الجزء الأول – تمهيد
(1) الأسرار
1 – الأسرار
الأسرار هي أعيادنا التي نحتفل فيها بلقاء العريس السماوي، ونحيا معه في حضوره الخاص والشخصي بملء مجده، فيشع علينا نور وجهه، فنمتلئ من حضوره ونتغير إليه: [ أما أنا فبالبرّ اُشاهد وجهك، سأمتلئ حتى الشبع بظهور مجدك ] (مزمور 17: 15 ترجمة سبعينية)؛ [ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كورنثوس 4: 6)، [ ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد الى مجد كما من الرب الروح ] (2كورنثوس 3: 18).
إن الأسرار هي طرق متنوعة نحيا فيها مختلف أبعاد السرّ الفصحي، وندخل في سرّ البصخة المقدسة، أي سرّ عبور الرب يسوع من الموت إلى الحياة، فنلج إلى أعماق هذا السرّ العظيم، لنعبُر نحن أيضاً مع المسيح الرب من الموت إلى الحياة، وهذه هي حياة، أي خبرة العبور من الموت إلى الحياة في حياتنا اليومية على المستوى العملي الواقعي المُعاش، لأن ما هي فائدة أني أعرف أن الرب قام من الأموات وانتصر على الموت، وأنا لم أذق هذه الخبرة بل هي مجرد فكرة أتكلم وأعظ بها، ولكنها بعيدة عني تماماً !!!
عموماً يا إخوتي الله دائماً يكلمنا بالأسرار كإعلانات وإشراقة حياة خاصه على النفس التي تغيرت واحبت الله، والأسرار بطبيعتها هيَّ الأبواب المنفتحة على السماويات عينها، أعني الأسرار الكنسية، فلها قيمة أسمى وفائدة أجلَّ مما لأبواب الفردوس. أبواب الفردوس تنفتح أمام أولئك الذين يلجون أبواب الأسرار أولاً، وأبواب الأسرار انفتحت عندما كانت أبواب الفردوس مغلقة. انفتحت أبواب الفردوس مرة أمام الإنسان وهو في حالة من عدم الفساد، إذ أن نعمة الله هي كساء نفسه الخاص، ولكنها انغلقت في وجهه، إذ طُرد منها بسبب أن طبعه تغير فاقداً كساءه الخاص وهي النعمة، صانعاً لنفسه مآزر من أوراق، ثم أعطاه الله كساءً من جلد الذي هو صار إشارة للناموس الذي أدبه وشذبه للمسيح، ولم تستطع أن تستر عورته، أو تعيده لشركة الحياة في النور، فانغلقت أبواب الفردوس في وجهه تاركه خارجاً كل ما هو من الظلمة وقوات الظلام، أما الأسرار، وهي الأبواب السرية الجديدة، فأنها تُدخل ولا تُخرج أحداً قط، إلا الذي يرفضها صانعاً لنفسه أغطية خاصة أو يتمسك بما هو غير نافع أو بأشباه السماويات ويظن أنها الأبواب الحقيقية لملكوت الله !!!
فقد كان من الممكن أن تظل أبواب الفردوس مقفلة، ولكن قام الرب يسوع وأقامنا معه وفتح لنا باب الفردوس من جديد، وأعطانا ونحن على الأرض أن نعلو إليها وندخل عن طريق الأسرار التي بها لم يعد هناك حجاب وحائط متوسط، لأن الحجاب انشق والحائط الحاجز بيننا وبين الله انهدم، ولم يعد بالإمكان أن يُقام حاجز آخر أو يوجد جداراً يفصل بين الله والإنسان، إلا لو صنع للإنسان لنفسه جداراً وهمياً من أفكاره الخاصة أو أعماله الشخصية، فيحجب بينه وبين الله.
- يا إخوتي بمعمودية ربنا يسوع وبموته وقيامته لم تنفتح السماء فحسب، بل انشقت كما يقول مرقس ولوقا الإنجيلي ليبرهن أنه لم يعد، بل ولم يبقى أمام الداخلين لا باب ولا حجاب طالما هم اعتمدوا مع وفي المسيح يسوع وقاموا معه: [ وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلاً عليه ] (مرقس 1: 10)، [ واظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه ] (لوقا 23: 45)، [ لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح (أو في بمعنى أدق) قد لبستم المسيح ] (غلاطية 3: 27)، [ وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع ] (أفسس 2: 6).
فالمسيح الرب قد صالح الكل في نفسه وجعل الكل واحداً فيه: [ أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة ] (2كورنثوس 5: 19)، فالمسيح الرب وطد السلام وجعل الاثنين واحداً: [ لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط ] (أفسس 2: 14).
