندس الكون الأعظم؟!

ويقول نيافة المتنيح الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي “نظرة أخرى إلى النجوم والكواكب والأقمار بل وإلى المجرات في السماء والتي تجمع ملايين الملايين من النجوم في كون مهول جبار.. من الصانع لهذا كله..؟! وهل يمكن لعقل بشري أن يتصوَّر أن هذا صنع نفسه من غير صانع..؟ أو قد صنعته الصدفة العمياء؟ هل يمكن لعقل أن يتصوَّر شيئًا من هذا القبيل ولو كان حلمًا من أحلام الخيال. لقد صدق القديس أغسطينوس إذ قال في اعترافاته “سألتُ الأرض فقالت لي: لستُ إلهك، وكذلك أجابني كل حي على سطحها، سألت البحر وأغواره والكائنات الحيَّة التي تسرح فيه وتمرح، فأجابتني: لسنا نحن إلهك، فاسأل عنه ما فوقنا، وسألتُ الرياح العاتية.. سألتُ السماء والشمس والقمر والنجوم فأجابت كلها: لسنا نحن أيضًا الإله الذي تبحث عنه. إذ ذاك قلتُ للكائنات كلها التي تحيط بأبواب حواسي: حدثيني عن إلهي طالما لستِ إلهي. قولي لي شيئًا عنه، فهتفت جميعها بصوت عالٍ: هو الذي خلقنا”(3).

وعندما قال “جاجارين ” أول عالم فضاء روسي هبط على سطح القمر إنني جلت في الفضاء بحثًا عن الله فلم أجده، في الحقيقة هو لم يعمل فكره، بينما عالم الفضاء الأمريكي “نل هارمسترونج” أول رائد فضاء هبط على سطح القمر قال لقد رأيت الله من خلال مصنوعاته، وكان العالم الشهير “نيوتن ” يسير حاسر الرأس، وعندما سألوه عن السبب قال: إجلالًا وتوقيرًا لخالق الطبيعة.. حقًا قال أيوب الصديق في القديم “فاسأل البهائم فتعلمك وطيور السماء فتخبرك. أو كلّم الأرض فتعلمك ويحدثك سمك البحر. من لا يعلم من كل هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا؟!! الذي بيده نفس كل حي وروح كل بشر” (أي 12: 7- 10). وقال معلمنا بولس الرسول “لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى إنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجّدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبيُّ. وبينما هم يزعمون إنهم حكماء صاروا جهلاء” (رو 1: 20- 22).

وقال إسحق نيوتن “إني رأيت الله في أعمال ونواميس الطبيعة التي تؤكد وجود حكمة وقوة لا تختلط بالمادة”(4). كما قال أيضًا “لا تشكُّوا في الخالق، فإنه مما لا يُعقل أن تكون الضرورة وحدها هي قاعدة الوجود. لأن ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان وزمان، لا يُعقل أن يصدر عنها هذا التنوع في الكائنات ولا في الوجود كله، بما فيه من ترتيب أجزاءه وتناسبها مع تغييرات الأزمنة والأمكنة. بل إن كل هذا لا يُعقل إن كان لا يصدر إلاّ من كائن لما له من حكمة وإرادة”(5).

والعالم الأمريكي “إديسون ” Edison (1847- 1931م) الذي اخترع المصباح الكهربائي عندما زار المهندس الفرنسي “إيفل” Eiffel الذي صمم برج إيفل بباريس كتب في السجل الذهبي يقول “إلى السيد إيفل، من إديسون الذي يكن أعمق احترام وإعجاب للمهندسين جميعًا، وعلى رأسهم المهندس الأعظم (الله)”(6).

والعالم الإيطالي “ماركوني” Marconi (1874- 1937م) مخترع اللاسلكي يقول “إن كل رجل علم يعلم تمامًا أن هناك أسرارًا لا تقبل الحل، والإيمان بوجود كائن أسمى يقف منه موقف الطاعة والاحترام، إنما هو وحده الذي يحفزنا إلى دراسة أسرار الحياة بقوة وشجاعة”(7).

والعالم الألماني “أينشتين ” Einstein (1879- 1955م) الذي وضع نظرية النسبية ونظرية المغناطيسية الكهربائية قال “إن العقل البشري مهما بلغ من عظيم التدريب وسمو التفكير عاجز عن الإحاطة بالكون، فنحن أشبه الأشياء بطفل دخل مكتبة كبيرة ارتفعت كتبها حتى السقف، فغطت جدرانها. وهي مكتوبة بلغات كثيرة، فالطفل يعلم أنه لا بد أن يكون هناك شخص قد كتب تلك الكتب، ولكنه لا يعرف من كتبها، ولا كيف كانت كتابته لها، وهو لا يفهم اللغات التي كُتبت بها. ثم إن الطفل يلاحظ أن هناك طريقة معينة في ترتيب الكتب ونظامًا خفيًا لا يدركه هو، ولكنه يعلم بوجود علمًا مبهمًا، وهذا على ما أرى موقف العقل الإنساني من الله مهما بلغ ذلك العقل من السمو والعظمة والتثقيف العالي”(8).

والعالم الإنجليزي “أدينجتون” Eddington الذي درس أحوال النجوم قال “إنني لأعلم حق العلم إن الله موجود، كما أعلم تمامًا إن أصدقائي موجودون. فلست بحاجة إلى إثبات وجوده بقدر ما أنا في غير حاجة إلى إثبات وجودهم”(9).

وعالم الحيوان “فابر ” Fabre قال “إن ثمة عقلًا لا متناهيًا يحكم العالم، وكلما أمعنت النظر، استطعت أن أبصر ذلك العقل الذي يشع خلف أسرار الأشياء. إنني أعلم أن البعض قد يجد في هذا القول مدعاة للسخرية، ولكن هذا لا يعنيني في كثير أو قليل.. لن تستطيعوا أن تنزعوا من عقلي إيماني بالله، استغفر الله، فإنني لا أؤمن بالله بل أنا أراه”(10).

وكان المسيحيون في رومانيا الشيوعية يتحدثون عن وجود الله بطريقة بسيطة فيقولون “لنفرض أنك دُعيت إلى وليمة تحتوي على جميع أنواع الأطعمة اللذيذة، فهل تصدق أنه لم يوجد أي طاه لهذه الأطعمة؟ فالطبيعة هي وليمة هُيئت لأجلنا.. فمن هو الذي هيأ كل هذه الأشياء للناس؟ فالطبيعة عمياء، وإن كنت لا تؤمن بوجود الله، فكيف نستطيع إذًا أن تفسر أن الطبيعة العمياء قد نجحت في تهيئة جميع ما نحتاجه نحن من هذه الأشياء المتعددة المتنوعة”(11). وفي إحدى المرات مرّ أحد المسيحيين مع شخص ملحد على الطبيعة الخلابة من نهر وأشجار وحيوانات، فسأل المسيحي: من خلق كل هذا؟

الملحد: لا تضايقني بحديثك السخيف عن الله.. إنها وليدة الصدفة.

وبعد عدة أيام زار الأخ الملحد صديقه المسيحي، وإذ رأى لوحة فنية أعجبته سأل: من رسم هذا اللوحة؟

المسيحي: أتريد أن تدخلني في حديث ديني سخيف.. إنها وليدة الصدفة، فالصدفة هي التي جاءت باللوحة وأسستها بالبطانة، وأحضرت مواد التلوين، ورسمتها، وأيضًا وضعتها على الجدار.

فتضايق الملحد، فقال له صديقه المسيحي: إن كنت تعتقد أن الطبيعة الخلابة التي تفوق هذا “التابلوه” آلاف المرات هي وليدة الصدفة، فلماذا لا تصدق أن تكون هذا اللوحة أيضًا وليدة الصدفة..؟! حقًا صدق أفلاطون عندما قال “إن العالم آية فنية غاية في الجمال ولا يمكن أن يكون ما فيه من نظام نتيجة الصدفة. بل لا بد من وجود عقل كامل ومهندس أزلي صنع كل شيء ورتبه بقصد”(12).

ب- تكوين الإنسان يشهد بوجود الله:

الإنسان هو عالم صغير، وأجهزة الجسم تشهد بقوة على وجود خالق قدير قوي حكيم عظيم، ولذلك فإن علم التشريح يعطي فرصة للإنسان للتلامس مع مقدرة الله وحكمته وقال أحد الفلاسفة “كلما تقدم علم التشريح إزداد الإنسان إيمانًا بالله”(13). وأفقر إنسان في الوجود يمتلك نحو 45 مليونًا من الدولارات الأمريكية، هي قيمة أعضاء جسده التي وهبها الله له. بل إن إبهام اليد يشهد بوجود الخالق وعظمته، فبصمة الإنسان التي تختلف عن بصمات الملايين من البشر تحدثنا عن قدرة الله الغير محدودة.

ويقول نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي “لو أنه (الإنسان) تأمل ذاته، ونظر إلى أي عضو من أعضاء جسده، ونظر إلى تركيبه وعمله ووظيفته لهاله الأمر، وأدركه الذهول من روعة التركيب وحكمته. أنظر إلى عين الإنسان وتركيبها من مقلة تحميها، ومن قزحية وقرنية وعدسة وشبكية وعصب بصري.. إلى غير ذلك من أجزاء وجزيئات وما بها من أهداب وشعيرات وشرايين وأوردة فضلًا عن العضلات والأنسجة والغدد.. ولكل جزء منها وظيفة وعمل واختصاص، وتتعاون كلها ويكمل بعضها عمل بعض بصورة عجيبة..

