أعيادنا الحية – الأسرار (الجزء الثاني) القداس الإلهي
للرجوع للجزء الأول أضغط هنا.
الجزء الثاني – تابع تمهيد
(2) القداس الإلهي
فالرب بنفسه قال عن كل من يتناول من هذا السرّ العظيم [ من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الأخير ] (يوحنا 6: 54)، فالإفخارستيا تعمل في داخلنا للحياة الأبدية حسب عمل استطاعته [ الذي سيُغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته ] (فيلبي 3: 21)؛ ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [ هذا الخبز المقدس الذي يوزع لغذاء النفس. هذا الخبز لا ينزل إلى الجوف، ولا يُدفع إلى المخرج (متى 15: 17). ولكنه يتوزع على كل بنيتك لفائدة النفس والجسد ] (عظة 23: 15).
فالجذر هو الدخول إلى شركة الطبيعة الإلهية، أي الدخول في برّ المسيح الرب وطهارته ووداعته، أي هي لبس المسيح الرب بمعنى أدق، والاتحاد به اتحاداً سرياً حقيقياً بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، وهو دخول سري على مستوى عمل الروح القدس الذي يُغيرنا إليه، ويجعلنا هيكل خاص لحلوله فينا، وبذلك يجعلنا نرتديه ونتشح به، ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [ وإذ أنت تشترك في جسد المسيح ودمه، تُصبح جسداً واحداً ودماً واحداً مع المسيح. وهكذا نُصبح نحن حاملي المسيح، بما أن جسده ودمه ينتشران في أعضاءنا. وبهذه الكيفية نُصبح على حد تعبير الطوباوي بطرس “شركاء الطبيعة الإلهية” (2بطرس 1: 4) ] (من عظات القديس كيرلس الأورشليمي)
[ إننا لا نشترك في جسد إنسان بل نتناول جسد الكلمة نفسه ] (رسالة 2: 1)
[ يا أحبائي إننا لا نقترب من عيد أرضي بل عيد سماوي وأبدي. ولا نرى شيئاً من الظلال بل الحقيقة… أما نحن فإننا من الآن نأكل من الكلمة الذي من الآب، وتُدهن أعتاب قلوبنا وتُختَم بدم العهد الجديد ] (رسالة 4: 3)
[ أننا نأكل طعام الحياة، ونعطش دائماً لكي تمتلئ نفوسنا بالشبع من ينبوع دمه الكريم ] (رسالة 5: 1)
[ لنستعد لكي نقترب من الحمل الإلهي، ولكي نلمس الطعام السماوي ] (رسالة 5: 5)
ويقول القديس إيرينيئوس: [ عندما ينال الكأس الممزوج والخبز المصنوع، كلمة الله، تصير الإفخارستيا جسد ودم المسيح، ومنها يتغذى ويحيا جسدنا وينمو. كيف إذن يؤكدون (الهراطقة) أن الجسد غير قابل على تقبل عطية الله التي هي الحياة الأبدية، وهو الذي تغذى من جسد ودم الرب، والذي هو دمه ونال نمواً من الخبز الذي هو جسده ]
ويقول أيضاً: [ والآن كيف يقولون أن الجسد يمضي إلى الفساد ولا يتشارك في الحياة، وهو الذي تغذى بجسد الرب ودمه، إما أن يُغيروا رأيهم أو يكفوا عن تقديم التقدمات… الإفخارستيا تؤكد رأينا، ونحن نُقدم لهُ مما لهُ مُعلنين شركتنا ووحدتنا، معترفين بقيامة الجسد والروح، لأنه كما أن الخبز الذي من الأرض، بعد أن ينال استدعاء الله، لا يعود بعد خبزاً عادياً، بل يصير إفخارستيا مكونة من عُنصرين، أرضي وسماوي، كذلك أيضاً أجسادنا، باشتراكها في الإفخارستيا لا تعود قابلة للفساد Corruptible بعد أن نالت رجاء القيامة الأبدية]
إننا باقترابنا من المائدة الإلهية – ليس فقط نتحد بالله – بل نتحد بعضنا ببعض، فعندما يُريد البشر التعبير عن اتحادهم أو توطيد علاقتهم، يجتمعون حول مائدة واحدة لتناول الطعام سوياً، هكذا المؤمنون – مع الفارق – يتحدون بعضهم ببعض ويصبحون جسداً واحداً عندما يتناولون كلهم من المائدة الإلهية الواحدة: [ فإننا نحن الكثيرين خُبزٌ واحد، جسد واحد، لأننا جميعُنا نشترك في الخبز الواحد ]، لذلك يا إخوتي لأن هناك خُبز واحد حي نازل من السماء للحياة، ونحن بالرغم من إننا كثيرين نصير جسد واحد، وذلك لأننا جميعاً نشترك في هذا الخبز الواحد، لأن بالاتحاد بشخص الكلمة المتجسد ربنا يسوع المسيح، نصير واحداً فيه على المستوى العملي والفعلي في حياتنا: [ أما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتي إليك، أيها الآب القدوس أحفظهم في اسمك، الذين اعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن ] (يوحنا 17: 11)، [ وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد ] (يوحنا 17: 22)، [ أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم إنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني ] (يوحنا 17: 23)، [ وعرفتهم اسمك وسأُعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم ] (يوحنا 17: 26).