أن أبواب الفردوس يا إخوتي، التي كانت في الأصل مفتوحة لآدم في البدء أُقفلت بالتمام، لأن العدل يقتضي أن تُقفل وتُغلق طالما أن آدم لم يُرد أن يبقى في حالة البراءة التي مُنحها عندما خرج من يد الخالق، لأنه نال نعمة خاصة في الخلق، إذ وضعت فيه صورة الله ومثاله واكتسى بمجد خاص يحفظه من أن يعود لما أُخذ منه وهو تراب الأرض الذي يُعبر عن العدم والزوال، وبالطبع أُغلقت أمامنا نحن بالضرورة، لأن على مر التاريخ الإنسان كله، اثبت أن ليس آدم وحده هو المسئول فقط عن غلق الفردوس، بل كل إنسان على حده، لأنه لم يُقدرّ قيمة أن يحفظ عطية الله، لأن على مر التاريخ الإنساني كله ليس هُناك من يعمل صلاحاً، بل أُغلق على الجميع في العصيان، وليس بار ولا واحد، وبار يعني بريء، أي إذا وقف في فحص القضاء أمام الله الحي يوجد بريء من أي شائبة، ولكن من استطاع على مر التاريخ الإنساني كله بأن يقف يتحاجج أمام الله ويقول أفحصني ستجدني بريء، فيجتاز كل فحص داخلي في أعماق نفسه ويخرج بريئاً تماماً !!! فمن يستطيع أن يقول قول الرب على نفسه [ من منكم يبكتني (يلومني لأنه يفحصني بدقة وتفصيل ووجد شيء واحد فقط يستحق الملامة) على خطية ] (يوحنا 8: 46) !!!
هذه الأبواب المقفلة والمغلقة (أبواب الفردوس) في وجه الإنسان الساقط العريان من نعمة الله، والفاقد الحياة، الذي ملك عليه الموت وتفشى الفساد في كيانه كله، فتحها المسيح الرب، الكلمة المتجسد، فتحها بنفسه، هذا الذي لم [ يفعل خطية واحدة ] (1بطرس 2: 22)، وعدله إلى دهر الداهرين (مزمور 9: 3)، لأن طالما تمم كل مشيئة الآب من جهة أنه صار في الجسد، وهو إنسان، أي وهو متحد بطبعنا الإنساني، أي تمم كل ما هو مرضي لله في جسم بشريته (أي جسم بشريتنا المتحد به حسب التدبير)، وأطاع الآب حتى الموت موت الصليب، وهذا عوض العصيان، لأن في المسيح الرب، الله الكلمة المتجسد، صارت البشرية طاهرة ونقية وبلا لوم، لأنه تمم ووفى كل ما عليها ببراءة تامة، حاملاً كل دينونتها، حتى أن كل من يؤمن به ويعتمد لموته ويقوم معه يدخل في سر براءته الخاصة ليدخل معه الفردوس [ اليوم تكون معي في الفردوس ] وهذا ليس للص الذي صرخ إليه بإيمان [ أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك ]، بل لكل من يؤمن عبر الدهور كلها ليوم استعلان مجده في الزمان الأخير …
- المسيح يا إخوتي فتح أبواب الفردوس، ومن الضروري أن تبقى مفتوحة وأن تدخل كل المنتسبين إليه، لا شكلاً إنما فعلاً وجوهر، أي كل مسيحي حقيقي، يدخل إلى الحياة الأبدية، ولا خوف من السقوط والتعثر في الطريق المؤدي للحياة، كما سقط آدم فطُرد، هذا الذي فقد الفردوس الأرضي لأن المُخلِّص يقول: [ أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل ] (يوحنا 10: 10).
فالحياة التي حملها السيد الرب تُعطى لنا بواسطة الأسرار التي نُصبح بها شركاء في الآلام والموت معه، لذلك فمن لا يشترك في الأسرار لا يتمكن من الهرب من الموت الروحي والنمو في البرّ [ برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق ] (رومية 3: 22)، فالذين لم يعتمدوا ولم يتناولوا جسد ودم المسيح رب الحياة، لا يستطيعون أن يرثوا الحياة الأبدية، وهذا ليس قانون تعسفي، بل لأن الحياة هي في المسيح، لذلك ينبغي أن نلبس هذه الحياة كرداء نكتسي به [ تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم انك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان ] (رؤية 3: 17)، [ ها أنا آتي كلص (مثل لص) طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشي عرياناً فيروا عريته ] (رؤيا 16: 15)؛ لذلك يقول الرسول: [ لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح ( في المسيح ) قد لبستم المسيح ] (غلاطية 3: 27)، [ ألبسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات ] (رومية 13: 14)…
وفي الجزء القادم سنتكلم عن القداس الإلهي