وما نقوله عن العين نقوله عن القلب، هذا العضو العجيب الذي يعمل بلا توقف ليلًا ونهارًا، وينبض سبعين مرة في الدقيقة الواحدة، ولا يستريح لحظة واحدة عن العمل المتواصل.. أرني آلة صنعها الإنسان يمكن أن تعمل بلا توقف وبلا راحة كما يعمل القلب، وهو يحمل عبء الجسم كله.. ولا يقتصر عمله على بيولوجيا الجسم بل إنه أيضًا مركز العواطف من حب وكراهية، ومركز الانفعالات السارة والحزينة من فرح إلى حزن وهم إلى خوف وخجل وحماس ويأس.. وما قلناه عن العين والقلب نقوله عن المخ، هذا العضو العجيب حقًا الذي يتقبل إشارات

ويرسل إشارات غيرها، يستقبل ويصدر، ويحكم جميع أجهزة الجسم وعلى رأسها الجهاز العصبي.. ثم هو يتقبل المعارف والخبرات ويرتبها ويصنفها ويحتجزها للانتفاع بها في مستقبل الأيام. فكيف يختزن المعرفة على تنوعها في كافة ميادين العلم وتشعباته وفروعه؟! وكيف يحتفظ باللغات ومفرداتها وقواعدها وأساليبها..؟ وكيف لا تختلط هذه المعلومات ببعضها؟ وكيف يخرجها عند الاقتضاء واضحة متميزة مستقلة عن بعضها؟ وكيف مع ذلك يمكنه أن يقارن بينها ويوازن بينها ويوفق بينها ويعارض بينها وينقدها ويفحصها ويحكم على صدقها أو على زيفها؟ فكيف عند اللزوم يجمع بينها حين يحاضر أو يتحدث أو يكتب كتابًا أو يحرر مقالًا أو بحثًا مستعينًا بها كما يشاء مثله في ذلك مثل الطباخ الذي يجمع ما يلزمه من مواد مختلفة ليصنع من مجموعها معًا، وبمقاييس مضبوطة، طبخة شهية! ما هذه الآلة العجيبة التي تسمى المخ؟ ومنْ من العلماء يمكنه أن يصنع مثلها أو يركِّب نظيرها؟

فإذا قالوا لقد صنع الإنسان العقل الإلكتروني، قلنا أولًا إن العقل الإلكتروني ليس على نظير المخ البشري أنه آلة حاسبة تعمل بشرط أن تقدم لها مادة أو مجموعة مواد.. ثم هذا الحاسب الإلكتروني لم يصنع نفسه، وإنما صنعه صانع وهو الإنسان. وهذا دليل على أنه حتى الحاسب الإلكتروني لا بد أن يكون له صانع عقل، فكم وكم يجب أن يكون للمخ البشري صانع، والمخ البشري معجزة لا يُقاس بإزائها الحاسب الإلكتروني..

زد على ذلك سر الحياة نفسها وسر النمو والتكيف والتغذية وتمثيل الغذاء واحتراقه.. وبالإجمال كل شيء في الإنسان جسمًا ونفسًا وعقلًا وروحًا ينطق بأدلة صارخة على وجود الله.. وإذا قلنا هذا عن الإنسان فنقول مثله بالنسبة للحيوان، خذ مثلًا البيضة المُلَقحة التي يخرج منها بعد قليل كتكوت صغير يتحرك بالحياة وينبض بالوجود. كيف لبيضة بها صفار وبياض يخرج منها كائن حي هو الكتكوت له عينان وأذنان وجناحان ورجلان ومنقار وعضلات وغضاريف وغدد، وله معدة وكبد وأمعاء، وله جهاز عصبي وغيره عضلي وغدّي ودموي وتنفسي وبولي وتناسلي..؟ وكيف له ريش متنوع وملون بحسب صنفه وجنسه ونوعه تبعًا لقوانين الوراثة وقوانين البيئة؟ هل لو اجتمع كل المهندسين في العالم وكل الرسامين وكل الأطباء بتخصصاتهم وكل الكيميائيين وكل الصنَّاع وكل علماء الجمال وكل أصحاب الحرف والمهن والزخرفة.. لو اجتمع هؤلاء جميعًا، هل ينجحون في صنع كتكوت حي واحد كهذا الذي تخرجه الطبيعة في كل يوم بالعشرات والمئات والآلاف والملايين؟!”(14).

ج- المادة ليست أزلية:

لو كانت المادة أزلية لا بداية لها، ولا يوجد خالق لها، فمن ذا الذي وضع قوانين الطبيعة التي تحكم الكون كله في انسجام يفوق الإدراك..؟! وكيف تلاحمت عناصر المادة رغم اختلاف الطبائع فالتراب ضد الهواء والماء ضد النار؟! ومن الذي حفظ للخلائق توازنها، فبالرغم من أن نسبة توالد الذئاب إلى الحملان 10: 1 فإن الحملان وبقية الحيوانات المستأنسة مازالت موجودة، والوحوش الضارية لم تختف من الوجود.

وتعبير أن المادة أزلية هو تعبير غير منطقي لأن المادة قابلة للتغيير، وليس من المعقول أن المتغير يكون أزليًا، والمادة تحمل في طياتها عنصر الضعف، وليس من المعقول أن الضعيف يكون أزليًا وقال أحد علماء اللاهوت “هذا العالم إما أن يكون أزليًا أو محدثًا، ولا يمكن أن يكون أزليًا لأنه متغير.. والتغير صورة من صور الاضمحلال، والاضمحلال يدل على الحدوث، وحيث إن هذا العالم مُحدَث، فلا بد له يكون له مُحدِث أحدثه”(15). ومن المعروف أن الشمس ككتلة ملتهبة تستنزف مادتها إذ تتحول المادة إلى طاقة، فلو كانت هذه الشمس أزلية لاستنزفت بالكامل ولم يعد هناك شمس ولا أرض ولا حياة ولا كواكب، ومن المعروف أيضًا أن الهيدروجين يتحول بمرور الزمن إلى هيليوم، فلو كان الهيدروجين منذ الأزل لتحول كله إلى هيليوم، وهلم جرا.. ويقول العالم “إدوارد لوثر كيل ” Edward Luther Kiel أستاذ علم الأحياء “أننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًا، وإلّا لاستهلكت طاقته منذ زمن وتوقف كل نشاط في الوجود، وهكذا توصلت العلوم دون قصد إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولا بد من مبتدئ أو من محرك أول أو من خالق وهو الله”(16).

كما أن تعبير أن المادة أوجدت نفسها تعبيرًا غير منطقي، إذ كيف تُوجِد المادة نفسها وهي أصلًا غير موجودة؟!

وعندما قال ماركس “أن المادة ديالكتيكية لها قوة قادرة على الفعل، رد عليه “بردياييف ” الملحد بعد عودته للإيمان فقال إن عبارة ماركس هذه بها تناقض لفظي، لأنه كيف يمكن للمادة الصلدة الجامدة أن يكون لها قوة قادرة على الفعل؟! ويقول “د.جورج ايريل دافيز ” George Earl عالم الطبيعة “فالمنطق الذي نستطيع أن نأخذ به، والذي لا يمكن أن يتطرق إليه الشك هو أنه ليس هناك شيء مادي يستطيع أن يخلق نفسه، وإذا سلمنا بقدرة الكون على خلق نفسه فإننا بذلك نصف الكون بالألوهية، ومعنى ذلك إننا نعترف بوجود إله”(17).

وردًا على القائلين بأن الصدفة أوجدت الحياة التي تطورت وصارت كما نراها، نقول لهم إن كانت الصدفة والارتقاء نجحا في إيجاد رجل بكل تركيباته العجيبة وأجهزته التي تفوق الخيال، فهل يمكن أن الصدفة والارتقاء ينجحا في إيجاد كائن مماثل للرجل ومخالف له في الجهاز التناسلي وهو المرأة، حتى تستمر الحياة على وجه الأرض؟!.

وعندما قالوا إن الكتكوت يخرج من البيضة التي ليس بها حياة، كان هذا مغالطة، لأن ليس كل بيضة يخرج منها كتكوت. إنما يخرج الكتكوت من البيضة المُلقحة فقط بعد أن دخلت إليها الحياة عن طريق التلقيح. كما إن البكتريا التي يحملها الهواء إلى اللحوم المتعفنة هي التي تمثل بذرة الحياة، ومنها تخرج الديدان لأنها وجدت البيئة المناسبة، وأيضًا تعبير أن المادة وُجِدت بالصدفة تعبير غير منطقي وغير علمي، فالصدفة لا تُوجِد كائنات حية، ويقول “د. توماس دافبر باركس ” أستاذ الكيمياء “إنني أقر النظام والتصميم في كل ما يحيط بي من العالم غير العضوي ولا أستطيع أن أُسلم بأن يكون كل ذلك قد تم بمحض الصدفة العمياء التي جعلت ذرات هذا الكون تتآلف بهذه الصورة العجيبة. إن هذا التصميم يحتاج إلى مبدع، ونحن نطلق على هذا المبدع الله”(18). كما يقول “د. جون وليامز كلونس ” عالم الوراثة “إن هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الإتقان والتعقيد درجة تجعل من المحال أن يكون قد نشأ بمحض الصدفة.. ومن التعقيدات الطريفة في هذا الكون ما نشاهده من العلاقات التوافقية الاضطرارية بين الأشياء أحيانًا، ومن أمثلتها العلاقة بين فراشة “اليوكاو” ونبات “اليوكا” وكذلك العلاقة بين نبات التين ومجموعة من الزنابير الصغيرة، وهناك كثير من الأزهار تسجن الحشرات داخلها وإن النبات بعد أن يتم التلقيح لا يهتم بخروج الحشرة من الزهرة المؤنثة لأنها تكون قد أدت رسالتها، أما عند دخول الحشرة إلى زهرة مذكرة فإنه يُسمح لها بالخروج لأنها لا تكون قد أدت رسالتها. أفلا تدل كل هذه الشواهد على وجود الله؟ إن من الصعب على عقولنا أن نتصوَّر أن كل هذا التوافق العجيب قد تم بمحض الصدفة. أنه لا بد أن يكون نتيجة توجيه لحكم احتياج إلى قدرة وتدبير”(19).

وإن قال فيلسوفهم “هلباخ ” أن المادة في حركة دائبة مستمرة، نقول له إن الحركة في الجماد تختلف عنها في الكائنات الحية، فالحركة في الجماد لا يمكن للإنسان أن يوقفها، بينما يمكن للإنسان التحكم في حركة الكائنات الحية، وأيضًا الكائنات الحية عندما تتعرض للموت تكف عن الحركة فالمادة الصلدة لا تموت، وأخيرًا نقول للذين يؤلّهون المادة: هل عندما يعبث الإنسان بالمادة يعبث بإلهكم؟!!

ومن الأمور الطريفة إن أحد الملحدين ألقى محاضرة على عدد كبير من العمال وأخذ يدلل فيها على إن الإنسان ما هو إلّا مادة، فاستأذن أحد العمال لإبداء رأيه وما أن سُمح له حتى رفع الكرسي وألقى به على الأرض، ثم توجه إلى المحاضر وصفعه على وجهه، فهاج المحاضر وماج وطالب رفاقه الشيوعيين اعتقال هذا العامل وهو يصرخ في وجهه: كيف تجرؤ على صفعي؟ وما هو السبب؟ فأجابه العامل المؤمن “لقد أثبت لنا على أنك كاذب يا أستاذ. فقد قلت أن كل شيء في الوجود هو مادة لا أكثر ولا أقل، لقد رفعت الكرسي ورميت به أرضًا، لكنه لم

يغضب حيث أنه مادة بالفعل. ولكنني لما صفعتك على خدك لم تفعل أنت ما فعله الكرسي، فقد اختلف رد فعلك عنه، فالمادة لا تغضب ولم تحنق كما فعلت أنت. لذلك أيها الأستاذ الرفيق، إنك على خطأ جسيم، فالإنسان هو أكثر من المادة. نحن شخصيات روحية”(20).