وعلينا أن نحذر من أن نفهم اتحادنا ببعضنا البعض بسبب الإفخارستيا وإننا جسد المسيح السري ككنيسة، أن هناك انقساماً بين جسد المسيح الشخصي وجسده على المذبح ووجوده في السماء عن يمين الآب، ونحن كأعضاء فيه من لحمه وعظامه، ونقسم المسيح الرب الواحد لعدة أجساد، معنوية ومادية وروحية.. الخ، واحد في السماء يختلف عن ما هو على المذبح أو يختلف عن الكنيسة، لأن ليس للمسيح الرب جسدان وليس له تعدديه، لأن هذا يخضع للفكر البشري الضعيف، وفي نفس ذات الوقت ليس بكوننا جسد المسيح السري معناها إننا ناكل بعضنا البعض على المذبح، لأن الأساس هو أن جسد الرب الذي على المذبح هو الذي يجعلنا كنيسة وليس العكس، لأننا لسنا نحن من يصنع للمسيح جسد، بل هو الذي يجمعنا ويوحدنا به، لأنه يسكن في كل واحد فينا ويجمعنا إلى واحد في شخصه الحي، وحينما ندخل في إطار الشرح العقلي ونخضع السرّ للعقل نتعثر ونقسم المسيح الرب الواحد بعدة أجساد ونضعه تحت نظريات وأفكار كثيرة ومنقسمة، فنخرج خارج السرّ الإلهي وندخل في المباحثات السخيفة التي تجلب خصومات وانشقاقات لا حصر لها، ونُقسم جسد المسيح الواحد بسبب رأي وفكر كل واحد …
وتقول الديداكي [ كما أن هذا الخبز المكسور، كان مرة مبعثراً على التلال، وقد جُمع ليصير (خبزاً) واحداً، كذلك أجمع كنيستك من أقاصي الأرض في ملكوتك. لك المجد والسلطان بيسوع المسيح أبد الدهور ]
ويقول الأسقف سرابيون في الخولاجي: [ وكما أن عناصر هذا الخبز، كانت فيما مضى، قد بُعثرت مرة على الجبال، قد جُمعت معاً وصارت واحداً، كذلك ابنِ كنيستك المقدسة من كل أمة ومدينة وبلد وقرية وبيت، أجعل منها كنيسة واحدة حية جامعة ]
وفي خولاجي دير بلوزة بأسيوط يقول: [ وكما أنتثر هذا الخبز على الجبال والتلال وفي الوديان (بصورة زرع – القمح ) وجُمِعَ ليصير جسداً واحداً. وكذلك هذا الخبز نبع من كرامة داود المقدسة، وهذا الماء ينبع عن الحمل الذي بلا دنس، ممتزجين وصائرين سراً واحداً، هكذا أجمع كنيسة يسوع المسيح الجامعة ]
وهنا نرى بوضح أن الوحدة التي تتم بين المؤمنين بالمناولة المقدسة، ترمز إليها مادة السرّ نفسها، فالخبز الذي تحوَّل إلى جسد المسيح، مؤلف من حبوب كثيرة من الحنطة أو القمح، اندمجت كلها لتؤلف وحدة واحدة، وكذلك الخمر التي تتحول إلى دمه بالسرّ، عُصارة حبات كثيرة وعديدة من العنب.
عموماً، يأتي المؤمنون إلى كنيسة الله وهم متفرقين، ينتمون إلى بيئات مختلفة ومتعددة، ولكن عندما يتحدون بالمسيح الرب الواحد الذي تجسد وصُلب [ ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد ] (يوحنا 11: 52)، يتحدون معاً عندئذٍ ويصيرون كنيسة واحدة لراعٍ واحد، إذ أنهم لا يصيروا أفراداً مستقلين كل واحد يحيا مبتوراً عن الآخر ووحدته معه صورية شكلية معنوية، بل يصيروا في شركة حقيقية في جسد واحد غير منقسم او منفصل، أي يصيرون شعباً لله واحداً في هيكل الرب الجديد الذي هو جسد المسيح يسوع الذي سيجمع كل الشعوب: [ ويرفع راية للأمم، ويجمع منفيَّي إسرائيل، ويضُم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض ] (أشعياء 11: 12)
وفي الجزء القادم سنتكلم عن خلاصة ما تكلمنا فيه عن القداس الإلهي