أما نظرية الملحد “تشارلز روبرت دارون ” الخاصة بالنشوء والارتقاء، فقد كان لهذه النظرية أثرها البالغ على المفاهيم الفلسفية والسياسية والعلاقات السائدة بين البشر، وترتب على نظرية “الانتخاب الطبيعي ” ظهور فلسفة الاعتداء والعنف والاغتصاب التي تحمس لها الألماني “نيتشه” وأدخلت هذه النظرية البشرية في حروب طويلة، فكلِ يريد أن يثبت أنه الأقوى والأصلح، وتمخضت هذه النظرية عن شعار سيادة الجنس الآري على جميع الأجناس الأخرى مما تسبب في حرب السبعين عامًا، بل في الحرب العالمية الأولى والثاني، وتم نقد نظرية دارون، فقال العلماء:

1-أغلبية التغييرات التي طرأت على الكائنات الحية هي تغييرات جسيمة ضئيلة وضعيفة، ولا تؤدي بالضرورة إلى استمرار نوع من الحياة وانقراض نوع آخر.

2-التنازع على البقاء، أو تغذي حيوان كالأسد على حيوان آخر كالغزال لم يؤدي لانقراض النوع الأخير.

3-هذه النظرية لا تفسر كيفية اختفاء الزواحف الضخمة مثل الديناصورات في العصر الترياسي حقب الحياة الوسطى.

4-تعجز النظرية عن تفسير الظهور الفجائي للصفات(32).

5-أثبت علماء الجيولوجيا أن الكائنات منذ وجودها على الأرض لم تشوش ولم تختلط، فكل كائن حافظ على جنسه ونوعه، وتحقق القول الإلهي في النباتات “فأخرجت الأرض عُشبًا وبقلًا يبذر بذرًا كجنسه وشجرًا يعمل ثمرًا بذره فيه كجنسه” (تك 1: 12) ، وبالنسبة للطيور “وكل طائر ذي جناح كجنسه” (تك 1: 21) ، والحيوانات “فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها والبهائم كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها” (تك 1: 25). أما الإنسان فقد جُبل على صورة الله ومثاله “وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض” (تك 1: 28) وإن كان الإنسان قد نجح في تزاوج الحصان مع الحمار لتقاربهما ونتج عنهما البغل، إلّا أن البغل ليس له إمكانية التناسل.

6-الحيوانات الدنيئة ما زالت هكذا منذ خلقتها لم يحدث لها أي ارتقاء.

7-لو كانت النباتات قد ارتقت في زمن ما إلى الحيوانات، والحيوانات إلى الإنسان، فليس من المعقول أن يكون هذا الارتقاء قد تم فجأة. بل لا بد أنه مرَّ بمراحل متوسطة، ولم تعثر الحفريات قط على صورة هذه المراحل المتوسطة، فلا يوجد مثلًا كائنًا به جزء من النبات وبقيته من الحيوان، أو كائنًا نصفه حيوان ونصفه إنسان، فمثل هذه الصور لا وجود لها على الإطلاق إلّا في الخيال المريض.

8-قال “الدارونيون” إن الخلية الأولى استغرقت عدة ملايين من السنين حتى ظهرت منها هذه الكائنات بأنواعها المختلفة، والحقيقة إن علماء الجيولوجيا قالوا أنه منذ زمن لا يزيد عن ربع مليون سنة كانت الأرض كتلة غازية ملتهبة، تستحيل الحياة عليها.. فأين إذًا نشأت الخلية الأولى؟ هل في كوكب آخر..؟! إن النشوء من العدم شيء محال، ونشوء الحياة الحيوانية من الحياة النباتية، أو نشوء الحياة البشرية من الحياة الحيوانية ما هو إلّا ضرب من الخيال.

9-وردًا على الذين قالوا إن الإنسان نشأ وتطور عن القردة، وإن الإنسان أصله قردًا، وأخذوا يدللون على قولهم

هذا بأدلة واهية. تقف أمامهم عقبات كثيرة مثل:

أ- هناك تفاوت كبير بين دماغ القردة ودماغ الإنسان، فدماغ الغوريلا وهي أعظم القردة (30,5 قيراط- 500 سم3) يبلغ ثلث دماغ سكان أستراليا الأصليين وهم أقل جميع البشر (3/1 99 قيراط- 1500 سم3).

ب- للإنسان إمكانية الابتكار والارتقاء، وتشهد بهذا الثورة العلمية الرهيبة التي نعيشها الآن وهي أشبه بمعجزة عظيمة جدًا يصعب تصديقها لمن عاش على أرضنا هذه منذ مائة عام فقط، بينما الحيوان عاجز تمامًا عن هذا الارتقاء والابتكار.

ج- يقد الإنسان أن يربط الظواهر بالأسباب لأنه يعقل الأمور ويتفهمها فهو قادر على التعليل، والتمييز، والنطق.. إلخ بينما يعجز الحيوان في هذا.

د- لدى الإنسان الميل الطبيعي والشعور الخفي للبحث عن الخالق وعبادته، لأن الله كتب فيه صورته. أما الحيوان فلا يشعر بمثل هذا الاحتياج.

ه- سفه العلماء هذا الرأي واعتبروه ضربًا من الجنون، فقال العالم الألماني “فون باير” إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من القردة هو بلا شك ضرب من الجنون، حيث ينثل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد، كما إنه لا يوجد دليل على هذا الرأي المضحك من جهة الاستكشافات الحفرية. وقال أستاذ علم الأنثروبولوجيا “فيركو ” يجب عليَّ أن أُعلن بأن جميع الترقيات الجسيمة التي حدثت في علم الأنثربولوجيا السابقة على التاريخ تجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقردة تبعد عن الاحتمال بعدًا كاملًا. فإذا درسنا الإنسان الحفري في العهد الرابع فهو الذي يجب أن يكون الإنسان الأقرب إلى أسلافه، نجده إنسانًا مشابه لنا كل الشبه، فإن جماجم جميع الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة أنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا للغاية، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء إذا ما كان لهم رأس مثله. والعلامة “فيفرت” قال “إن مذهب دارون لا يمكن تأييده. إنه رأي من آراء الصبيان”(33).

د- كيف تفسر الحياة والموت والعقل والضمير والخيال والغرائز والعواطف وما بعد الموت؟

الإلحاديون الذين يدَّعون إن الإنسان ما هو إلّا حفنة من المواد يعجزون عن الإجابة على السؤال السابق، فغير الحي لا يخلق حيًّا.. كيف تهب المادة الصلدة الجامدة روحًا وحياة للكائنات الحيَّة؟ من أين أتت الحياة للمادة؟ وإن قالوا إنها أتت من الخلية الأولى التي وجدت بالصدفة منذ ملايين السنين، فإننا نقول لهم كيف عاشت الخلية الأولى بينما كانت الأرض في صورتها الأولى منذ ملايين السنين عبارة عن ذوبان ناري تتراوح حرارتها بين 1500- 3000 درجة. ثم إن العلم عجز حتى الآن وسيعجز للأبد عن خلق هذه الخلية الأولى.. فمن أين أتت؟ ولو أن الخلية الأولى هي مصدر الحياة، وبالتطور وصلت إلى ما وصلت عليه الآن، فكيف تطورت في شكل الإنسان الذي يشمل على 80 تريليون خلية، وبالمخ 10 بليون خلية؟ كيف تجمعت كل هذه الخلايا لتكون الإنسان بوظائفه الحيوية؟ هل بمجرد الصدفة العمياء، وهل ظهر كائن قبل الإنسان أقل تطورًا فكان مثلًا نصفه إنسان والنصف الآخر حيوان؟ ولماذا لم يظهر كائن آخر أكثر تطورًا من الإنسان الذي يعيش على الأرض منذ خلقته؟! وهل يمكن أن يكون وضع الجينات المتناهية الصغر في الإنسان محض الصدفة..؟! إن دراسة علم الوراثة يكشف لنا عن عظمة الخالق. قال أحد الملحدين بعد أن اهتدى للإيمان “إنني لم أكن أعرف الله، وما كنت أؤمن بوجوده بل كنت أسخر من الإيمان وأكرز بالكفر، وكنت ألقي محاضرات ضد وجود الله، ولكنني التقيت بالله في الحياة.. ومن الحياة تعلمت أن هناك الله”(21). وغير العاقل لا يخلق إنسانًا عاقلًا له ضمير ومشيئة.. كيف تهب المادة غير العاقلة عقلًا للكائنات الحيَّة؟! ومن ذا الذي وضع في الإنسان قوة التفكير والتدبير والتخيل. قال بردياييف “إن الماركسيين لم يحاولوا أبدًا أن يفسروا كيف يمكن للوجود المادي أن يتحول إلى تفكير ووجدان؟!”(22) ، وأيضًا كيف تُخرج لنا المادة الصماء البكماء إنسانًا ناطقًا؟!

ومن وضع في الإنسان والحيوان الغرائز الطبيعية..؟ فلولا غريزة الجوع، وغريزة الخوف، وغريزة حب البقاء لهلك الإنسان والحيوان.. من علم الطيور المهاجرة والثعابين النيلية مسلكها في الهجرة والعودة عبر آلاف الأميال؟!.

وأيضًا فشل الإلحاديون في تفسير ظاهرة الموت، بل وقفوا أمامها مرتعبين، فماركس رغم غزارة إنتاجه الأدبي إلّا أنه لم يتكلم عن الموت إلّا بسبب موت ابنه فقال “يبدو أن الموت انتصر انتصارًا قاسيًا”(23). كما قال “إن موت ولدي آلمني كثيرًا حتى إنني أشعر بمرارة فقده كما في اليوم الأول”(34)(24). وارتعب يا روسلاتسكي أمام الموت قائلًا “احرقوا كل كتبي. انظروا أنه هنا ينتظرني. احرقوا كل مؤلفاتي”(25).

وبينما فشل الإلحاديون في الإجابة عما بعد الموت فإن مسيحيِّ رومانيا الشيوعية كانوا يثبتون لهم الحياة بعد الموت بطريقة بسيطة، فيقولون “لنفرض أنك استطعت أن تخاطب جنينًا في رحم أمه، وأن تقول له أن حياة الجنين هي لمدة قصيرة فقط، تليها حياة حقيقية طويلة الآن، فماذا يكون جواب الجنين؟ أنه يجيب بمثل ما تجيبوننا تمامًا أنتم الملحدين عندما نتحدث إليكم عن السماء وجهنم، فيقول الجنين أن الحياة في رحم أمه هي الحياة الوحيدة، وكل شيء آخر فهو حماقة دينية، ولكن لو استطاع الجنين أن يفكر لقال لنفسه: ينمو لي هنا ذراعان لست بحاجة إليهما، كما إني لا أقدر أن أمدهما، فلماذا تنمو إذًا؟ ربما كان ذلك لحقبة قصيرة من الزمن في مستقبل حياتي حين يجب أن أشتغل بهما. كما إن رجلي تنموان أيضًا. لكن عليَّ أن أبقيهما منحنيتين نحو صدري، فلماذا تنموان؟ ربما سنلحق الحياة في عالم واسع وعليَّ أن أنسى آنذاك. كذلك العينان تتكونان أيضًا، ولكن حيث أنني محاط بظلمة شاملة فليس لي حاجة إليهما. فلماذا تنمو لي عينان؟ ربما سيخلف فيما بعد عالم نور وألوان.. وهكذا، فلو استطاع الجنين أن يتأمل نموه لعرف عن حياة خارج رحم أمه دون أن يراها. وهذا هو حالنا نحن أيضًا، فما دمنا صغار السن فلنا حيوية، إنما بلا عقل، لاستخدامها بصورة صحيحة، ولكن عندما ننمو في المعرفة والحكمة على مر السنين، ينتظرنا النعش ليوصلنا إلى القبر. فلماذا كان ضروريًا لنا أن ننمو في المعرفة والحكمة اللتين لا نستطيع استخدامها فيما بعد؟! ولماذا تنمو للجنين ذراعان ورجلان وعينان؟!

الجواب هو: تحضيرًا لما سيأتي! وهكذا هو حالنا نحن أيضًا هنا على الأرض. فنحن ننمو هنا في الخبرة، والمعرفة والحكمة استعدادا لما سيأتي في المستقبل، فنحن نتهيأ لخدمة أسمى بعد الوفاة”(26).

ه-عدم إدراك الله بالحواس لا يعني عدم وجوده:

عقل الإنسان المحدود يعجز عن إدراك الله الغير محدود، وإن كان عقل الإنسان المحدود ما زال عاجزًا عن إدراك أسرار وعجائب الطبيعة، فهل نطلب منه أن يدرك ويحوي ويحد الله؟ ولذلك قال الفيلسوف توما الأكويني “إن الله ليس كما نتصورّه أو نفهمه بمداركنا العاجزة، فإذا عرفنا أن الله بمفهومنا يكُف عن أن يكون إلهًا. فالعقل البشري أضيق من أن يحد اللامحدود، ولكننا نستطيع أن نعرفه فقط، لا أن نصل إلى إدراكه”(27). وقال الفيلسوف الهندي مانو “الإله هو الكائن الذي لا يمكن أن تحويه الحواس المادية، وليس بمقدور العقل أن يدركه على ما هو عليه. وذلك لاستحالة الكائن الجزئي أن يحوي الكائن الكلي”(28).

ويقول نيافة الأنبا موسى الأسقف العام “العقل والإيمان، إن العقل ليس ضد الإيمان، ولا الإيمان ضد العقل!! الإيمان لا يصادر العقل أو يلغيه، ولكنه يؤكد على محدودية العقل، ثم يكمل هو -أي الإيمان- المشوار معنا. تمامًا مثل التلسكوب، والعين المجردة. فالعين المجردة محدودة في إبصارها، ترى حتى مسافة معينة، ولا تستطيع أن تدرك تفاصيل الأمور البعيدة، مثل القمر مثلًا، العين تراه قرصًا جميلًا طالما تغزَّل فيه الشعراء، أما التلسكوب فيستطيع أن يُقرب الأمور البعيدة، ويجعلنا نرى الكثير من التفاصيل والتضاريس في هذا القمر، الأمر الذي تعجز عنه العين المجردة المحدودة. العقل مثل العين المجردة.. محدود، والإيمان مثل التلسكوب.. يُكمل لنا المشوار، ويقرب لنا الحقائق البعيدة وغير المحدودة، مثل الله والأبدية، لهذا يقول معلمنا بولس الرسول “بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله” (عب 11: 3) أي إن الإيمان يشرح لنا ما لا يستطيع العقل إدراكه، فالعقل محدود، والله غير محدود، وهيهات للمحدود أن يحتوي غير المحدود. هكذا يكون المنطق!..

إذًا فنحن نعرف الله بالروح بعد أن يتأمل العقل في أمور كثيرة، ويجد أنه محدود، وإنها أبعد منه وفوقه، فيسلم القيادة للروح، التي تسلم بدورها القيادة لروح الله، وهنا يدرك العقل محدوديته، ويسجد أمام اللامحدود واللانهائي.. أي أمام الله!

اللانهاية.. حقيقة منطقية. لا شك إن العقل محدود، بينما الأرقام غير محدودة، وأقصد رقم “اللانهاية ” فإذا ما حلقنا بالفكر في أفاق المستقبل لنحصي سنوات ما بعد سنة 2003 سوف نقول 2004 ثم 2005 ثم 2006 لنصل إلى “مستقبل لا نهائي غير محدود ” هو “الأبدية ” إذ يستحيل أن نجد حدودًا للأرقام، أو نهاية لها. فإذا ما رجعنا بفكرنا إلى الأعوام الماضية فسوف نقول 2002 ثم 2001 ثم 2000.. وسوف نصل أيضًا إلى ماضي سحيق لا نهائي.. هو “الأزلية ” إذًا هناك كائن أزلي (لا بداية له) أبدي (لا نهاية له) وهذا الكائن اللانهائي هو الله، مهندس الكون الأعظم، واجب الوجود، الحياة المانحة للحياة، والخالق الذي خلق الكل.. بالله الأصل، علة كل المعلولات، وأساس كل الموجودات.. الوجود الأول، واجب الوجود، وخالق الجميع”(29).

ورغم أن العقل عاجز عن إدراك الله لكن المسيحية لا تحتقر هذا العقل ولم تلغه كما فعلت الشيوعية، فقد سأل أحد مؤمني رومانيا أسيرًا روسيًا مهندسًا: هل تؤمن بالله؟ فأجابه “ليس لدي أمر عسكري بهذا الشأن لأؤمن، فلو كان لي أمر لأمنت”(30).

وكم من الأمور التي لا يراها الإنسان بالحواس الجسدية، ولكنه يشعر بتأثيرها ويؤمن بوجودها؟ وأكبر مثل على هذا القوة المغناطيسية والكهربائية والموجات الصوتية.. إلخ، فبالرغم إننا لا نرى الكهرباء لكننا نراها في المصباح المضيء، ونحس بها في حرارة المدفأة، ونشعر بها في حركة الموتور، وكم من كائنات دقيقة لا نراها بالعين المجردة ولكننا نراها تحت المجهر، وكم من أصوات خافتة لا نسمعها بالأذن المجردة ولكن نستطيع أن نستمع إليها من خلال الأجهزة المتخصصة، فعين النسر ترى ما لا نراه نحن إذ ترى الفريسة على بعد ثلاثة أميال، وأذن الغزال تلتقط حركة الزلزال قبل حدوثه بعشرين دقيقة. بل إن هناك فرقًا بين عالم الحقيقة وعالم الظواهر، فالسراب هو من عالم الظواهر وليس بحقيقة، والملعقة في كوب الماء نراها وكأنها مكسورة وهي ليست كذلك، ونرى للسماء لونًا وهي ليست كذلك.. إلخ.

فعدم رؤيتنا لله لا يعني عدم وجوده، ومن الطرائف التي تُذكر أن أحد الفلاسفة الملحدين في إحدى محاضراته لمجموعة من البسطاء قال إننا نرى أمورًا كثيرة، ولكننا لا نرى الله.. لماذا؟ لأن كل شيء موجود نراه، أما الله فلأنه غير موجود فلا نراه. فقال له أحد البسطاء: هل ذهبت إلى اليابان؟

أجابه الملحد: لا.

المؤمن البسيط: إذًا أنت لم ترَ اليابان، ولكنك تؤمن بوجودها ووجود اليابانيين لأنك ترى صنائعهم.

الملحد: نعم.

المؤمن البسيط: هكذا إن كنا لا نرى الله بالعين الجسدية، لكننا ندرك وجوده من خلال مصنوعاته.

وفي إحدى المرات أرادت مُدرسة أن تلقن البنات الصغار درسًا لا ينسونه عن إنكار وجود الله، فسألت إحدى البنات: ماذا ترين هناك؟

أجابت الصغيرة: شجرة.

المعلمة: كلنا نرى شجرة.. إذًا الشجرة موجودة.

وكرَّرت المعلمة السؤال عدة مرات عن أمور أخرى مثل الماء، والعصفورة والمنزل.. إلخ ثم سألت الفتاة الصغيرة: هل ترين الله؟

فقالت الفتاة: لا أراه.

المعلمة: نعم إننا لا نرى الله، لأن الله غير موجود، ولا يوجد شيء اسمه الله.

فتصدت لها فتاة أخرى صغيرة السن عظيمة الإيمان، واستأذنت أن توجه هي الأسئلة لصديقتها الصغيرة، فسألتها عن الشجرة والعصفورة والماء.. إلخ. ثم سألتها: هل ترين عقل المدرسة؟ فأجابتها: لا أرى عقل المدرسة، فقالت: إننا لا نرى عقل المدرسة، فهل معنى هذا إن المدرسة بلا عقل؟! وضحكت الفتيات، وعقبت هذه الفتاة المؤمنة: نحن لا نرى عقل المدرسة ولكننا نصدق أن لها عقلًا، وهكذا مع إننا لا نرى الله بأعيننا المادية، فإننا نؤمن بوجوده.

و- الشعور الداخلى بوجود الله:

عندما خلق الله الإنسان على صورته ومثاله وضع بداخله حقيقة وجوده، ولذلك تجد الإنسان يسعى دائمًا نحو الله، وما الديانات القديمة إلا هي محاولات بحث الإنسان عن الله، ولو تجولت في ربوع التاريخ فقد تجد أمورًا أساسية عاش الإنسان بدونها مثل المسكن المستقر، وعملات التعامل، والمدارس والمستشفيات والمحاكم. إلخ. ولكنه لم يستغن قط عن دور العبادة ولو في أبسط صورها.. حقًا قال الكتاب المقدَّس ” جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية” (جا 3: 11) وقال القديس أوغسطينوس ” إن الله نصب في داخل الإنسان ديونًا جعل العقل قاضيًا، والضمير مدعيًا، والفكر شاهدًا، وكتب بإصبعه آيات وجوده، ووحدانيته، وأزليته، وعنايته بالعالم(35) وقال الفيلسوف ديكارت ” تتبع فكرة اله نبعًا طبيعيًا في النفس كأنها علامة الصانع على صنعه(36) وقال الفيلسوف الألماني ” كانت ” عن هذا الشعور الباطني إن هناك ” شيئان يملأن نفسي روعة وإعجابًا لا يفتآن يتجددان وهما السماء ذات النجوم فوق رؤوسنا، والشريعة الأدبية في داخلنا(37) فالإنسان جمع بداخله ما هو زمني بما هو أبدى، وما هو أبدى في الإنسان يسعى نحو الله الأبدي، والإحساس بوجود الله يعطى الإنسان ضبطًا لنفسه، فلا يملك مثل الأبقوريين الذين قالوا ” لنأكل ونشرب فإننا غذًا نموت ” ويقول ديستوفسكى ” إن لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباح”(38).

صلى شاب ملحد قائلًا ” أللهم، أنا متأكد أنك غير موجود ولكن إن شاءت الأقدار أنك موجود، مع إننى أتحداها، فليس من واجبى عندئذ أن أعتقد بك، إنه من واجبك أنت أن تعلن ذاتك لي”(39) ورغم إلحاد ” لينين ” رئيس وزراء الإتحاد السوفيتي، فإنه عند تفاقم المشاكل أمامه أخذ يصلى لله، وعندما إلتقى ريشار وورمبراند مع مقدم روسي وضابطة روسية ملحدان في أحد الحوانيت، ولأن صاحب الحانوت لا يعرف الروسية فقد تفضل ريشار بالقيام بدور المترجم، ثم دعاهما للغذاء في بيته، وعندما جلسوا إلى المائدة قال لهما ” أنتما في بيت مسيحي، وقد اعتدنا أن نصلى على المائدة وبعد الصلاة انهمكا في الحديث عن الله والكتاب المقدَّس حتى آمنا قبل أن يتناولا طعامهما(40) وكان المسيحي إبان الحكم الشيوعي يثبت حقيقة شخصية السيد المسيح ببساطة فيقول ” فمن أين جاء عام 1970م؟ هل جاء من شخص لم يعش أو لم يلعب دورًا هامًا في التاريخ؟ فأنت تقول إن يسوع المسيح لم يعش، ولكنك تعد السنين من يوم ولادته! طبعًا كان الوقت موجودًا قبله، ولكنه لما جاء إلى العالم بدا الناس وكأن كل ما سبقه لم يكن له أي قيمة وإن الوقت الحقيقي بدأ عند ولادته. فصحيفتك الشيوعية هذه لهى الدليل الأعظم على إن المسيح عاش حقًا وإنه لم يكن خيالًا(41). حقًا قال القديس أغسطينوس ” يا إلهي سيظل القلب مضطربًا، ولن يجد راحته إلا فيك”(42)(43).

ز- وجود الله لا يلغى وجود ولا كرامة الإنسان:

ح- الكتاب المقدس:

ليس الكتاب المقدَّس مؤلف أسطوري كما قال أهل الإلحاد، إنما هو كتاب الحياة الموحى به من الروح القدس، ويحمل علامات صدقه داخله، فما حواه من نبوءات تحقق معظمها، والآخر في طريقه للتحقق لهو أعظم شاهد على صحة الكتاب المقدَّس، فقد حوى هذا الكتاب العجيب ليس نبوة أو بعض نبوءات، إنما حوى مئات النبوءات العجيبة والتي كان يصعب تصديقها لحظة النطق بها، وهناك فقط نحو ثلثمائة نبوءة نطق بها أنبياء مختلفين، ذوى ثقافات مختلفة، وأعمال وأعمار متباينة، وفي عصور متتالية، وفي عدة أماكن وجميعها تتعلق بشخص السيد المسيح، وقد تحقق معظمها، حتى إنه خلال الأربعة والعشرين ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض تحقق نحو ثلاثين نبؤة، ويقول ” د. بيتر سوفر ” أحد علماء الرياضيات في إحدى جامعات أمريكا إن احتمال تحقق 48 نبوءة على شخص واحد هو احتمال ضئيل جدًا جدًا، ولو حسب بلغة الأرقام فإنه يساوى 1:10(17)، أي واحد إلى واحد على يمينه 18 صفرًا، ولتقريب المعنى قال لو غطينا أرض تكساس بالكامل بدولارات فضية بسمك 60 سم، وفي كل هذا الكم الهائل وضعنا علامة على دولار واحد، فإن الفرصة عثورنا على هذا الدولار لأول مرة نبحث عنه هي فرصة ضئيلة جدًا جدًا وتساوى 1:10(17).

كما إن الآثار تثبت يومًا فيومًا صحة كل ما جاء في الكتاب المقدَّس(55). أما تأثير الكتاب العجيب في تغيير النفوس فهو شاهد عظيم على سماوية هذا الكتاب، فعندما قام ” تشارلز داروين ” صاحب نظرية ” النشوء والارتقاء ” بجولة حول العالم وعرف تاريخ الأمم، كتب في جرناله (يومياته)(56) يقول إنه لم يكن هناك بلدًا أسوا من نيوزيلاند قبل إيمانها، وعندما عاد إلى إنجلترا وجدهم يفتقدون بشدة المبشرين ما قد صار في نيوزيلاندا من إلغاء الذبائح البشرية التي تقدم تحت سيطرة كهنوت وثنى لم ير العالم مثيلًا له في الشر، ومنع (الإيمان بالمسيح) قتل الأطفال، وأنهى الحروب الدموية التي لم تكن تشفق على طفل ولا على امرأة، وقلل الغش والسكر والفحشاء، وذلك بإدخال المسيحية فيها، ولو ارتطمت سفينة على جزيرة غير معروفة لصلى الإنسان صلاة حارة وتمنى أن يكون أهلها قد سمعوا بتبشير المبشرين حتى يطمئن على حياته..

إن عمل المبشر هو بمثابة عصا الراقي، فترى البيوت تبنى والحقول تحرث والأشجار تغرس بأيادي نفس النيوزيلانديين. إن التحسن المطرد الناتج عن انتشار الإنجيل في جزر البحر الهادي لهى من النوادر في التاريخ(57).

وأيضًا المعجزات التي تصاحب المؤمنين بالكتاب المقدس من جيل إلى جيل هي شاهد عيان على حقيقة وجود الله وصحة كتابه المقدس، ومهما أنكر الإلحاديون المعجزات فلم ولن ينجحوا في هذا، وعندما أراد أحد أساتذة الشيوعيين أن يعطى مثلًا عمليًا في أحد الاجتماعات على تكذيب معجزة قانا الجليل، أحضر ماء، ووضع فيه مسحوق أحمر فتحول الماء إلى اللون الأحمر وقال ” هذه هي المعجزة بكاملها، فقد خبأ يسوع في كمه مسحوقًا من هذا النوع، وادعى أنه حول الماء إلى خمر بتلك الصورة العجيبة! ولكنني أستطيع أن أفوق عمل يسوع، فأنا أقدر أن أعيد هذا الخمر إلى ماء مرة أخرى(58) ثم وضع مسحوقًا آخر فعاد الماء إلى اللون الأبيض، ثم عاد ووضع من المسحوق الأول فتحول اللون إلى الأحمر ثانية.. فقال له أحد المؤمنين: حقًا لقد أدهشتنا أيها الأستاذ الرفيق بما استطعت أن تفعله، ونحن نسألك الآن أن تفعل شيئًا واحدًا فقط، ألا وهو أن نشرب جرعة واحدة من خمرك.

الأستاذ: هذا ما لا قبل لي أن أفعله لكون المسحوق مادة سامة.

المؤمن: هذا هو الفرق الشاسع بينك وبين يسوع، فقد وهبنا يسوع بخمره رمز الفرح السماوي لمدة ألفى سنة تقريبًا، فيما حاولت أنت أن تسممنا بخمرك، فألقى القبض على هذا الشاهد الشجاع وطرح في غياهب السجن.

ودائما وأبدًا كان الكتاب المقدَّس هو العدة والسلاح في الحرب ضد الإلحاد.. انظر ما كتبه ريشار وورمبرلد وهو يلتمس من مسيحي أوربا أن يرسلوا إلى الدول الشيوعية الكتاب المقدَّس كلمة الله، فيقول ” لا تتخلوا عنا! لا تنسونا! لا تهملونا! قدموا لنا العدة التي نحتاج إليها! لأننا مستعدون أن ندفع ثمن استعمالها.. إنني أتكلم باسم الكنيسة التي خنق صوتها. الكنيسة الخفية الخرساء، التي لا صوت لها كي تتكلم. اسمعوا أصوات إخوانكم وأخواتكم في بلاد شيوعية! إنهم لا ينشدون الهرب، أو يطلبون حماية أو حياة سهلة، إنهم يطلبون العتاد فقط لكيما يحموا شباب الجيل القادم من سم الإلحادية. إنهم يطلبون الكتب المقدسة لكي ينشروا كلمة الله، فكيف يمكنهم أن ينشروها إن لم تكن في حوزتهم.

تشبه الكنيسة السرية جراحًا كان يسافر في قطار، فاصطدم القطار بقطار آخر، وترك وراءه مئات الجرحى على الأرض بحالة رضوض وكسور وموت، فأخذ هذا الجراح يتعثر بين هؤلاء المصابين وهو يصرخ آه، لو كانت عدتي معي!.. آه، لو كانت عدتي معي!.. فلو عدته معه لاستطاع هذا الطبيب أن ينقذ حياة كثيرين، لأنه كان مستعدًا أن يقوم بالعمل، ولكن.. لكن نقصته عدة الطبابة. لذلك بقى مكتوف اليدين. هذا هو واقع الكنيسة الخفية، فهي مستعدة أن تضحى بكل ما تملك! وهي مستعدة بالتالي أن تستشهد في سبيل المسيح، وهي مستعدة أن تجازف بحياة سنين طويلة في سجون شيوعية! ولكن.. لكن جميع استعداداتها لا تأتى بنتيجة إن لم تملك عدة العمل. فتوسل الأمناء والشجعان في الكنيسة السرية إليكم أنتم الأحرار هو هذا: قدموا لنا العدة من كتب مقدسة، بشائر وكتب مسيحية أخرى(59)..

ووصل إلى ريشار كتب مقدسة مهربة عبر الأسوار المنيعة، وفي أحد الأيام جاء إليه رجلان قادمين من إحدى القرى للعمل في المدينة لاكتناز بعض المال بغية شراء كتاب مقدس قديم، ولم يصدقا أعينهم عندما قدم لهم ريشار كتابًا جديدًا ومجانًا، وبعد أيام قليلة استلم ريشار رسالة شكر حارة موقع عليها من ثلاثين شخصًا قسموا الكتاب المقدَّس إلى ثلاثين جزءًا استبدلوها فيما بينهم، فأن الشخص في الدول الملحدة كان مستعدًا أن يتنازل عن بقرته التي تمثل كل ثروته مقابل الحصول على كتاب مقدس، وأحد الأشخاص استبدل خاتم زواجه بعهد جديد(60).

ط- وصايا الإنجيل:

تنفيذ وصايا الإنجيل في الظروف القاسية دليل قوى على صحة هذا الإنجيل، ويقول ريشار وورمبرلد ” ومع إنني أمقت النظام الشيوعي مقتًا شديدًا، فأنا أحب الشيوعيين أنفسهم. أجل، إنني أحبهم من كل قلبي، ومع إن الشيوعيين يستطيعون أن يفتكوا بالمسيحيين، غير أنهم ليس بإمكانهم أن يقتلوا محبتهم نحو قاتليهم، فليست لدى أية مرارة أو ضيق نحو الشيوعيين أو نحو الذي عذبوني(61) كما يقول “قابلت مؤمنين حقيقيين في سجون شيوعية مثقلة أرجلهم بسلاسل حديدية يزيد وزنها على خمسة وعشرين كيلو غرامًا، معذبين بأسياخ حديدية محماة بالنار، مرغمين على ابتلاع كميات من الملح دون أن يقدم لهم الماء فيما بعد، جياعًا مجلودين ومتألمين من البرد، ولكن بذات الوقت كانوا يصلون بحرارة من أجل معذبيهم الشيوعيين. هذا ما لا يمكن للعقل البشرى أن يفسره، فهو محبة المسيح التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس(62).

وعندما سمح لأحد المحكوم عليهم بالإعدام بمقابلة زوجته قبل تنفيذ الحكم قال لها “عليك أن تعرفي يا زوجتي العزيزة إنني أحب قاتلي، فهم لا يعلمون ماذا يفعلون، وطلبي إليك هو أن تجيبهم أنت أيضًا. لا تسمحي للمرارة أن تستقر في قلبك ضدهم باعتبارهم سفاحي زوجك المحبوب”(63).

ومقابل ما تحمله المسيحيون من جلاديهم، قدموا لهم الخير، وأهم ما قدموه لهم هو كلمة الله، فكان ريشار وورمبراند يرسل ابنه الصبي “ميهاى” مع بعض رفاقه يحملون في السر أجزاء من الكتب المقدسة للجنود الروس المنتشرين في شوارع وحدائق رومانيا، وهؤلاء الجنود الذين طالما حرموا من أولادهم لسنين طويلة بسبب انشغالهم بالحروب، كانوا يفرحون بهؤلاء الأولاد ويأخذون منهم البشائر ويقدمون لهم الحلوى، وبواسطة كلمة الله عرف عدد كبير من الجنود الملحدين لله وآمنوا به، وفي عيد استشهاد بطرس وبولس الرسولين شق ريشار طريقه إلى المعسكر الروسي بحجة شراء بعض الساعات من الجنود الروس، فالتف حوله بعض الجنود يعرضون ما معهم من ساعات، فأخذ يتعلل: هذه باهظة الثمن وهذه صغيرة وتلك كبيرة. ثم سألهم بنوع من المزاح: من منكم اسمه بطرس أو بولس؟ فوجد منهم من تسمى بهذا الاسم أو ذاك، فقال لهم: هل تعلمون من هو بطرس أو بولس؟ فأجابوه بالنفي، فأخذ يقص عليهم ” فقال أحدهم: أنت لم تأت من أجل الساعات بل من أجل البشارة بالمسيح، وهؤلاء الجنود محل ثقة، فاستمر في حديثك، وإذا أقبل أحد الجنود غير الموثوق فيهم سأضع يدي على ركبتي فتحدث عن الساعات، حتى إذا ذهب هذا الشخص ورفعت يدي، يمكنك أن تستكمل حديثك، وتكررت اللقاءات حتى آمنوا.

ورغم إنه كان غالبًا عضوًا من كل أسرة من أهل رومانيا يلقى في غياهب السجون يلاقى الأهوال، ولا يعرفون عنه شيئًا، ورغم ضيق اليد للمؤمنين الذين حافظوا على إيمانهم سرًا، فإن الكارزين بالمسيح كانوا يقفون في الشوارع يرنمون ويعظون، وقبل أن تصلهم الشرطة إليهم كانوا يختفون عن الأنظار، وكان البعض يجاهر بإيمانه متحملًا تبعة ذلك من عذابات تصل إلى حد الموت، ففي إحدى المرات اندفع شخصان نحو رئيس الحكومة “جورجيو ديج” وشهدا أمامه عن المسيح فأمر بالزج بهما في السجن، ولكن شهادتهما أثمرت لأن جورجيو وهو في نهاية حياته طريح الفراش عاد إلى الإيمان بالمسيح، وكان المؤمنون يطيعون النبذات التي تحمل صور كارل ماركس، وتحت عنوان ” الدين أفيون الشعوب ” وعلى الصفحات الأولى اقتباسات عن ماركس ولينين وستالين، ثم تحمل الصفحات التالية رسالة الخلاص، وطالما قاموا ببيع هذه النبذات وسط المظاهرات الشيوعية، واختفوا عن الأنظار قبل القبض عليهم.

ى- صلابة الإيمان:

لقد فعل الشيطان وجنوده وأعوانه كل ما يستطيعون أن يفعلوه بأبناء الله الأمناء، فيكفى اعتراف الإنسان بأنه مسيحي ليزج به في سجون سيبيريا حيث يلاقى الأهوال حتى الموت، أما إذا كان صاحب شخصية مرموقة فإنهم يكتفون بنفية خارج البلاد، وقصص الشهداء والمعترفين في الدول الملحدة التي لا حد لها تسيل الدموع وتدمى القلوب، وإذ أجدني مدفوعًا بقوة لا تقاوم أقدم لك يا صديقي أمثلة قليلة مشرفة من هؤلاء الأبطال الذين دفعوا ثمن الإيمان بالعذاب والعرق والدم والموت، وإليهم يرجع الفضل في القضاء على الإمبراطورية الشيوعية، كما قضى آباؤهم في الإيمان منذ القديم على الإمبراطورية الرومانية الوثنية.

لقد أغلق الشيوعيون الملحدون عددًا كبيرًا من الكنائس، وتركوا القليل كنوافذ للضبط والمراقبة للمؤمنين، وكان معظم رعاة هذه الكنائس من عملاء البوليس السري يتعاونون مع الشيطان ضد أبنائهم، ولكن قليل من هؤلاء الرعاة كانوا أمناء لدرجة الموت، ففي إحدى المرات ذهب ضابط ليقابل قسًا في هنغاريا بمفرده، فلما اقتاده هذا القس إلى غرفة وأغلق الباب، التفت الضابط للصليب المعلق على الجدار، وقال للقس محتدًا “إنك تعلم أن هذا الصليب هو كذب وبهتان، فهو ليس أكثر من مجرد خدعة تستخدمونها أنتم أيها القسوس لتغشوا هذا الشعب المسكين.. اعترف لي إنك لم تؤمن يومًا أن يسوع المسيح هو ابن الله الحي.

فابتسم القس وقال: أنا أؤمن بأن يسوع المسيح هو ابن الله الحي أيها الشاب المسكين، فهذه هي الحقيقة، وصرخ الضابط وقد صوب مسدسه نحو القس قائلًا: إن لم تعترف لي أن هذا كذب لسوف أطلق النار عليك.

القس: أنا لا أستطيع أن أعترف بذلك لأنه غير صحيح، فربنا يسوع المسيح هو ابن الله بالحق والصدق.

فألقى الضابط بمسدسه على الأرض واحتضن القس والدموع تترقرق في عينيه قائلًا ” هذا هو عين الحق والصواب. هذا هو الصدق، فأنا أيضًا أؤمن بذلك، ولكنني متشككًا فيما إذا كان الناس مستعدين أن يستشهدوا في سبيل إيمانهم هذا، إلى أن تحققت من ذلك بنفسي. آه، إنني لشاكر لك، فقد قويت إيماني، والآن فأنا أستطيع أن أموت من أجل المسيح، فقد أريتني كيف يمكن أن يكون ذلك(64).

ويصف ريشار وومبراند شيئًا من العذابات التي تعرض لها أبطال الإيمان في البلاد الملحدة فيقول ” عذب ” فلورسكو ” أحد قسوس الكنيسة بواسطة أسياخ حديدية محماة بالنار وبالسكاكين أيضًا، وقد عذبوه بضراوة، ثم أطلقوا جرذانًا جائعة بواسطة أنبوب حديدي إلى غرفة سجنه، فلم يستطع النوم بتاتًا إذ حاول أن يدافع عن نفسه بطردها عنه، ومتى توقف قليلًا كانت الجرذان تهاجمه وتنهش جسمه، ولقد اضطر أن يقف على رجليه لمدة أسبوعين كاملين.. لمدة أسبوعين كاملين ليلًا ونهارًا، فقد أراد الشيوعيون أن يرغموه على تسليم إخوانه في الإيمان، ولكنه قاوم تعذيبهم بشدة وصبر.

وفي النهاية أحضروا ابنه الذي كان له من العمر أربع عشرة سنة فقط، وأخذوا يجلدونه أمامه بسياطهم قائلين له إنهم سيستمرون بضربه إلى أن يعترف لهم بما أرادوه منه، فكاد الرجل المسكين أن يجن، وقد تحمل قدر استطاعته، ولكنه لما عجز عن الاحتمال نظر إلى المتألم وقال له (يا ولدى أسكندر، على أن أعترف لهم بما يريدونه، فلا أستطيع أن أراهم يضربونك فيما بعد) فأجابه ابنه (يا والدي لا تظلمني بجعل نفسك والدًا خائنًا. أثبت يا والدي، فإن قتلوني فسأموت على شفتي الكلمات يا يسوع ومسقط رأسي) وعلى إثر ذلك جن جنون الشيوعيين وانهالوا يكيلون للابن الضربات القاسية إلى أن أزهقوا روحة الطاهرة، والدم يتناثر على جدران الغرفة في السجن. لقد مات وهو يحمد الله (أيها الفتى إسكندر أطلب من أجل ضعفي).

لقد كبلوا أيدينا بقيود حديدية ذات أسنان حادة من الداخل، فهي لا تؤثر علينا إن لم نأت بحركة، ولكن عندما كانت غرفنا باردة وارتعدنا من البرد القاسي، نهشت تلك الأسنان أيدينا إلى أن مزقت جلودنا.

وقد علق بعض المؤمنين الآخرين بحبال رأسًا على عقب، وضربوا بوحشية ضارية مما جعل جسمهم يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال بسبب عنف الضربات، ووُضِعَ مؤمنون آخرون في صناديق للثلج وقد غشاها الجليد من الداخل، وقد وضعوني أنا أيضًا في إحداها بثياب رقيقة جدًا، وكان أطباء السجون يراقبون السجناء داخلها من خلال ثقوب صغيرة في جوانبها، وما أن لاحظوا مظاهر التجلد المميت علينا حتى نادوا الحراس لكي يخرجونا منها بسرعة ويدفئوننا مرة أخرى، حتى إذا ما نلنا قسطًا من الدفء أعادونا إليها ثانية لتجليدنا، وقد أعادوا الكرة مرارًا وتكرارًا.. وهذا ما يجعلني أخشى اليوم أن أفتح ثلاجة الطعام.

وضعونا نحن المؤمنين في صناديق خشبية أكبر من حجمنا بشيء زهيد جدًا، مما لم يترك لنا مجالًا للحراك أبدًا، وقد دقوا في هذه الصناديق من كل جهاته عشرات المسامير تبلغ رؤوسها من الداخل حدة الموس. كان الأمر سهلًا إذا وقفنا بسكون تام، ولكنهم أرغمونا على الوقوف في هذه الصناديق لمدة عدة ساعات طويلة، وعندما شعرنا بالتعب والإعياء وألقينا جسمنا على جوانب الصندوق طلبًا للراحة غرزت هذه المسامير في أجسادنا.. فما صنعه الشيوعيون بالمؤمنين يفوق وصف العقل البشرى وإدراكه. شاهدت الشيوعيين يعذبون المؤمنين وقد تألقت وجوههم بالبهجة، وكانوا يصرخون في وجوههم وهم يعذبونهم “نحن الأبالسة!”. إننا لا نحارب مع لحم أو دم، بل مع الرياسات والسلاطين وقوات الشر الجهنمية(65)..

وإحدى الفتيات كانت توزع بعض البشائر وتعلم الأولاد عن المسيح سرًا، فقرروا اعتقالها، ولكنهم أجلوا الاعتقال إلى يوم زفافها، وفي يوم زفافها هرع البوليس السري إلى داخل بيتها فمدت يديها ليكبلوها بالقيود، وهي تقبل السلاسل وتقول “أشكر عريسي السماوي يسوع من أجل هذه الدرة التي قدمها لي في يوم زفافي. أشكره لأنه حسبني أهلًا أن أتألم من أجله، بينما الأهل يولولون والعريس يتحسر لوعة، فهم يعرفون أهوال سجن الإلحاد، وبعد خمس سنوات أفرج عنها وكأنها أكبر من سنها بثلاثين عامًا، وكان عريسها في انتظارها، وهي تقول له إن ذلك كان أقل ما يمكنها أن تفعله من أجل المسيح(66).

ويقول ريشار وورمبراند أنه أثناء التحقيق معه ” استمر التعذيب والوحشية دون هوادة، وعندما فقدت وعيي وأصبحت كالثمل بحيث لم أستطع أن أقدم لمعذبي أية اعترافات، اقتادوني إلى غرفتي مرة ثانية. وهناك تركوني ملقى على الأرض دون عناية وشبه ميت، إلى أن استعدت بعض قواي ونشاطي ليعودوا إلى مرة أخرى للاستجواب. لقد قضى كثيرون نحبهم عند هذا الحد، ولكن قوتي عادت إلى بصورة غريبة، وفي الأعوام التي تلت، والتي قضيتها في سجون عديدة، كسروا أربع فقرات من عمودي الفقري وعظامًا أخرى كثيرة، وقد نقروا في جسمي اثنتي عشرة نقرة بالسكاكين وفتحوا فيه ثماني عشرة ثغرة آخرة كيًا بالنار.. فقد ضربوني بوحشية ولكموني بقسوة ضارية! هانوني واستهزأوا بى! أجاعوني، ضغطوا على واستجوبوني(67) وبعد ثماني سنوات ونصف أفرجوا عنه سنة 1965م لمدة أسبوعين ألقى خلالها عظتين مثبقًا للمؤمنين حاملًا في جسده سمات الرب يسوع، ثم عادوا وقبضوا عليه ليقضى ثلاث سنوات أخرى في ظروف أصعب وأشد ضراوة، وبلغ إجمالي ما قضاه في سجن الإلحاد أربعة عشر عامًا. أما زوجته فقد قبض عليها وذاقت الأهوال حتى أكلت العشب كالثيران، وترك ابنه “ميهاى” بدون عائل، وكانت مساعدة عائلات الشهداء والمساجين تعتبر جريمة، فعندما قدمت سيدتان المعونة للصبي الصغير ميهاى تعرضتنا للضرب المبرح حتى أصيبنا بالشلل الدائم، وعندما استضافت سيدة أخرى ميهاى ضربت حتى تساقطت جميع أسنانها، وعندما اهتز إيمان الصبي ميهاي، وهو في سن الحادية عشر من عمره، وعمل كعامل صغير لكيما يجد لقمة العيش، وإذ سمح له بمقابله أمه من وراء القضبان الحديدية وظهرت في حالة يرثى لها نحيلة ومتسخة وهي ترتدي ملابس السجن البالية ويديها خشنتين من قسوة العمل، فتعرف عليها بصعوبة بالغة، وكانت أول كلماتها لابنها ” آمن بيسوع يا ميهاى ” ولم يسمح لها الحراس بأكثر من هذا، إذ جذبوها بوحشية وجروها بعيدًا عن ابنها الذي راح يبكى، ومن هذه اللحظة اشتد إيمانه بالله قائلًا ” لنفرض أنه لا توجد للمسيحية أية حجج سوى تلك التي ملكتها أمي فهذا الأمر يكفيني(68).

وكانوا يعذبون المساجين بالجوع الشديد، فيقدمون لهم قطعة خبر كل أسبوع حتى صاروا أشبة بهياكل عظمية، وصاروا كالمعتوهين، حتى إن ريشار لم يقو على تلاوة الصلاة الربانية، فكانت صلاته عبارة عن كلمتين فقط هما ” أحبك يا يسوع ” والأمر المدهش أن هؤلاء المساجين كانوا يقدمون العشور من ضروراتهم.. كيف؟ كان يتخلون عن قطعة الخبز الخاصة بهم في الأسبوع العاشر لمن هو أضعف منهم.

حقًا إن هؤلاء الأبطال لم يحبوا حياتهم حتى الموت، فالشاب “ماتشيفي” في سجن “تيرجو أوكتا” الذي كان له من العمر ثمانية عشر عامًا وقد أصيب بمرض السل بسبب التعذيب وصعوبة السجن، وعندما علمت أسرته أرسلت له العلاج، فأعلمه ضابط السجن وطلب منه مقابل تسليمه الدواء الذي سينقذ حياته أن يعطيه بعض المعلومات عن زملائه المؤمنين، فقال له تبرغوا أنني لا أريد أن أبقى حيًا فاستحى برؤية وجه خائن في مرآة. فأنا لا أستطيع أن أقبل هذا الشرط. أنني أفضل الموت على ذلك، ومات تبرعوا بطلًا شهيدًا.

وعندما تسلمت ” كولموندة ” جثة زوجها الذي قتل في السجن وترك لها أربعة أطفال صغار، لاحظت علامات الاصفاد التي كبلت يديه، والحروق التي لحقت بيداه وأصابعه والأقسام السفلى من رجليه، ووخز السكاكين على القسم الأسفل من معدته، وانتفاخ رجله اليمنى، وعلامات الضرب التي برزت على رجليه الاثنين، فقد كانت الجثة كلها مشوهة بسبب الضرب، وتجمع المؤمنون نحو 1500 شخصًا في مسيرة ضخمة لتوديعه وكل منهم يعلم أن نهايته ربما تكون هي نهاية هذا الشهيد، وأكثر من هذا أنهم حملوا لافتات كتب عليها ” لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (في 1: 21).. ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها” (مت 10: 28).. “رأيت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله” (رؤ 6: 9).

ويقول ريشار وورمبراند ” والنساء المسيحيات يلاقين عذابًا يفوق عذاب الرجال في السجن، فقد اغتصبت الفتيات من حراس وحشيين، والسخرية، بالإضافة إلى المناظر القبيحة، لهو أمر مرعب، وقد أجبروا النساء على العمل الشاق في حفر القنوات، وكان عليهن أن يقمن بالعمل كالرجال.. وقد أقاموا عليهن بعض المراقبات الساقطات الزانيات، فتسابقن في تعذيب المؤمنات، وقد أكلت زوجتي العشب كالثيران لتبقى حية. وكذلك أكل السجناء الجرذان والحيات عند حفر قناة ليبقوا أحياء، وكان من أبهج تسليات الحرس أيام الآحاد هي أن يلقوا النساء في نهر الدانوب ليخرجن من الماء مرة أخرى فيسخرون بهن بنظرهم إلى أجسامهن المبتلة. وقد أعادوا الكرة مرارًا وتكرارًا، وهكذا فعلوا بزوجتي أيضًا(69).

وأشارت الصحف الروسية في إحدى المرات إلى القبض على اثنين وثمانون مؤمنًا بالمسيح ووضعهم في مستشفى الأمراض العقلية، وتحت وطأة العذاب مات أربعة وعشرون منهم فأشارت الصحف الروسية أن هؤلاء ماتوا بسبب الصلوات الطويلة.. فهل لنا أن نتصور ما عاناه هؤلاء الشهداء؟!، وأشارت صحيفة “سوجتسكايس روسيا” في 4 يونيو 1963م إلى سيدة مؤمنة عدم ليس الطليعة الحمراء(70).

وكان القبض على مؤمن في بلاد الإلحاد يعنى تجويع أسرته فيقول ريشار وورمبراند “فما أن يعتقل أحد أعضاء الكنيسة السرية، حتى تلسع عائلته دراما مؤلمة، فيصبح إعانتها ممنوعة قانونيًا منعًا باتًا. هذا هو مخطط الشيوعيين المدروس لكي يضيفوا إلى آلام الزوجة المنكوبة وأولادها الذين تركهم الزوج خلفه، وعندما يساق المؤمن إلى السجن وغالبا إلى العذاب والموت لا تكون الآلام إل في طورها البدائي، أما عائلته فتتعذب إلى ما لا نهاية، وأقول لكم الحق أنه لولا المؤمنون العاديون في البلدان الحرة والذين أرسلوا لي ولعائلتي المعونات المتنوعة، ما أمكننا أن نعيش لنكون بينكم ونسجل هذه الأسطر!

هناك في هذا الوقت بالذات (1966م) موجة اعتقال شاملة ضد المؤمنين في روسيا وغيرها أيضًا في البلدان الشيوعية، ويتصاعد عدد الشهداء يومًا بعد آخر. ومع أنهم يمضون إلى قبورهم، وبالتالي إلى مكافأتهم السماوية، غير أن عائلاتهم تعيش في أحوال يرثى لها، فنحن نستطيع، بل ويجب علينا، أن نساعدهم..

عندما ضربوني على باطن قدمي صرخ لساني، ولماذا صرخ لساني؟ فهو لم يضرب! صرخت لأن اللسان والرجلين جزء لا يتجزأ من الجسم الكامل، وأنتم أيها المؤمنون الأحرار، أنتم جزء من ذات جسد المسيح الذي يتألم الآن في السجون الشيوعية، والذي يستشهد من أجل المسيح.. لقد برزت إلى الوجود مرة أخرى الكنيسة الأولى بكل جمالها، تضحيتها، وتكريسها في البلدان الشيوعية.. أخوتنا هناك، لوحدهم وبدون أية معونة، يخوضون أعظم معركة عرفها القرن العشرون، تضاهى في بطولتها الكنيسة الأولى وتكريسها(71).

وكان ثمن كرازة السجين لزملائه الضرب المبرح، وفرح الكارزون السجناء بالكرازة، وفرح الشيوعيون بضربهم، فكانت صفقة بين الطرفين، فأحد الأشخاص ضبطوه يكرز لزملائه فلم يدعوه يستكمل جملته، وحملوه إلى غرفة الضرب، ثم أعادوه مرضضًا داميًا، وما أن استعاد قدرته على الكلام حتى أكمل جملته وحديثه لزملائه الذي التفوا حوله، ورأوا فيه صلابة الإيمان بالمسيح.

وتحول المؤمنون الأحرار إلى كارزين في الخفاء ” تعترف الصحف الشيوعية أن الجزارين يضعون النشرات المسيحية ضمن الأوراق التي يلفون بها للحوم المباعة (للمؤمنين) وكذلك تعترف الصحافة الروسية بأن المؤمنين العاملين في دور النشر الشيوعية، يعودون إلى مطابعهم في الليل لطبع ألوف النشرات المسيحية، ثم يغلقونها مرة أخرى قبل شروق الشمس، وتعترف الصحافة الروسية أيضًا أن بعض الأولاد قد حصلوا على أجزاء من الإنجيل.. ووضعوها في جيوب معاطف أساتذتهم المعلقة في غرف المعاطف في المدرسة، فجميع أعضاء الكنيسة من رجال ونساء وأولادهم هم قوة إرسالية عظيمة، أشداء، نشيطون ورابحون للنفوس في كل بلد شيوعي(72).

وهكذا كانت الكنيسة قوية في هذه الظروف الرهيبة، فيقول ريشار وورمبراند “ومع أن الكنيسة السرية في البلاد الشيوعية فقيرة ومتألمة، ولكنها لا تضم أعضاء فاترين. وإن اجتماعًا دينيًا فيها لأشبه باجتماع في تاريخ الكنيسة في القرن الأول، فالواعظ لا يجيد العلوم اللاهوتية.. الآيات الكتابية غير معروفة كما يجب في البلدان الشيوعية، لأنك قل ما تجد كتابًا مقدسًا فيها. أضف إلى هذا كلمة، فقد يكون الواعظ رجلًا قضى سنين عديدة في السجن بلا كتاب مقدس(73) وكانوا يصلون في الغابات المنعزلة “لقد استبدلت زقزقة الطيور الجميلة موسيقى الأرغن، وكان شذا الورود العطرة بخورًا لنا.. وكانت شموعنًا متمثلة بالقمر والنجوم التي أضاءتها الملائكة. إنني أعجز عن وصف هذه الكنيسة وجمالها، وكم من مرة ألقى القبض على المؤمنين بعد اجتماع سرى وزجوا في السجن! وهنا يتقلد المؤمنون السلاسل الحديدية على أعناقهم بسرور كما تتقلد العروس حليها الجميلة والمقدمة لها من حبيبها. كما إنك تحصل في السجن على قبلات يسوع وعناقه، فلا تستبدل مكانك بقصور الملوك، والحق يقال فأنا لم أجد مؤمنين سعداء بالحق إلا في الكتاب المقدَّس وفي الكنيسة السرية وفي السجون الشيوعية(74).

وانتصر الإيمان بالمسيح على كل تحديات الشيطان، وكم نحن سعداء إذ أبصرنا صرح الشيوعية ينهار على يد ميخائيل جربتشوف، وعاد نور الإيمان يشع من جديد في كل بلاد الإلحاد.

_____

(1) القمص بولس عطية- دراسات في علم اللاهوت ص 12.

(2) أورده القس انجيلوس جرجس- وجود الله وصور الإلحاد ص 30.

(3) نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي- الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 38.

(4) القمص بولس عطية- دراسات في علم اللاهوت ص 15.

(5) القمص بولس عطية- دراسات في علم اللاهوت ص 23، 24.

(6) الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 60.

(7) المرجع السابق ص 60.

(8) الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 61.

(9) المرجع السابق ص 62.

(10) المرجع السابق ص 62.

(11) ريشار وورمبلاند- العذاب الأحمر ص 123، 124.

(12) القمص بولس عطية- دراسات في علم اللاهوت ص 15.

(13) نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي- الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 37.

(14) الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 33- 37.

(15) القمص بولس عطية- دراسات في علم اللاهوت ص 11.

(16) الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي- الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 67.

(17) الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي- الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 64.

(18) الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي- الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 66.

(19) المرجع السابق ص 66، 67.

(20) العذاب الأحمر ص 133- 134.

(21) نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي- الإلحاد المعاصر وكيف نجابهه ص 33.

(22) القس انجيلوس جرجس- وجود الله وصور الإلحاد ص 48.

(23) المرجع السابق ص 80.

(24) أورده القمص تادرس يعقوب- تفسير سفر التكوين ص 54.

(25) القس انجيلوس جرجس- وجود الله وصور الإلحاد ص 79.

(26) ريشار وورمبلاند- العذاب الأحمر ص 124، 125.

(27) القس انجيلوس جرجس- وجود الله وصور الإلحاد ص 38، 39.

(28) المرجع السابق ص 38.

(29) جريدة وطني 27/4/2003 القيامة والعلم (1) ص 4.

(30) ريشار وورمبلاند- العذاب الأحمر ص 12.

(31) راجع القمص بولس عطية- دراسات في علم اللاهوت ص 58.

(32) راجع علم الأحياء للثانوية العامة 2002/ 2003 ص 284- 286.

(33) راجع القمص بولس عطية- دراسات في علم اللاهوت ص 28، 29.

(34) كوستي بندلي- الإله الإلحاد المعاصر ص 51.

(35) أورده القس انجيلوس جرجس – وجود الله وصور الإلحاد ص 30.

(36) المرجع السابق ص 30.

(37) القمص بولس عطية – دراسات في علم اللاهوت ص 29.

(38) القس انجيلوس جرجس – وجود الله وصور الإلحاد ص 78.

(39) ريشار وورمبرلد – العذاب الأحمر ص 90.

(40) ريشار وورمبرلد – العذاب الأحمر ص 19.

(41) المرجع السابق ص 125.

(42) الاعترافات كتاب 1 فصل 1.

(43) الإلحاد المعاصر وكيف تجابهه ص 27.

(44) القس انجيلوس جرجس-وجود الله وصور الإلحاد ص 97.

(45) المرجع السابق ص 96، 97.

(46) القس انجيلوس جرجس-وجود الله وصور الإلحاد ص 76.

(47) المرجع السابق ص 99.

(48) ريشار وورمبرلد – العذاب الأحمر ص 118.

(49) المرجع السابق ص 127.

(50) المرجع السابق ص 126.

(51) أريل البردويل – صوت من الأنقاض ص 74، 75.

(52) القص انجيلوس جرجس – وجود الله وصور الإلحاد ص 76.

(53) العذاب الأحمر ص 138.

(54) المرجع السابق ص 76.

(55) راجع كتابنا: أسئلة حول صحة الكتاب المقدس – طبعة ثانية ص 194 – 199.

(56) ص 404، 425.

(57) ابريل البردويل – صوت من الأنقاض ص 54.

(58) ريشار وورمبرلد – العذاب الأحمر ص 132.

(59) العذاب الأحمر ص 183، 184.

(60) العذاب الأحمر ص 187، 188.

(61) العذاب الأحمر ص 69.

(62) المرجع السابق ص 72.

(63) العذاب الأحمر ص 55.

(64) ريشار وورمبراند – العذاب الأحمر ص 140.

(65) العذاب الأحمر ص 41-43.

(66) راجع العذاب الأحمر ص 46، 47.

(67) العذاب الأحمر ص 49، 50.

(68) المرجع السابق ص 60.

(69) العذاب الأحمر ص 58، 59.

(70) العذاب الأحمر ص 170، 171.

(71) العذاب الأحمر ص191-194.

(72) العذاب الأحمر ص 146، 147.

(73) المرجع السابق ص 107.

(74) المرجع السابق ص 121، 122.

 

الأدلة الدامغة على ضلال مدرسة الإلحاديين

Exit mobile version